هزّت ليريبل ذراع كاسروسيان بعنف وهي تبكي، كأنّها تريد أن تُخرج من قلبها ما علق فيه من وجع.
“لكن على الأقل… على الأقل كان عليكَ أن تمنحني فرصةً لأُدافع عن نفسي. أكنتَ ترى أنّ امرأةً ذات ماضٍ لا يستحقّ حتى سماع تبريرها؟ أكنتَ لا تريد حتى الحديث معي؟”
“مَه… مهلًا.”
“رتّبتَ مشاعرك وحدكَ… وتركتني.”
كانت دموعها تنهمر بعنف حتى لم تعد ترى أمامها بوضوح.
أحسّت ليريبل بالمهانة من نفسها، من ضعفها، ومن بكائها الذي لا يتوقّف.
فأفلتت ذراع كاسروسيان التي كانت تهزّها، ومدّت يديها تمسح دموعها في يأس.
“ليريبل.”
لكن كاسروسيان أسرع يمسك بيديها قبل أن تفلت منه أكثر.
لم يكن لدى ليريبل قوّة لتنتزع يدها من قبضته، فاكتفت بمسح عينيها باليد الأخرى غير الممسوكة.
“تمهّلي، لا تمسحي هكذا… ستؤذي عينيكِ.”
ومهما حاولت تجفيف دموعها، عادت تتفجّر من جديد بلا توقف.
لماذا كان هذا الرجل طيّبًا بلا داعٍ؟
لماذا يتحدّث بلطف… وهو يكرهها؟
لماذا يقول كلامًا دافئًا… وهو لا يريد رؤيتها ثانية؟
“كنتِ تعلمين أنّني أعرف ماضيكِ… أليس كذلك؟”
سألها كاسروسيان بصوت هادئ، لكن سؤالَه وحده كان كافيًا ليُفجّر دموعها من جديد.
يبدو أنّ غدد دموعها قد تعطّلت تمامًا.
“كيف لا أعرف؟ أنت… أنتَ….”
لقد كان واضحًا جدًا.
عضّت ليريبل شفتها، وانحنى رأسها بخجل وحرج.
“آسفة… آسفة لأنّني أحببتكَ. تجاهل الأمر فقط… وكأنّني لم أقل شيئًا.”
وحاولت نزع يدها من قبضته لتغادر.
كانت تنوي الذهاب إلى جناح الإمبراطورة الأرملة، توضّب أمتعتها، ثم تخرج من القصر الإمبراطوري كلّه.
كانت تشعر بالخزي الشديد… لدرجة أنّها لم تستطع تخيّل مواجهة كاسروسيان مرة أخرى.
وربّما كان هذا أفضل له.
فهي ستختفي من تلقاء نفسها.
“لا.”
لكن كاسروسيان لم يُفلت يدها.
بل على العكس… جذب يدها نحوه وضمّها إلى صدره.
“كيف أتظاهر بأنّي لم أسمع؟”
دفن وجهه في كتفها وقال بصوت خافت، كأنّه يهمس لها وحدها.
“وأنا أيضًا… أحبّكِ.”
“……!”
كان يعرف تمامًا أنّ قولها “أحبّكَ” لم يكن مجرّد إعجابٍ عابر.
كان يعرف أنّها تعني الحبّ الحقيقي، ولهذا فقط… أدرك مشاعره.
أدرك ندمه على جرحها.
أدرك خوفه من إيذائها مرة أخرى، ولو بكلمة.
أدرك سبب حذره، وسبب تردّده، وسبب محاولته الدائمة حماية قلبها.
وأدرك أيضًا… أنّه يريد أن يبقى معها إلى الأبد.
نعم.
لقد كان يفعل كلّ ذلك… لأنّه يحبّها.
“آسف.”
قالها بصوت خافت، لأنه لم يُدرك مشاعره قبل الآن، ولأنه جعلها تبكي.
“آسف.”
كان اعتذارًا بسيطًا… لكنه لم يجد غيره.
“أنا لا أكرهكِ. ولا أزدريكِ.”
“…….”
“لكنني… لم أفهم كلّ شيء بعد. وخِفتُ… خِفتُ أن أقترب منكِ قبل أن أتأكد، فأجرحكِ أكثر. آسف.”
“……لهذا أبعدتَ نفسك عنّي؟”
“نعم. آسف.”
كان عليه أن يخبرها بكل شيء منذ البداية.
حتى لو أدّى ذلك إلى خلاف… أو إلى صدام… وحتى لو ابتعدا لبعض الوقت.
كان عليهما مواجهة ذلك معًا.
فربّما لم تكن لتعيش كل ذلك العذاب وحدها.
“……لستُ قطعة زجاج.”
رفع كاسروسيان حاجبيه قليلًا، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة حين سمع صوتها المتعب من داخل حضنه.
كانت ليريبل إنسانة قوية.
حتى لو كانت قد مشت طوال حياتها فوق أشواكٍ لا تُحصى.
كانت دائمًا… تمضي إلى الأمام.
كان يحبّها… ومع ذلك لم يدرك قوّتها، وظنّ أنّه وحده القادر على حمايتها، فسبّب لها الألم.
لأنّه كان شخصًا غير ناضج.
لأنّه عاش عمره بلا فهم… وبلا محاولة للنضج.
“آسف.”
لم تكن حياته بلا أخطاء.
لكنّه كان يعيش راضيًا… بلا رغبة في التغيير.
