“حسنًا.”
نعم. إن كان هذا ما تريدينه فسأُعيدك.
“يكفيكِ أن تكوني قد دلّلتِ بريسيلا قليلًا، وجلستِ ـ ولو للحظة ـ في مقعد سيّدة هذا البيت، فذلك وحده فضلٌ ينبغي أن تقدّريه.”
“إن لم يكن لكِ مكانٌ تذهبين إليه بعد أن تغادري، فسأقدّم لكِ المساعدة.”
إلى ذاك المكان. ذاك الذي طردتني منه شرّ طردة.
“فلتتذكّري جيّدًا أنّك إن خرجتِ من هنا دون أن تنالي فلسًا واحدًا، فذلك ليس ذنبي، بل هو نتيجة طباعكِ السيّئة التي جرّت عليكِ هذا المصير.”
“إردان لا يرغب في العيش مع زوجته، لذا أرجوكِ أطلقي سراحه.”
سأُسقطكم بالطريقة ذاتها التي أسقطتموني بها.
“فما رأيك؟ هل تركعين أوّلًا، وتخفضين رأسكِ إلى الأرض؟”
لكن الأمر أنّ رقبتكِ ما تزال مرفوعة. وذلك يُزعجني كثيرًا.
يبدو أنّ عليّ أن أكسر تلك الرقبة كي يهدأ خاطري.
“…ماذا؟”
في تلك اللحظة تجمّد وجه إردان الذي كان يبتسم لكاسروسيان ابتسامة المنتصر.
تأكّد حدسي. فإردان لم يطق رؤية كاسروسيان يأخذني.
كان يريد أن ينتزعني منه ليبرهن ـ على حساب كاسروسيان ـ أنّه أفضل منه، أقوى، وأرفع شأنًا. ذاك الاعتقاد الذي عاش عمره كلّه يؤمن به دون شكّ.
“لا أريد أن أعود دون أن أسمع كلمة اعتذار واحدة.”
ابتسمتُ له وأنا أتابع حديثي.
“إن زحفتَ على ركبتيكِ وتضرّعتَ، سأفكّر بالأمر. أو… هل تُريد أن تمشي على أربع وتنبِح قليلًا؟”
ليس عليّ الإمساك بيدكِ كي أعود، فلدَيّ ألف طريقة للانتقام. لكن هل عليَّ مواصلة النظر إلى تلك الرقبة المرفوعة؟
“…….”
حدّق فيّ لحظةً بذهول، ثم انكمش وجهه غضبًا.
ومن خلف أسنانه المضغوطة تسلّلت حفيفات صريرٍ خافتة.
وحين رأيتُ ذلك، فتحتُ شفتيّ.
“أوراق الفسخ.”
ما إن نطقتُ بها، حتى شحب وجه إردان شيئًا فشيئًا.
“لقد تنازلت لي السيّدة بريسيلا عنها.”
ابتسمتُ له ابتسامة جانبية.
لستُ بحاجةٍ إلى أن أمسك بيدك. لكن بما أنّني عائدة، فليتك كنتَ تركع وتتوسّل أمامي قبل ذلك.
“إن خطر لك أن تركع، فتعال إليّ من جديد.”
سخرتُ منه وهو متجمّد كالأبله، ثم استدرت. أما كاسروسيان فقد تقدّم فورًا ليُرافقني.
—
حتى وصلنا إلى حدائق القصر الإمبراطوري بقي كاسروسيان صامتًا وهو يرافق ليريبيل.
لم يفتح فمه إلا حين وصلا إلى موضعٍ لا يمكن لإردان أن يراهما فيه.
“أعتذر لتدخّلي.”
“لا، لا بأس.”
أجابت ليريبيل وهي تُميل رأسها قليلًا.
كان كاسروسيان يطيل النظر إلى شعرها الأحمر المستدير، قبل أن يحرّك شفتيه بتردّد.
بعد أن فُتحت شفتاه وأُغلقتا مرّات عدّة، نطق أخيرًا بصوت خافت:
“هل تشربين فنجان شاي معي؟”
رفعت ليريبيل رأسها. وما إن التقت عيناهما، حتى ابتسم هو ابتسامة خفيفة.
“حين تضع جدارًا بينك وبين ليريبيل دون أن تقول شيئًا، فكيف تظنّ أنّ ليريبيل ـ التي لا تعلم شيئًا ـ ستشعر الآن؟”
“القلق على أحدٍ لا يُسمّى لطفًا إن لم تُراعِ شعوره.”
بعد حديثه مع كاميلا، أدرك كاسروسيان خطأه بوضوح.
رغبته في ألا يُؤذي ليريبيل جعلته ـ في المفارقة ـ يُؤذيها.
لأنّه ليس معتادًا على الآخرين، ولأنّه عاش عمره يستغلّهم ويسيطر عليهم، فقد كان أخرق في أن يُقدّر أحدًا بصدق.
‘أُريد أن أخبرها بالحقيقة كلّها… وأن أعتذر.’
حاول أن يكبح مرارة صامتة وهو يلتقي بعينيها.
كان قد ذهب إليها ليقول لها كل شيء: أنّه ـ حين علم بفقدانها الذاكرة ـ حاول مساعدتها بالبحث في ماضيها، لكنّه انتهى باتهامها في نفسه.
