“أتحدّث عن وثيقة التبنّي المختومة بخاتم الإمبراطور، تلك التي لا سبيل إلى نقضها قط… ثمّ تتنازل طواعية عن ذلك الحقّ لابنتك.”
“……!”
“حين تُمنح ابنتك سلطة طرده من عائلتكم متى شاءت، فلن يجرؤ أبدًا على كشف أنيابه في وجهها.”
أطلقت كاميلا نقرة ساخرة بلسانها، وهي ترقُب صدمة سيلفانوس المتجمّدة على ملامحه، ثم قالت ببرودٍ لاذع:
“سيعيش خانعًا صامتًا إلى أن ترحل ابنتك عن الدنيا على الأقل، متشبّثًا بإرضائها، وملتزمًا حدود مشيئتها.”
“……تلك نتيجة تكفيني.”
إن كان بوسعه أن يحمي صغيرته من تبِعات قراره الأرعن… فذلك وحده كان غايته القصوى.
تسرّب قليل من الارتياح إلى قلب سيلفانوس وهو يستمع إلى تلك الخطة.
قالت كاميلا وهي تتأمّل الطاولة بنظرة متفكّرة، يخفت فيها الصوت وتشتدّ فيها البصيرة: “إنه يرى سحق الأضعف مباحًا، ما دام يختبئ عن أعين الأقوى، كي لا يخسر. عقلية تنبض بالأنانية والمكر… أليس كذلك؟”
ثم أردفت بابتسامة ساخرة:
“واليوم صار وريثًا لعائلة كبيرة مرموقة… تحفّ به فرائس أضعف منه بكثير؛ ستكون الحياة بالنسبة إليه وليمةً مفتوحةً لا تُسدّ شهيّتها.”
هَمَّ سيلفانوس بالذهاب فورًا إلى الإمبراطور طلبًا للعون، لكن كلمات كاميلا جمّدته في موضعه.
“أحضره إليّ. وسأتولّى ترويضه.”
“أتقولين حقًا؟!”
“لكن لا تتصوّر أنني سأخضعه بالعنف كما يخطر في بالك. فأنا… امرأة لطيفة. أمٌّ لا تودّ الإساءة إلى طفلٍ—وإن تسلّخ بجلد الوحش.”
ارتعشت عين سيلفانوس عند سماع كلمة “لطيفة” تنساب من شفتيها بذاك الجزم.
كاميلا… لطيفة؟ لا مخلوقٍ على وجه الأرض قد يصدّق ذلك!
رفعت إصبعها السبّابة بثقة لا تتزحزح:
“سألقّنه درسًا واحدًا: أنّ تعدّي حدود الأخلاق والقانون—ذاك الخطّ الفاصل—سينزع منه مكانته في المجتمع. وإن أراد الاحتفاظ بالقوة… فليخشَ المجتمع بأسره.”
“ماذا…؟”
“لا تعقّد الأمر. سأبدّل صورة القويّ الذي يخشاه… من فردٍ واحد إلى العالم كلّه.”
“هاه…”
“وبهذا… ستقتصر جرائمه في حدود الإقليم، ولن يجرؤ على صنع فضيحة تُلطّخ اسم العائلة.”
“الآن أدركت الفكرة.”
أومأ سيلفانوس وقد انزاح الغمام عن إدراكه أخيرًا.
فآل فيديليو—بما ورثوه من نقائص ولعنات—لم يكونوا قطّ أصحاب عقلٍ نافذ… وتلك حقيقة مؤلمة لا تُنكر.
صوّبت كاميلا نظرتها نحو بريسيلا الصغيرة:
“ولتأتِ ابنتك لزيارتنا بين حين وآخر، أترى بأسًا؟”
“آه؟ نعم… لا مانع إطلاقًا.”
فلم يكن ثمة سبب لرفض عرض كاميلا؛ فهي لا تكتفي بإرشاده بل قرّرت بنفسها تهذيب ذلك الوحش.
كما أنّ انفتاح بريسيلا—التي حبسها المرض طويلًا—على العالم الخارجي مكسب يجب اغتنامه.
وإن كانت العلاقة مع كاميلا محفوفة بالمخاطر… فآل فيديليو منذ البدء لا صداقة تربطهم بالبلاط الإمبراطوري، فما الذي قد ينقصهم من الخسارة بعد؟
ابتسمت كاميلا لبرسيلا ابتسامة خافتة، تخفي تحتها فكرة راسخة: ‘لعل اختلاط ذلك الوحش بطفلة رقيقة كهذه… يوقظ في روحه بعض الطفولة الضائعة.’
فعلى قسوة ما وصفه به سيلفانوس… يظلّ الطفل طفلًا، وربّما يتبدّل طبعه إن عاش بين أنداده.
ولهذا قرّرت كاميلا أن تتولّى تعليم إردان بنفسها.
