‘كاسروسيان…’
رغبتُ بشدّة أن أركض إليه، لأُشاركَه الذكريات التي عايشتها عبر عيني بريسيلا، ولأتبادل معه أطراف الحديث حول ما رأيت.
كنتُ أرغب في أن أُخبره بأنّ تلك النظرة المملوءة بالضجر التي كان يُلقيها على إردان وبريسيلا كانت غريبة، لكنها في الوقت نفسه تحمل لمسةً لطيفة.
لكن الآن، لم أعد أملك القدرة على فعل ذلك، بعدما اكتشف ماضيّ وابتعد عنّي.
هل يمكن أنّه لو حاولتُ بصدق، وطلبتُ منه أن يصدّقني، واعترفتُ بأنّي روح متجسدة، نتمكّن من إعادة علاقتنا التي انكسرت لأمر لم أرتكبه؟
‘…ذاك أمرٌ مؤجّل.’
هززتُ رأسي بعنف لأطرد تلك الأفكار عنه.
طريق الانتقام، الذي كان يبدو غامضًا وبعيدًا، أصبح الآن واضحًا أمامي، بينما الطريق إلى استعادة علاقتي بكاسروسيان بدا مستحيلًا.
بل إنّي خشيتُ أن يظلّ مستحيلًا إلى الأبد، وأن تبقى تلك العلاقة مشوّهة حتى النهاية.
لذلك، قرّرت أن أؤجّل الأمر الذي قد يؤذيني، وأبدأ بالسير في الطريق الأسهل أولًا.
“رونا، هيا نبدأ بحزم أمتعتنا.”
“هاه؟”
ابتسمتُ لها بثقة وهدوء، قائلة:
“أظنّ أنّنا سنعود قريبًا إلى المقاطعة.”
الآن، يا بريسيلا، فهمتُ تمامًا ما كنتِ تفكرين فيه.
لكن اسمعيني، لا أستطيع أن أحتفظ بوحشٍ حاول عضّي مرتين.
سأستعين بما تركتِه لي لأضع طوقًا حول عنقه، وألقي به في النهر.
‘ومع ذلك…’
ابتسمتُ بخفوت وأنا أخفض بصري.
المكان الذي حاولتِ حمايته في النهاية، كان ذاته الذي عزمتُ على حمايته منذ البداية، فلا تلوميني كثيرًا.
—
مرّ أسبوعان منذ استلامي وصيّة بريسيلا.
وفي هذين الأسبوعين، أصبحتُ محور الأحاديث مجددًا.
السبب الأوّل كان حصولي على لقب “كونتيسة”.
لم يكن مجرد ترقية من بارونة إلى كونتيسة، بل لأنّي أصبحتُ رسميًا سيّدة أراضي “بيترول”، ومنحتُ اللقب تحت اسم جديد: “تيرواسين”.
وبالتالي تغيّر اسم المقاطعة من “بيترول” إلى “تيرواسين”.
كان هذا متوقعًا بعض الشيء، فالجثة المكتشفة للتنين في أراضي بتْرول كانت ملكيّة صاحبة الأرض، أي أنا.
كان بإمكاني استدانة المال أو البحث عن مستثمرين لاستخراجها، لكنّني فضّلت إبلاغ الإمبراطورية ومشاركة الأرباح معها.
صحيح أنّ ضغط الإمبراطورة كاميلا ساهم في قراري، لكن ذلك لا يُغيّر أنّ ما فعلته كان في صالح الإمبراطورية.
ومع ذلك، السبب الحقيقي الذي جعلني محور الأحاديث لم يكن مجرد حصولي على لقب جديد.
‘ما الذي يفكّر فيه الإمبراطور؟’
فقد منحني الإمبراطور “كاسروسيان” ثلاث مقاطعات مجاورة لتيرواسين، كانت في الأصل تابعة للأراضي الإمبراطورية.
وهكذا أصبحتُ حاكمةً لأرض شاسعة تُعرف باسم “كونتية تيرواسين”.
أي أنّني حتى من دون عائدات التنين، أصبحتُ مالكةً ثرية لا يُستهان بها.
لكن لماذا منحني الإمبراطور كل هذا؟ ما الذي يدور في ذهنه؟
في أحد الصالونات المخصصة لرعاية الفنانين، بدأ الهمس بين النبلاء.
“هل سمعتم عن كونتيسة تيرواسين، ليريبيل؟”
“ما الأمر هذه المرّة؟ هل حظّت بشيء جديد؟”
“يا لها من امرأة محظوظة!كأنّ جنية الحظّ نفسها تُباركها.”
هكذا بدأ الناس يُطلقون عليّ لقب “المرأة التي تُباركها جنية الحظّ”، تمامًا كما كانت كاميلا تُلقّب بـ”المرأة التي لا يجوز المساس بها”.
كنتُ خادمة بسيطة تحوّلت إلى سيّدة بيت الماركيز، وبعد الطلاق اكتشفتُ أنّ الأرض القاحلة التي ورثتها تخفي ثروةً عظيمة.
وبفضل طمع كاميلا، نلتُ حمايتها التي لم يمنحها أحد قبلها.
ومع ذلك، لم يتوقف حظّي عند هذا الحد.
