قرّرت بريسيلا أن توزّع ثروتها على خدمها، وهو أمر كانت تفكّر فيه منذ زمن بعيد.
لقد أرادت مكافأة أولئك الذين ظلّوا بجانبها حتى اللحظة الأخيرة، مهما اختلفت ظروفهم.
لكن السبب الآن كان أعمق من مجرد مكافأة؛ فقد أرادت أيضًا ردّ الجميل لأولئك الذين، جنبًا إلى جنب مع ليريبيل، أعادوا إليها الرغبة في الحياة.
“إلّا تلك.”
أشارت بريسيلا بذقنها نحو ليريبيل، فانخفض بصر الأخيرة إلى الأرض.
كانت المرأة التي وصفتها بريسيلا يوماً بأنها مادية صرفة، تتألّم الآن لأنها لن ترث شيئًا. وكأنها تتمنى ألا تفارق بريسيلا الحياة.
ومع مرور الوقت، لم تستطع بريسيلا إنكار أنّ ليريبيل طمّاعة قليلًا، لكنها في المقابل أدركت أنّها إنسانة عاطفية للغاية، خلافًا لمظهرها الخارجي.
لم تفهم السبب تمامًا، لكنها شعرت أنّ لطف ليريبيل معها لم يكن مجرد تصنّع أو وسيلة لكسب المال، بل كان صادقًا ينبع من قلبٍ نقي.
نعم، كانت ليريبيل حنونة، من أولئك الذين يقال عنهم إنهم “أناس طيّبون فعلًا”، وربما هي التي جعلت بريسيلا، المكسورة والمشوّهة، ترغب في الحياة مجددًا.
“أخي، متى تنوي الزواج بالضبط؟”
نظرت بريسيلا إلى إردان بعينين باردتين، فأرتبك الرجل تحت ذلك البريق الجليدي، ثم ابتسم ابتسامة محرجة.
“لا تتذاكى عليّ، قلت متى ستتزوّج؟”
هذا الوغد الحقير.
الآن أصبح مطيعًا فقط لأن زمام الأمور بين يديها، لكن لو فارقت الحياة، سينفلت من القيود وينهش كل شيء.
ومع ذلك، لم يكن بوسعها أن تبرّأ منه وتموت.
طوال تلك السنوات، لم تفعل بريسيلا شيئًا سوى أن تتمنّى سقوط بيت الفروسية، لكن لو ماتت وتبرّأت من إردان أيضًا، لانهار البيت بأكمله في فوضى لا تُقارن بجنونه.
وكان ذلك خطأً لا سبيل لإصلاحه.
“أما زلت مهووسًا بتلك؟”
تلك…
وخزت بريسيلا عقدة النقص في إردان بلا رحمة، تذكّرًا حين سرق تسكان منه الخادمة التافهة إيلوديا، وعاش مرارة الهزيمة.
“…بريسيلا.”
تألّقت الشرارة في عينيه، ومع ذلك اختار أن يناديها برقة بدلًا من أن يعضّ يد سيدته.
ما زال متعلقًا بتلك الحادثة إذًا.
حدّقت بريسيلا فيه بعينين ضيّقتين؛ لو ماتت الآن، فلا أحد يعلم أي جنون سيفعله مدفوعًا بذلك النقص الذي لم يشفَ أبدًا.
“كفى، لسنا بحاجة لإهدار الوقت في كلام فارغ. أريد أن أترك خلفنا ذكريات جميلة فقط.”
“…لم أقصد الشجار، أنا أيضًا أعلم أنّك تحتضرين.”
تظاهرت بريسيلا وإردان، على الأقل ظاهرًا، بأنهما شقيقان متفاهمان؛ هو فعل ذلك ليضمن وراثة لقب المركيز بسلاسة حتى النهاية.
“هل يمكنك الزواج قبل أن أموت؟”
قالت بريسيلا ببرود وهي تلقي آخر أوامرها لذلك الوغد:
“ليريبيل، تزوّجي من أخي. هذا طلبي الأخير، وصيّتي.”
قرّرت بريسيلا تزويج ليريبيل من إردان قبل موتها، قرار اتخذته لحماية بيت المركيز الآيل إلى الزوال.
—
حين غادر الجميع وبقيت بريسيلا وحدها، حدّقت عبر النافذة المظلمة؛ السماء مغطّاة بالغيوم، لا قمر ولا نجوم، والليل الحالك لم يكن مختلفًا عن حال بيت فيديليو الغارق في الظلام، كما لم يكن مختلفًا عن حال بريسيلا القديمة قبل ظهور ليريبيل في حياتها.
“أرجوكِ، ليريبيل…”
لهذا السبب أرادت بريسيلا أن تعلّق آمالها عليها؛ على تلك التي بدّدت قليلًا من ظلامها، لعله يمكنها أن تجلب ضوءًا ولو ضئيلاً لهذا البيت المعتم.
