“إيه، أنتِ!”
“نَعَم؟”
اتّسعت عينا إيلوديا الزرقاوان بدهشةٍ حين دوّى نداءٌ فظّ من فم بريسيلا.
“كيف تجرؤين على مخاطبتي أوّلًا؟ أَفَقَدْتِ صوابكِ؟”
ولم تنتظر بريسيلا جوابًا، بل هوَت بكفّها على رأس إيلوديا ضاربةً إيّاها بقسوة.
“أأنتِ حقًّا في موضعٍ يسمح لكِ بفتح فمكِ؟ أدمغتُكِ زينة؟ أم إنّ داخل رأسكِ حديقةُ أزهار؟ ماذا كان عليّ أن أفعل؟ أرمي بنفسي عند قدميكِ شاكرةً لكِ تحيّتكِ؟ أيتها البلهاء!”
“آااخ! أرجوكِ… توقّفي!”
“وما زالت زهورُ عقلكِ تتفتح! إن قلتِ توقّفي، أأتوقّف؟ ها؟”
“آه!”
انتزعت بريسيلا خصال الشعر البلاتيني لإيلوديا وجذبتها بعنف، ثائرةً كوحشٍ هائج.
كانت نيتها منذ البداية أن تُرهقها إيذاءً حتى ترحل بنفسها عن هذا القصر، لا أن تطردها هي فتُلام أمام الكونت فيرناندي.
لكن لمّا نظرت إلى تلك الفتاة التي تبدو كأنّها عاشت عمرها مدلّلةً بجمالها المُقلِق… غلت الدماء في عروقها.
‘وجهٌ كهذا… كمْ لعب بالقلوب! كمْ نال من الدنيا ما يشتهي!’
بينما أنا، المولودةُ من رحم النّبل، حُبست في ظلام القدر والتعاسة.
ولا شكّ أنّ خطفها لإردان لم يكن محض مصادفة.
فاشتدّ تنكيل بريسيلا بها، واتّسع نطاق شرورها عليها.
—
“أتقول إنّك ستأخذها؟”
حين حضر تيسكان إلى قصر فيديليو بعد أعوامٍ قليلة، مُعلِنًا أنّه سيصطحب إيلوديا معه.
“حسنًا، افعل ما تشاء.”
هكذا قالت بريسيلا، ورحّبت بالفرصة لحذف تلك العلّة من حياتها.
وإن علم الكونت لاحقًا، فليس ذنبها. هي لم تطردْها.
“ماذا؟ إيلوديا؟ سلمتيها إليه؟ مَن قال لك أن تفعلي هذا؟!”
ما لم تتوقّعه أنّ إردان قد صرخ هائجًا، واندفع خارج الدار يتوعّد باستعادتها.
‘ما به؟ لماذا فجأة…؟’
طالما لم يكترث بتعذيبها… أكان ما فعلته ضربًا من الحمق؟
أم أنّ شعور النقص الذي خلّفه تيسكان في نفسه كان ينهشه أكثر ممّا ظنّت؟
لم تفهم سبب هياجه… لكنّها تجاهلته.
ومصير الماركيزية إن انهارت بسبب غيابه؟ فليذهب كلّ شيء إلى الهاوية.
—
عاد إردان أخيرًا… كجنديّ مهزوم.
جسدٌ مطأطأ، روحٌ منكسرة.
هل صُدم لخسارتها؟
أم خشي أن تتبرّأ منه بريسيلا لتركه القصر دون إذن؟
صار أكثر هدوءًا… وتظاهر بأنّه أخٌ صالحٌ على نحوٍ مريب.
‘ربّما أدرك أنّني سأموت قريبًا.
فقال، فلأبقى مطيعًا حتى يحين أجَلي.’
كان عمر بريسيلا آنذاك سبعة عشر عامًا.
والموت الموعود يقترب؛ سنةٌ واحدة، ربّما سنتان إن شَفِعَتْ بها الحياة… لكن النهاية حتميّة.
—
في تلك الفترة، ظهرت ليريبيل.
خادمةٌ عجيبة الأطوار.
ترى الكراهية في عيون سيّدتها واضحة، ومع ذلك… لم تهرب.
بل كانت تبذل جهدها لخدمتها دون توانٍ.
وحين شهدت مرض بريسيلا… انطفأت تلك الكراهية الأخيرة في داخلها، وأصبحت أكثر إخلاصًا.
‘أتشفق عليّ؟’
بعض البشر كانوا يتحرّكون بدافع الشفقة، ولكن بريسيلا لطالما احتقرت تلك الرحمة البخسة.
كانت تردّها قسوةً، حتى ينفر أصحابها.
‘سترحلين قريبًا… مثلهم…’
ومع ذلك، انقضت شهورٌ، وليريبيل لا تزال هنا.
“أتعطفين لأنّكِ رأيتني مريضة؟”
لم تصبر وسألت.