أنّه لم يستطع الوثوق بها، وأنه شعر بخذلانٍ مُبهم.
وأنّه احتاج وقتًا ليُرتّب مشاعره تلك، لئلّا يُؤذيها بها.
وأنّه أدرك أنّه بذلك قد آذاها أكثر.
لكن حين رآها نائمة بهدوء، توقّف الكلام في حلقه.
هل عليه أن يُلقي فوق همّها بإردان عبءَ ماضيها المنسي أيضًا؟
هل يستطيع أن يُخبرها أنّه شكّ بها، فيجرحها لأجل المرّة الثالثة؟
كان واضحًا له أنّ الاعتراف سيُريحه هو فقط. لذا دفن كُل شيء، وأبقى لنفسه اعتذارًا لن يصلها.
“كنتُ مشغولًا مؤخرًا، ولم أجد وقتًا لأشرب الشاي مع الكونت.”
ابتسم كاسروسيان ابتسامته الهادئة المعتادة.
فما إن اختار أن يطوي الحقيقة، حتى زالت عنه كل مشاعر السوء تجاهها.
فالأهم ليس الماضي. بل الشخص الواقف أمامه الآن.
“لا شيء يدوم إلى الأبد. وعلاقات الناس… أقل ثباتًا من ذلك.”
“التماس الأبدية طمعٌ كبير يا كاسيان.”
لقد أدرك أنّه بدأ منذ زمنٍ طويل يحلم بأبديةٍ مع ليريبيل، أبدية مستحيلة.
سواء كانت ليريبيل تلك المرأة التي كانت سابقًا أو تغيّرت بعد استعادة ذاكرتها، فالأمر لم يعد يعنيه.
“إن خصّصتِ لي وقتًا…”
بدأ يقول ذلك وهو يحدّق فيها، فإذا بها تشدّ على ذراعه فجأة.
“…حسنًا.”
ثم بدأت تبكي.
تفاجأ كاسروسيان، وهمَّ أن ينطق اسمها، لكنها سبقته:
“أنا… أحبّك.”
اتّسعت عيناه بصدمة.
—
“هل تشربين فنجان شاي معي؟”
بهذه الكلمات، وتلك الابتسامة، شعرت ليريبيل بقلبها يهوي.
هذا… الأخير.
آخر مرّة يمنحها فيها بعض لطفه.
كان وجه كاسروسيان رقيقًا. وصوته دافئًا.
تمامًا كما كان قبل أن يخيب أمله من ماضٍ لم ترتكبه.
ورغم ذلك، راودها شعور غريب.
طوال الطريق إلى الحديقة، إن كان هو يفكر: كيف أتعامل معها بطبيعتي؟ فقد كانت هي تفكر: هل هذه آخر مرّة أراه فيها؟
لذا حين بدا كاسروسيان طبيعيًّا للغاية، ظنّت أنّه يتصرّف بهذه العصبيّة العذبة لأنّه ينوي إنهاء كل شيء معها برفق.
ولو وقف على يديه الآن، لظنّت أنّه يفعل ذلك أيضًا… كوداعٍ أخير.
‘ما الذي علي أن أفعله؟’
عضّت داخل خدّها.
لا تُريده أن يرحل.
كانت تريد أن تُصلح كل شيء. لكن بالنسبة إليه… هي امرأة ذات ماضٍ مشبوه. وأيّ كلمة منها ستبدو له كذبًا أو تبريرًا.
لن يصدّق شيئًا.
‘هذا آخر كل شيء.’
خالطت عينيها دموع لمرارة الوداع القسري.
وكان سبب ألمها الأقسى…
‘…لقد أحببته. أحببتُ هذا الرجل.’
أدركت ذلك أخيرًا.
ما تكنّه له لم يكن مجرد احترام إنساني. بل حبّ امرأة لرجل.
حبّ تسلّل بلا أن تشعر.
“…حسنًا.”
نطقت الكلمة بلا وعي حين أدركت الحقيقة.
إن كانت هذه آخر لحظة، وإن كانت كلماتها لن تغيّر شيئًا…
فلا تريد أن تُخلّف وراءها كلمات لا معنى لها.
“أحبّك.”
بوحت بحقيقتها.
كانت تعلم أنّها حمقاء. تعلم أنّ ذلك لا فائدة منه.
لكنّها لم تدرك سوءه إلا حين رأت وجه كاسروسيان يتجمّد.
“……”
دموعها انهمرت بغزارة. شدّت شفتيها وهي تفكّر بمرارة:
لقد تخلّص من امرأةٍ يكرهها، فإذا بهذه المرأة نفسها تُفاجئه باعترافٍ متهوّر بالحب.
‘لا بد أنه ازداد نفورًا. لا بد أنني صرتُ أقبح في نظره.’
غضبت.
لماذا حللتُ مكان ليريبيل؟ لماذا كذبتُ بشأن فقدانها الذاكرة؟ لماذا اعترفتُ الآن؟
“ليتك…”
الآن وقد انتهى كل شيء، وقد صار الوضع في أسوأ حالٍ ممكن…
“ليتك تغضب.”
بدأت تفرغ كل ما كبته قلبها، وهي تبكي بحرقة.
التعليقات لهذا الفصل " 136"