حتى جاء اليوم الذي التقاها فيه… ووجد نفسه يندم لأول مرة.
* * *
حين وُلد كاسروسيان.
ظنّ كل من في غرفة الولادة أنّ كاميلّا ستموت.
فقد مرّ يومٌ كامل منذ بدء آلامها.
وكانت الدماء تفيض على الأغطية كأنّها نهر.
وطلبوا من المعبد مرارًا ماءً مقدّسًا، لكن الإجابة لم تأتِ قط.
كان واضحًا أنّ الأمر من تدبير الإمبراطورة أوكتافيا.
كانت تريد موت كاميلّا أثناء الولادة… ويفضّل أن يموت الطفل معها.
المولدات والخادمات والأطباء اعتبروا موت كاميلّا أمرًا محسومًا، وكل ما كان يشغلهم هو ما إن كان وليّ العهد سيعيش أم لا.
“الـ… الرأس!”
ظهر رأس الطفل فجأة، في اللحظة نفسها التي كانوا يناقشون فيها اللجوء إلى جراحة بدائية لشقّ بطن الأم.
كانت الجراحة في ذلك الزمن تعني التضحية بالأم… لإنقاذ الطفل فقط.
“آآآااااخ!”
صرخت كاميلّا من جديد، بعد أن صرخت يومًا كاملًا حتى بحّ صوتها.
“آااااخ!”
كانت تسمع الأصوات المشجّعة حولها، لكن كل شيء كان يصل إلى أذنيها وكأنه طنين بعيد.
‘إن متُّ… فماذا سيحلّ بهذا الطفل؟’
إن بقيت الإمبراطورة أوكتافيا، فستقتل الطفل بلا تردّد.
أما الإمبراطور الضعيف… فلن يحميه مهما حصل.
فكرت كاميلّا وهي تغرق في الألم… بأنّ موتها مع الطفل ربّما يكون أفضل من تركه لقدرٍ كهذا.
“أُغ… أغغ…!”
ومع ذلك، ولد الطفل.
لم يكن لها أيّ قوّة لمنعه من الخروج.
“نيدرا…”
نادَت خادمتها بصوتٍ يحتضر.
كانت تعلم أنّ حياتها أوشكت على النهاية.
أرادت أن تطلب من نيدرا… أن تُنهي حياة الطفل قبل أن يقع بين أيدي الإمبراطورة.
لكن في تلك اللحظة…
“……!”
غطّى نورٌ ساطع غرفة الولادة.
نور قويّ… لكنه لم يُؤذِ العيون.
كان دافئًا… طاهرًا… كحضن إلهي.
‘أه… لقد عدتُ إلى إلهي.’
ابتسمت كاميلّا بضعف، وظنّت أنّها ماتت.
فالألم الذي كان يمزّق جسدها اختفى بلحظة.
لكن حين خَبَا النور…
شعرت بأنّها على قيد الحياة.
بل إنّ جسدها… قد تعافى تمامًا.
“الـ… الأمير…!”
كان الجميع يحدّق في الطفل الذي تحمله القابلة.
كانت عيونهم مليئة بالذهول… والرهبة.
“لقد أطلق جلالته… قوّةً إلهيّة!”
صرخ الطبيب وهو يبكي، وقد عرف فورًا ما يعنيه ذلك.
“…….”
حدّقت كاميلّا في طفلها.
كان ذا شعرٍ جميل وغزير… بلونٍ أحمرٍ ذهبي.
لون العائلة الإمبراطورية.
“سيّدتي كاميلّا!”
صرخت نيدرا حين رأت كاميلّا تقف على قدميها وقد استعادت لون شفتيها الأحمر، كأنّها لم تتألم قط.
“اذهبي… نادي السيّدة أماندا.”
خرج كلام كاميلّا ببرودٍ مرعب.
“واقتلي الجميع.”
كان الدم الجافّ يلطّخ شفتيها المقروحتين، مما جعل كلماتها أكثر رعبًا.
فابنها… يمتلك لون الشعر الإمبراطوري، والقوّة الإلهيّة التي قاربت على الاختفاء من السلالة الملكية.
لا يمكن السماح لأحدٍ بحمل هذا السرّ.
لو كان ابن الإمبراطورة الشرعية وحدها، لكان الأمر مختلفًا.
لكن هناك وليّ عهد شرعي… قوي… ومن سلالة الإمبراطورة.
وخروج هذا السرّ يعني موت طفلها لا محالة.
ولن تسمح كاميلّا بذلك.
“مولاتي!”
صرخ مَن فهموا أوامرها متأخرين.
لكن كاميلّا انتزعت الطفل من القابلة بلا خوف.
ثم دخلت أماندا، وبعدها… عاد كلّ من في الغرفة إلى حضن الإله.
لم ينجُ أحد… سوى قلّة من الذين تثق بهم كاميلّا.
وخلال ساعات قليلة… اختفت عشرات الأرواح.
“ماذا أفعل… بهذا الأمر.”
كانت كاميلّا تحتضن طفلها… وتربّته بخفة لتهدئته.
ظنّت أنّه لا يدرك ما يحدث حوله.
لكن كاسروسيان… شعر بكل شيء.
بقوّته التي فاضت منه منذ ولادته، استطاع أن يشعر بانطفاء الأرواح واحدة تلو الأخرى… حتى قبل أن يعي ما هو الإدراك أصلًا.
التعليقات لهذا الفصل " 137"