“كما قلتِ بنفسكِ… أنا فقيرة.
لا أستطيع ترك العمل بسهولة.
فقلتُ: ما دام لا مفرّ، فلأتقبّل كلّ شيء وأكسب رزقي براحة.”
اندهشت بريسيلا.
لم تكن الشفقة ما تبقيها الى جانبها…
كان المال.
“وأنا أعمل بجهد لأنّي أتقاضى أجرًا كبيرًا… فلابدّ أن أستحقّه.”
كلماتها تركت في صدر بريسيلا مذاقًا غريبًا.
كانت تعلم أنّها تسيء معاملة خدمها.
تعرف أنّ المال لا يبرّر الإهانة.
لكنها كانت تقول في سرّها:
‘ولِمَ لا؟ سأموت قريبًا. فليغضبوا ويرحلوا.’
وفعلوا ذلك فعلًا… كثيرون.
إلا ليريبيل.
امرأةٌ لا ترى شيئًا وراء المال.
امرأةٌ جعلت بريسيلا… لا شيء.
لا أكثر من صاحب عمل تافه.
“إذًا لا فرق عندكِ… سيئةٌ كنتُ أم مثيرةً للشفقة؟ المهم أن تؤدّي عملكِ، أليس كذلك؟”
ومن هنا… شعرت بريسيلا بشيءٍ عجيب:
“أمرٌ جميل… هذا.”
معها فقط… شعرت أنّها إنسانة عاديّة.
—
بعد ذلك، رفعت أجر ليريبيل.
كانت مكافأة صغيرة لِما منحتها إيّاه من راحةٍ خاطفة… وفضولًا لرؤية ردّة فعلها.
فتحولت ليريبيل إلى كلبٍ وفيّ.
“سيّدتي! سأحملكِ على ظهري!
إلى أين تودين أن نذهب اليوم؟!”
وكانت مضحكةً بما يكفي لتتركها على حالها.
وربّما… أحبّت قليلًا ذلك الشعور المشابه لحبّ أبيها لها.
‘لو أغدقتُ الأموال منذ البداية…
ربّما صار الجميع كلابًا مخلصة مثلك.’
وتدفّقت الأيام واحدةً تلو الأخرى…
لكنّ قلب بريسيلا لم يتحوّل بمعجزة.
غير أنّ دخول شخص واحدٍ فقط إلى قلبٍ مغلق… يكفي ليتسرّب النور.
بهجة مشاركة الأشياء الصغيرة.
متعة حديثٍ عابر.
دفء أن يفهمك أحدهم حقّ الفهم.
رفقةٌ تمحو الوحشة… وتخلق ذكرياتٍ لا تقدَّر بثمن.
“ممتع…”
بعد أربع سنوات، جرّتها ليريبيل إلى فناءٍ تكسوه الثلوج، فصنعتا رجلًا من الثلج.
فانفلَتَت الكلمة من فمها دون وعي.
“ألم أقل إنّه ممتع؟ أعترفِي بالفضل لي!”
ولم تلبث ليريبيل أن تتباهى بإنجازها.
“سيّدتي بريسيلا! ليريبيل خرّبت بطّتي الثلجيّة!”
“أهذه كانت بطّة؟ ظننتُها وحشًا!”
“سيّدتي! عاقبيها!”
“سأثأر لكِ يا رونا! ليريبيل، تلقّي ضربة الثل—آه؟”
“…….”
“أ. أعتذر يا سيّدة مايكونري!”
“هاهاها! سيّدتي… أصبحتِ تمثالَ ثلج!”
ثلجٌ ناعم ينهمر من السماء.
ضحكات الخدم تملأ المكان.
وهناك… أنا.
في القلب من الصورة.
رفعت بصرها إلى السماء الرماديّة.
‘للحياة طعمٌ… جميل.’
طوال العمر انتظرت الموت… دون أن تجرب الحياة.
والآن… تشتهي البقاء.
تشتهي المزيد من الضحك… المزيد من الدفء…
هنا.
في الدار التي تختزن ذكريات أبي.
بين الرفقة التي بدأت تسمّى حياة.
كانت تدعو كلّ ليلةٍ بخراب هذه الدار…
فإذا بها تكتشف متأخّرةً كم خابت دعواتها.
إن هلك المكان…
هلكت الذكريات.
ذاب كلّ ما جمعته بقلبها كما يذوب رجل الثلج الذي صنعته.
—
حلّ ربيعها الأخير.
“يبدو أنّ هذه النهاية حقًّا.”
ذابت آخر آثار الشتاء…
وبدأت النهاية تدقّ أبواب بريسيلا.
نهايةٌ ظلّت تتمناها طويلًا…
ثمّ صارت ترجُو أن تتأخّر قليلًا فقط.
التعليقات لهذا الفصل " 125"