“ما الذي تقصدينه بالضبط…؟”
تساءل إرَدان مبتسمًا بسذاجة حين لم يفهم كلمات بريسيلا، فازداد وجهها انقباضًا.
“……اخرُج.”
“ماذا قلتِ؟”
“قلتُ لك: اخرُج من هنا!”
رمت بريسيلا الوسادة نحوه وهي جالسة فوق السرير.
تلوّت ملامحه بالامتعاض، لكنه اكتفى بقوله: “هاها… يبدو أنّ همومك كثيرة.
ارتاحي جيدًا.” ثم غادر.
ما إن أُغلِق الباب حتى انهارت بريسيلا على الفراش.
‘كيف؟ كيف يستطيع أنْ يبتسم بينما أبي قد مات؟’
لم يكن في مقدورها أن تضحك.
ولا أن تفعل أيَّ شيء آخر.
“أين ذهبت يا أبي؟ اشتقتُ إليك… يا أبي… أبي…”
كان والدها الوحيد الذي فهمها، الداعم المطلق لها، ونافورة الحب التي لا تجفّ.
وفقدانه كان صاعقة لا قِبَلَ لقلبها الصغير بها.
“أنا لا أريد البقاء وحدي… الوحدة مخيفة… خُذني معك يا أبي…”
طالما خشي سيلفانوس أن يُتركَت ابنته وحيدة بعد رحيله.
فأغدق عليها حبًّا فوق حبّ.
كي تظلّ ذكرياته نورًا في حياتها عندما يغيب جسده.
لكنّه لم يدرك أنّه كان عالمها بأكمله، وأنّ رحيله يعني انهيار الكون في عينيها.
وبينما كانت بريسيلا تتعذّب بمرارة الفقد…
كان إرَدان يعيش أزهى أيّامه.
“تولّي الأمر بنفسك… ستجيدين ذلك، أليس كذلك؟”
سلّمها لقب الوريثة شكليًّا، واحتفظ هو بكل السلطات.
أما المسؤوليات الثقيلة فقد رماها على الخدم، وانطلق يلهو ويعبث.
وكانت بريسيلا تراه يتغوّل…
لكنها لم تملك طاقةً لتمنعه.
وكانت الكلمات القاسية تتسرّب إلى أذنيها عبر باب موارب:
“ألا يكفيك أن تمرضي؟! لماذا تبلّلين الفراش في اليوم مرّات؟!”
“يجب نقلي من خدمتها، لقد ضقتُ ذرعًا بها!”
وفي كل مرة تسمع فيها ذلك، كانت تحتضن دُميتها وتكتم بكاءها.
في الماضي، لم تكن تبالي.
كانوا يرونها مزعجة…
فليكن.
فهي كانت تكتفي بأنّ أباها يحبّها.
أما الآن…
فقد فقدت العالم كله.
فلا حبّ بلا مقابل، ولا عطف مجّاني.
والألم يستنزفها حتى لم يبقَ فيها مكان لشيء آخر.
—
مرت السنوات…
وأزهرت الطفلة فتاة.
“أريد أن أموت.”
كانت مُعوجّة الروح تمامًا.
“أريد أن أموت.”
كانت قادرة على الابتسام رغم اللعنة… لأنّ أباها كان سندها.
ذلك الذي يحبّها مهما فعلت.
كتفٌ أبديّ تستند عليه.
وبفقدانه… تفتّت قلبها الجائع للحب.
بحثت بيأس عن أحد يملأ هذا الفراغ… ولم تجد.
فمن ذا الذي يحبّ إنسانًا كحُبّ والدٍ لابنته؟
وبقيت اللعنة جرحًا لا يندمل.
تُحوِّل نقصها إلى حقدٍ ينهشها.
“ليحترق العالم أجمع!”
لم تُحقق رغبة أبيها بأن تكون سعيدة.
رفضت الناس… رفضت الاقتراب… وراحت تتحلل وحدها.