تمامًا كما فعلت هي، قد يتمسّك البيت أيضًا بتلك الشرارة الصغيرة حتى يجد نورًا أعظم ويبدأ في التوسع نحو حياة أكثر إشراقًا.
“حين تعرفين كل شيء، ستكرهينني بلا شك.”
لأنك ستسألين: لماذا زوّجتني من ذلك الوغد وأنت تعرفين طبيعته؟ ولأنك ستقولين: أنا التي حطّمتها وأدرت ظهري لها، ماذا تريدين مني الآن؟
لهذا السبب، لم تستطع أن تخبرها بكل الحقيقة، فلم ترد أن تترك في قلبها كراهية.
“لكنني شعرت أنك الوحيدة القادرة على فعل ذلك.”
لم يكن سببها مجرد كون ليريبيل “إنسانة طيبة القلب”.
بعد أربع سنوات من العشرة، أدركت بريسيلا أنّ ليريبيل امرأة مثقفة نسبيًا، رغم ضعفها في آداب السلوك والفنون والموسيقى، إلا أنّها بارعة في الحساب والاجتماع والعلوم والأدب والاقتصاد.
مستوى تعليم المرء يفضح دومًا في حديثه، وكلماتها دلّت على عقل متعلم.
وربما لم تكن تعرف كيف تطبّق كل ما تعلمته، لكنها كانت أفضل من الجاهلين بالتأكيد.
ثم إنّها كانت تعرف ما هو الصواب؛ ليست قديسة ولا ملاكًا، لكنها من أولئك الذين يسعون لاختيار الطريق الصحيح بين الخير والشر.
وما أظهرته خلال تلك السنوات الأربع من إخلاص ومسؤولية كان من أبرز صفاتها، إضافةً إلى طيبتها وقدرتها على الانسجام مع الناس بفضل قلبها الدافئ.
كل ذلك جعل بريسيلا تدرك شيئًا؛ أنّ ليريبيل قد تصبح قائدة صالحة، بل على الأقل، إن وضعت في موقع المسؤولية فلن تهرب من الواجب ولن تتنصّل منه.
“ربما أنتِ الوحيدة التي ستصلحين الوحش، من دون أن تقيديه بالسلاسل كما فعلت أنا وأبي.”
كما استطاعت إعادة رغبة الحياة إليّ.
ربما كانت طريقتها خطأ منذ البداية، وربما كان خطأ والدها سيلفانوس سبب انحراف إردان، لكن ليريبيل قد تنجح حيث فشلوا.
لهذا السبب، لم تسلّم بريسيلا إليها وثيقة نزع النسب من إردان، فهي كانت تعلم أنّها لو فعلت، لربما اختارت الطريق الأسهل لتقييده بدل محاولة إصلاحه.
“لن أضعك في خطر أبدًا.”
تمتمت بريسيلا مستذكرة الاحتياطات التي أعدتها لحماية ليريبيل: “ولن ألومك حتى لو تخلّيت عن كل شيء.”
فهي نفسها قد أعرضت من قبل، ولم تتوقع أن تصلح ليريبيل كل ما دمّرته هي.
“ربما كنت فقط…”
صمتت للحظة، ثم قالت في سرّها: ربما كنت فقط أريدكِ أن تبقين هنا، في هذا البيت، لتكوني دليل سعادتي الأخيرة.
حتى إذا نظرت يومًا من السماء إلى هذا الإقليم البعيد ورأيتك أنت ونسلك، أستطيع أن أقول لنفسي: “كان الأمر جميلًا، لقد كنت سعيدة قبل أن أموت.”
أنانية، أليس كذلك؟
“إن كان هناك من يسمعني، فاستجب لي مرة واحدة فقط.”
أغمضت عينيها وشبكت يديها في دعاء صادق:
“لقد جعلت حياتي جحيمًا، فعلى الأقل استجب لطلبي الأخير.”
كانت كلماتها فظة لمن يُصلّي، لكنها صادقة:
“واحمِ ليريبيل، واجعلها تنجو من لعنة اسم فيديليو، دعها تتحرّر من الشر الذي كبّلنا. افعل ذلك، وإلا فسأقتلع شعر رأسك شعرَة شعرَة حين ألقاك.”
لقد أقسمت بريسيلا أنّها ستريهم جميعًا ما يعنيه اسم فيديليو.
—
“ما العلاقة بين مساعدة والدتك للبارونة ليريبيل، وبين مجيء إردان إليها في الماضي؟”
توقفت يد كاميلا، التي كانت تمسك بفنجان الشاي في الهواء، ثم نظرت بهدوء إلى ابنها الذي صار إمبراطورًا، وقد جاء بنفسه لأول مرة منذ اعتلائه العرش.
التعليقات لهذا الفصل " 126"