لكن… يا للأسى.
—
كان ظنّ كاميلا بعيدًا عن الحقيقة.
“إردان.”
“ما الذي تريد؟!”
“إنّ الأميرة تطلب حضورك…”
“ومن خوّلك أن تأمرني أيها الفاشل الحقير؟!”
كان حنقه يتخمّر في دمه تلك الأيام.
فقد أُجبر على الخضوع لوثيقة التبنّي، وأُمِرَ صراحةً بإطاعة بريسيلا، وإلا حُرم من الميراث وحقّ الخلافة.
كان يؤمن بأنه الوريث الأحق، لا تلك الفتاة الهزيلة التي ينهشها المرض… ثم انهار كلّ شيء دفعة واحدة.
وفوق ذلك، بات أسير كاميلا وسط جبروتها… أسيرًا لا يجرؤ حتى على رفع صوته!
فإلى من يصبّ غضبه سوى من هو أدنى منه؟
“أيها التافه… لا توجّه كلامك إليّ!”
وتابع طريقه تاركًا كاسروسيان يختنق بالمهانة.
“هَا…”
لم تكن تلك البذاءات تستحقّ الرد.
كلّ ما فعله أنه بلّغه بانتظار كاميلا له— ولم يفكّر لحظة بإخبارها بما جرى.
فهي ستقلق… وهو لا يريد لها القلق.
“مثير للشفقة.”
التفت نحو مصدر الصوت.
فإذا ببريسيلا الصغيرة تمسك دميتها، وتنظر إليه بحدة طفولية.
“لماذا لم تخبره؟ كان عليك أن تشتكي.”
“…….”
“أأنت غبي؟ أم ضعيف؟ أأذهب أنا لأخبره؟”
“ليس هناك حاجة…”
تجهّمت حاجباها بطفولة لا تعرف الرحمة:
“أحمق!”
“…كما تشائين.”
لم تكن كاميلا تعلم أن جراح الصغار—لبراءة ما فيهم—أعمق من طعنات الكبار.
“لكنّي فتاة لطيفة.
سألعب معك!
هيا… كن حصاني.
انحنِ! ألا تعرف كيف؟ يا للسخافة!”
ولم تكن تعلم أيضًا أنّ أصغر افراد آل فيديليو… قد تفوق أخاها الأكبر خبثًا بدرجات خفيّة.
أطلق كاسروسيان زفرة ضيق مرهق.
لقد صار مجرّد سماع اسم “فيديليو”… أكثر ما يثير مقتَه في الدنيا.
—
“لقد أبطأت.”
“المعذرة يا صاحبة السمو.”
رمقته كاميلا ببرودٍ يقطر صلابة.
كانت تعرف ثمن ما يتحمّله كاسروسيان من أجله،
لكنها آثرت أن تترك التجارب تصقلهم هم، لا يد الكبار.
ومع ذلك… غاب عنها أمر مهمّ:
كاسروسيان كان أنضج بكثير مما توقّعت.
لقد ضاق ذرعًا بآل فيديليو منذ زمن، وقطع عهده على ألا يتورّط معهم بعد اليوم.
“كرّر ما لقّنتك إياه بالأمس.”
“ماذا… تعلمت؟”
“نعم.”
صوتها قاسٍ كحدّ السيف، خالٍ من شفقةٍ أو رخاوة.
لم يكن ذلك ظلمًا— بل غضب أم رأت الإهانة تنال من ابنها، فلم تُشفَ غلّتها بعد.
“لماذا الصمت؟ لم أطلب منك أن تُعيده حرفيًا… فقط ما فهمته. أهذا عسير؟”
“…أعتذر.”
كانت بريسيلا تتسلّل بنظراتها خلسة من خلف الباب، تراقب المشهد بخليط من الدهشة والفضول.
“غريب…”
لماذا يخشى هذا الصبيّ كاميلا أكثر مما يخشى والدها؟ فوالدها مرعب بما يكفي!
وانقبضت شفتاها الصغيرة استياءً، ثمّ غادرت عابسة.
—
ولم يدم تعليم كاميلا طويلًا…
فما هي إلا ثلاثة أشهر حتى أسلم سيلفانوس الروح.
وعاد إردان إلى الإقليم ليتولّى زمام أموره بدل بريسيلا الواهنة.
فخرج بنتيجة ناقصة:
‘سأتجاوز الخطوط الحمراء… ولكن خفيةً، دون أن أفقد ما أستحقّ امتلاكه.’
“ثقي بي يا بريسيلا.”
قالها بخشوع زائف.
فمصلحته الآن أن يرتدي قناع الولاء… حتى يحظى بالميراث.
“……”
حدّقت بريسيلا إليه بدهشة باردة، كأنها تنقّب عن شيء خلف ابتسامته.
التعليقات لهذا الفصل " 123"