فبعد تسليمي جثة التنين للإمبراطورية، نلتُ ثلاث مقاطعات جديدة.
نادراً ما يحظى أحد في هذا العالم بمثل تلك الحظوظ.
ولو كنتُ حاضرة وسمعتهم، لقلت لهم: “إذا كنتم تغارون لهذا الحد، جرّبوا أن تعيشوا حياتي!”
لكن الثرثرة لم تتوقف عند هذا الحدّ.
“يُقال إنّها ستصبح ماركيزة فيديليو!”
“ماذا؟ ماركيزة؟”
في غيابي، كانت الأحاديث تُدار بحرّية تامّة.
“هل تذكرون الآنسة بريسيلا، الماركيزة السابقة؟”
“أوه، تلك الوقحة؟ ما شأنها؟”
“يُقال إنّها تركت وصيّة تقول إنّه بعد وفاتها، وفي حال طلاق ليريبيل وإردان، يجب منح اللقب لليريبيل لا له.”
“هل هذا ممكن؟”
“بالطبع لا! لا أي ارتباط قانوني بين ليريبيل وآل فيديليو، فهي مطلقة منه.”
“صحيح، لكن يبدو أنّها رفعت دعوى للمطالبة باللقب!”
هزّ الجميع رؤوسهم بدهشة واستغراب.
“إنّها معركة مجنونة.”
لكن إحدى السيّدات ابتسمت قائلة:
“مجنونة، نعم، لكن لماذا أشعر أنّها قد تنجح؟”
نظرتها تلك أثارت تفكير الآخرين، نعم، فالمرأة التي تُباركها جنية الحظّ قد تفعل المستحيل.
وهكذا أصبحتُ محور الأحاديث للمرة الثالثة، بسبب الدعوى التي رفعتها ضد إردان للمطالبة بلقب الماركيز.
—
بينما كان المجتمع الأرستقراطي في العاصمة يغلي باسمي، كانت مقاطعة فيديليو تغلي غضبًا، وكان إردان وحده فقد صوابه.
“هذه المرأة المجنونة!”
صرخ وهو يمزّق أوراق الدعوى التي أرسلتُها إليه.
“ألم يكن بإمكانها الانتظار؟! كيف تجرؤ؟!”
لقد تجاهلت نصيحته بالبقاء هادئة، وها هي الآن تهدده بدعوى قضائية!
“اللعنة!”
راح يقلب الغرفة رأسًا على عقب.
لماذا تركت بريسيلا تلك الوصيّة الملعونة؟ وكيف حصلت ليريبيل عليها؟ وكيف تجرؤ على الظن أنّ بإمكانها المطالبة بلقب كهذا؟
إلى أي حدّ تستخفّ بي؟
“كنتُ أظنّك لطيفة، وها أنتِ تطمعين بما هو لي؟!”
تحطّم الأثاث الثمين واحدًا تلو الآخر.
لو رأى أحد المساعدين الثلاثة الذين أوكلتُ إليهم إدارة المقاطعة، لتوسّلوا إليه أن يُهدّئ نفسه.
فهو معتاد على إنفاق أموال المقاطعة في شراء ما يُدمّره بيده.
“غيلبرت! غيلبرت!”
صرخ وهو يُحرّك الجرس بعصبية، غير قادر على الانتظار.
لكن الذي دخل لم يكن غيلبرت بل شاب غريب.
“أين غيلبرت؟”
“لقد استقال منذ ثلاثة أسابيع، يا مولاي.”
ابتسم الخادم الجديد ابتسامة متوترة.
رفع حاجبيه متعجبًا، هل مرّت ثلاثة أسابيع دون أن يعلم؟ هل ذاكرته ضعيفة لهذه الدرجة، أم أنّه لم يرَ فيه أهمية تُذكر؟
“اجمع كل الحاشية والأقارب، سنعقد اجتماعًا الليلة.”
قال ذلك ببرود، دون أن يُبدي أي انفعال لخبر استقالة غيلبرت.
ومع خروجه، عاد ليُدمّر ما تبقّى في الغرفة.
“هل تظنين أنّ هذا ممكن؟ هل تعتقدين أنّ بإمكانك النجاح؟ أيتها المرأة اللعينة!
يا بريسيلا الملعونة!”
كان يعلم أنّ انتقال اللقب إليها مستحيل، لكن مجرد فكرة أنّها تحاول انتزاع حقّه، وأنّ بريسيلا ساعدتها، كانت كفيلة بإشعال غضبه.
—
استدعى إردان الاجتماع الكبير لدرء أي احتمال قد يُغيّر الموازين.
فمن يدري؟ ربما بتأثير كاميلا، تستطيع ليريبيل تحقيق المستحيل.
ولو اعترضت حاشية فيديليو وأقاربها على الوصيّة جماعيًا، فربما يستطيع إيقافها قبل تفاقم الأمور.
لكن حين بدأ الاجتماع، صُعق إردان من أول ردّ سمعه.
“وهل هذا ما يقلقك حقًا؟”
تجمّد في مكانه، ثم قال ببطء وغضب:
“ماذا قلت للتو؟ أتسألني إن كان هذا يقلقني؟”
“نعم.”
أجابه أحد أقربائه الأكبر سنًا بهدوء وثقة.
التعليقات لهذا الفصل " 129"