انفتح الباب بهدوء، قبل أن تفيق ليريبيل بخمس دقائق تقريبًا.
“……؟”
أثناء انشغال ليريبيل باستخدام اللفافة لاستعراض ذكريات بريسيلا، وقفت رونا إلى جانبها، تحرسها، إذ كانت ليريبيل في تلك اللحظة بلا حِماية.
لكن حين رأت الباب يُفتح، التفتت بعينيها نحوه، مستعدةً لصد الزائر الوقح الذي دخل دون إذن.
من يجرؤ على فتح الباب دون طرق؟ سأعلّمه درسًا!
نسيت رونا لوهلة أنّها وليريبيل تقيمان مؤقتًا في جناح الإمبراطورة كاميلا.
“……!”
سرعان ما توقفت عن التقدم بغضبها.
الإمبراطور؟
كان من دخل الغرفة هو الإمبراطور نفسه، كاسروسيان.
أه…
ماذا أفعل الآن؟
لم تفكر رونا يومًا بما ينبغي فعله إذا كان الزائر هو الإمبراطور ذاته.
تلعثمت نظراتها، وهي تتحرّك بعينين مليئتين بالحيرة والارتباك.
حين التقت عيناها بعينيه، رفع كاسروسيان سبابته إلى شفتيه.
“شش.”
ثم أشار بذقنه نحو ليريبيل، كأنه يقول: “اهدئي كي لا نزعجها.”
هل يريد مني الصمت لأجلها؟ أم أنني لا يجب أن أصدر صوتًا؟
كانت حائرة، لكنها اعتقدت أنّ الإمبراطور الذي ساعد ليريبيل من قبل لن يؤذيها، فأومأت برأسها بهدوء.
ابتسم كاسروسيان بلطف، ثم اقترب من ليريبيل في صمت تام.
“……!”
اتسعت عينا رونا بشدة حتى كادت تبرزان من محجريهما، وهي تغطي فمها بكلتا يديها.
فالإمبراطور جثا على ركبة واحدة أمام ليريبيل الجالسة على الأريكة.
الإمبراطور…
ركع؟!
لم تصدق ما تراه، ففركت إحدى عينيها بيدها لتتأكد من المشهد.
لكن عيني كاسروسيان، الموجهتين نحو ليريبيل، لم تكن هادئة كما بدت أول الأمر.
لا، لم تكن هادئة أبدًا.
في تلك العينين الحمراوين، كانت تتلاطم أمواج من المشاعر المتضاربة، يصعب تمييز أيّ منها مخصص لليريبيل.
وبعد لحظة من التحديق، ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة، صافية، واضحة المعنى.
ابتسامة شخص يرى من يحبّ، ابتسامة فرح لمجرد رؤيتها أمامه.
“أعتذر.”
كانت الكلمة خافتة، حتى كادت رونا لا تسمعها، لكنها اتسعت عيناها أكثر لمتابعة الموقف في صمت.
“أعتذر لكِ من أعماق قلبي عمّا ألمّ بكِ.”
لم تفهم رونا سبب اعتذاره لليريبيل.
بل وإن وُجد سبب، فهل يليق بإمبراطور أن يركع هكذا ويعتذر؟
لكنها لاحظت الحزن على وجهه، وهو يمد يده نحو خد ليريبيل ثم يتراجع قبل أن تلمسه، كأن الهواء بينهما حاجز مؤلم.
“…….”
قبض كاسروسيان يده، ثم بسطها عدة مرات قبل أن يخفضها ويقف.
حاولت رونا صرف نظرها لتتظاهر بعدم رؤية شيء، لكن تلاقت أعينهما للحظة قصيرة.
هيهي.
ابتسمت ابتسامة بريئة تُخفي حرجها، كأنها تقول:
“لم أقصد التلصص، يا صاحب الجلالة.”
ابتسم كاسروسيان بخفة، ووضع سبابته على شفتيه مجددًا، في إشارة إلى ضرورة إبقاء ما رأته سرًّا.
فهمت رونا فورًا وأومأت برأسها بصمت.
لم يؤذِ ليريبيل بأي شكل، بل ترك وراءه اعتذارًا غامضًا لم يصل إليها.
لذا يمكنها أن تحتفظ بذلك السر.
عادةً كانت رونا تقول: ولِمَ يهمّني؟ سأخبرها على أي حال!
لكنها شعرت هذه المرة بوجوب الصمت.
كأنها شهدت سرًّا لا يحق لأحد معرفته.
—
فتحت عيني ببطء، ثم ضحكت بسخرية لا إرادية.
“هل كانت تظن أنها ستذهب إلى أحضان للحاكم؟”
يا للوقاحة.
أول فكرة خطرت لي بعد مشاهدة كل ذكريات بريسيلا: إنها بلا خجل حقًا.