“لتسقط هذه العائلة التعيسة!”
فهي تكره اللعنة التي قتلت والدها.
وتكره البيت الذي ولّدها.
وتكره لقبها نفسه: “الوريثة”.
رأت إرَدان يخدعها بوجه الأخ الحنون…
وغضّت الطرف.
لا يهمّها إن أغرق الدار كلّها…
بل تمنّت ذلك!
كانت صحتها خيطًا متآكلًا، لكنها تفكّر:
ذلك الحيوان القويّ قادر على هدم كل شيء بدلاً عنها.
“أنا أثق به… يقوم بالأمر كما يجب.”
وفي غمرة هذا الغليان… وقع الحدث.
“ضرب خادمة؟”
سألت بريسيلا باشمئزاز، وهي تعبث بشعرها.
لقد تركت له السلطة ليُدمّر كما يشاء…
وها هو يستبيح الخدم بشهوته المريضة.
“لو كانت خادمة عاديّة، لحللت الأمر وحدي ولم أبلّغك.” قال كبير الخدم، نيك.
“أوه؟ إذاً من هذه؟ هل لدينا خادمة من الدم الأزرق؟”
“إنّها الفتاة التي أودعها لدى السيّد قبل بضع سنوات… ابنة الكونت فرناندي.”
عبست بريسيلا.
تذكّرت فجأة… تلك البنت.
الكونت فرناندي…
جارٌ صغيرٌ للماركيزية فيديلّيو.
لقد جاءها يومًا يستعطفها:
“أرجوكم… اعتنوا بالفتاة.
لا أطلب معاملتها كنبيلة، دعوها تعمل خادمة يكفيني هذا.”
فتاة بملامحه تمامًا — الشعر البلاتيني والعينان الزرقاوان.
كان السبب واضحًا:
ابنة خطيئة يخشى افتضاحها أمام زوجته.
ولهذا سلّمها إلى هذا البيت الملعون.
وبعد أن أدارت بريسيلا ظهرها…
نسيت وجودها أصلًا.
“وإن حملت منه؟”
خشي نيك أن يدخل الكونت الطفلة في نسب فيديلّيو…
زوجةً لوريث البيت، وسيدةً للقلعة.
اللقب سيسقط في الحضيض.
وكان هذا ما يخافه.
أما بريسيلا… فابتسمت بسخرية.
سقوط هذا البيت… لذّةٌ في عينيها.
‘يا للمسكينة الغافلة.’
لا تعلم أنّ الاقتراب من هذه العائلة… موتٌ أكيد.
كما حدث لوالدتها.
وإن وُلد طفل… فسيحمل هذا العذاب منذ صرخته الأولى.
وبدأت فكرة مشؤومة تتفتّح فيها:
ذلك الرضيع سيعيش بلا حبّ ولا سند… مثلها.
وسيظلّ إرَدان والدًا قاسيًا لا قلب له.
“ما ذنبُ ذلك الطفل؟”
ارتجف قلبها.
“انقلوا تلك الفتاة لتكون خادمتي أنا.”
لقد قررت.
ستفصل بينهما.
طالما قلبها ينبض…
فلن تقتاد أيّ امرأة إلى قبرها بزواج من إرَدان.
ولن يولد طفلٌ ليُعذَّب كما عُذِّبت.
‘ما دمتُ حيّة… فلن أسمح بتكرار مأساتي.’
قرار بسيط… انفعالي…
لكنّه كان كل ما تملكه لتقاوم ألمها.
—
“تشرفني رؤيتك مجددًا، يا سيّدتي بريسيلا.
يسعدني حقًا أن أكون بخدمتك.”
تأمّلتها بريسيلا دون رمشة.
كانت طفلةً هشة قبل سنوات…
وها هي الآن زهرةً متفتّحة الجمال رغم ثوب خادمة بالٍ.
زهرةٌ يمكن قطفها وكسرها بسهولة…
اسمها: إيلوديا.
التعليقات لهذا الفصل " 124"