كنت واثقة أنها ستهوي إلى الجحيم، لكنها ظنت أنها ستصعد إلى السماء ؟
يا لها من وقاحة جريئة.
“بريسيلا ظنت أنها ستذهب إلى الجنة، تخيّلي، إلى الجنة!”
التفت بسرعة نحو رونا وقلت بانفعال ساخر.
لا أستطيع أن أتحمل هذا الهراء وحدي.
“ماذا؟ أحقًا؟”
لكن رد رونا جاء باهتًا، شاردة الذهن وكأنها تفكر في شيء آخر.
“هاه؟ إلى الجنة؟ بريسيلا؟”
بعد لحظة من الاستيعاب، اتسعت عيناها، وعبست ملامحها بعدم تصديق، وجه يعكس صدمة من كلام لا يُصدق.
“واو، أنها حقًا بلا ذمّة ولا ضمير.”
تمامًا كما توقعت، رونا فكرت مثلي تمامًا بعد أن شهدت ما رأيته.
“وقلة ضميرها لا تتوقف عند هذا الحد.”
“هاه؟ هناك المزيد؟”
“لقد زوجتني من إردان، وهي تعلم أنه مجنون.”
“ماذااا؟ يا إلهي، أين أخلاقها؟!”
فتحت رونا فمها بدهشة، وقد ارتسم على وجهها نصف ابتسامة ونصف عبوس، تعبير عن الغضب والسخرية معًا.
“أرأيتِ؟ قلتُ لكِ.”
وجهت نظري نحو الأوراق على الطاولة، تلك التي تركتها بريسيلا وراءها.
“لقد ماتت، ولا أستطيع فعل شيء لها الآن، ولا أظن أنني سألقاها حتى في الجحيم، فماذا أفعل بهذه المرأة الحمقاء.”
حتى لو ذهبت إلى الجحيم، فلن أُعاقب في نفس المكان الذي تُعاقب فيه.
ولِمَ تُلقي عليّ عبء المقاطعة وإردان معًا؟
بل وتجعلني أجلس في موقعٍ محفوف باللعنات؟
أنا لست عظيمة كما تظنين، أيتها الغبية.
كنت مجرد طالبة جامعية عادية بالكاد اجتهدت لدخول الجامعة.
بعد استعراض كل ما في ذكرياتها، استطعت فهم طريقة تفكيرها، لكن الفهم لا يعني القبول.
“هاه…”
تنفست تنهيدة طويلة.
لقد أدركت كل ما لم أفهمه من قبل.
من ضحكة إردان عند موتها، مثلاً.
كان يضحك لأنه ظن أن موتها ألغى وثيقة التبني، فأصبح حرًّا بلا قيود، ككلب تحرر من طوقه.
أو عندما لم يعارض أحد زواجي من إردان.
ربما لأن زوجة السيد في المقاطعة تموت دائمًا، فلا فرق لديهم من تجلس على الكرسي.
وعدم حماسهم للبحث عنه.
فهو ليس من دمهم أصلًا، بل متبنى من قريب بعيد.
لو كان من نسلهم المباشر، لبحثوا عنه حتى الموت حفاظًا على النسب، لكنه مجرد قريب بعيد، فكان استبداله أفضل.
وحتى علاقته بكاسروسيان.
في الرواية الأصلية، لم يظهر كاسروسيان إلا مرتين تقريبًا، وفي مشاهد لا علاقة لها بإردان.
كنت أستغرب كيف كانت بريسيلا وإردان يتعاملان معه كما لو بينهما صلة خفية.
“لكن إن أخذتِ بعين الاعتبار خصوصية أسرة فيديليو ودور البارونة في المقاطعة، فالأمر ليس غريبًا تمامًا.”
الآن فهمت تمامًا كلام كاسروسيان الأخير.
لعنة آل فيديليو لا تنتقل عبر الدم، بل عبر الاسم.
أي شخص يرث اسم “فيديليو” يرث اللعنة معه، حتى لو لم يكن من دمهم.
أي أن المتبنى المزيّف المسمى إردان إذا أُزيح، وجلست أنا مكانه كوريثة جديدة، فسيكون ذلك ممكنًا.
خصوصًا وأن بريسيلا تركت وصية تُفوّضني بوراثة اللقب وإبطال تبنيه.
قد يكون هذا ممكنًا.
ارتسمت على شفتي ابتسامة خفيفة ماكرة.
حتى لو لم يكن ممكنًا تمامًا، أصبح لدي ما يكفي من الأسباب للعودة إلى المقاطعة دون الحاجة لمصافحته ثانية.
ينبغي أن أخبر كاسروسيان بهذا.
لكنني توقفت فجأة، وأنا أتهيأ للنهوض.
التعليقات لهذا الفصل " 128"