لم يكن استمرار النَّسب مشروطًا بإنجابٍ من الصُّلب.
فالتبنّي كان كافيًا ليُبقي سلالة فيديليو حية.
لقد اعتمدت أسرة ماركيز فيديليو هذا الأسلوب مرارًا لتوريث الاسم والعقبة من جيلٍ إلى آخر.
ورغم أنّ الامتداد المباشر للدم يُعدّ أرفع شأنًا وأقرب إلى التقاليد،
إلّا أنّ سيلفانوس لم يشأ أن تعيش طفلته الصغيرة “بريسيلا” تجربة الزواج من رجلٍ لا تحبّه، وتنجب منه طفلًا لا ترغب فيه.
فذلك لم يكن سوى فعلٍ غريزيٍّ بهيميٍّ لا يليق بالإنسان.
لقد خبر سيلفانوس مرارة ذلك بنفسه، ولذلك لم يُرِد أن يورّثه لذريّته.
“لكنّ الصبي ليس من آل فيديليو.”
فلكي يتمّ التبنّي، كان ينبغي أن يكون الطفل من أقارب العائلة، يحمل في عروقه شيئًا من دمهم.
غير أنّ إردان لم يكن له أدنى صلة بفيديليو.
كان ذلك يعني أنّ ما سعت العائلة إلى تجنّبه طَوال أجيالها سيقع أخيرًا: انقطاع السلالة.
“هل تتذكّرين يا بريسيلا ماهي اللعنة التي حلّت بعائلتنا؟”
سأل سيلفانوس بابتسامةٍ هادئةٍ تخفي شيئًا من الأسى،
فاكتفت بريسيلا بتحريك شفتيها دون أن يخرج صوتٌ منها.
كانت على وشك أن تتذكّر، لكن الذكرى تاهت في ضبابٍ غامض.
“كلّ من يرث اسمك، يا صغيرتي، سيحترق ألمًا حتى الموت، كما احترقتُ أنا.”
قالها سيلفانوس بصوتٍ متهدّجٍ نيابةً عنها.
“صحيح، تلك هي.”
تمتمت بريسيلا ببراءةٍ وكأنها تفهم.
“نعم، فلعنتنا يا ابنتي ليست في الدم، بل في الاسم ذاته.”
“هاه؟”
“سواء امتزج دم فيديليو بدمٍ آخر، أو كان من غريبٍ لا يمتّ لنا بصلة،
فمجرّد أن يحمل لقب فيديليو يكفي ليُبتلع باللعنة.”
تدحرجت عينا الطفلة في حيرةٍ تامة.
“لقد ضعفت اللعنة مع الزمن،
وربّما لم يعد الاسم وحده كافيًا لاستدعائها،
لكنّ من لحظة حمل اللقب، يَسري السُّم في عروقه، لينتقل إلى ذريّته، فذريّة ذريّته من بعده.”
“……؟”
“لذا، على خلاف سائر العائلات، فدماؤنا ليست ذات قيمة كبرى.
إنّ تعرّضنا للّعنة هو الدليل على أننا من فيديليو،
فما شأن الدم إذًا؟”
رغم أنّ بريسيلا لم تفهم مغزى كلماته، إلّا أنّ سيلفانوس واصل حديثه بنبرةٍ مفعمةٍ بالمرارة:
“أليس من العجب أن تكون اللعنة التي تنهشنا هي ذاتها التي تضمن استمرارنا؟”
رمقته الطفلة بعينيها الواسعتين، عاجزةً عن فهمٍ أو سؤال.
“أيُّ سخريةٍ تلك؟
نُرغم الأطفال على إنجاب أطفالٍ أصغر،
بينما يمكن لأيّ شخصٍ أن يحمل إرثنا ويُدعى من فيديليو.”
ابتسم سيلفانوس بسخريةٍ حزينة، وقد لفّ وجهه ظلّ ثقيل.
“حتى النساء اللواتي تزوّجن رجال العائلة ونلن الاسم صرن ضحايا للعنة ذاتها.”
فالمرأة حين تتزوّج، تحمل اسم زوجها،
وهكذا كانت اللعنة تمتدّ إليهنّ أيضًا.
قديماً، كان ذلك حتميًّا،
أما الآن، ومع خفوت اللعنة، صار الأمر خاضعًا للحظ.
لكنّ والدة بريسيلا كانت من أولئك اللواتي لم يُنصفهنّ القدر،
إذ التهمتها اللعنة ساعة ولادة ابنتها، وماتت في مخاضٍ أليمٍ كالنار.
“عائلةٌ متهالكةٌ حتى العظم.”
لم تدرك بريسيلا تمامًا ما قاله والدها،
لكنّ سواد وجهه أخافها،
فقامت إليه بهدوءٍ، ومدّت يدها الصغيرة لتربّت على أصابعه النحيلة.
كانت تلك لمسةَ عزاءٍ طفوليّة.
“بريسيلا، لَقَد نالتكِ اللعنة،
لكن عيشي بسعادةٍ في هذه العائلة المحطّمة.
دعي كلّ الأعباء لتلك المرأة وطفلها، واحتفظي لنفسكِ بالأيام الهانئة فقط.”
ضمّها سيلفانوس إلى صدره بعاطفةٍ جارفةٍ امتزج فيها الحنان بالذنب.
“لهذا السبب سأُدخله في نسبنا.
سأستخدم ابن تلك المرأة من أجلكِ.
هل تفهمين قصدي؟”
“نعم.”
أجابت ببساطةٍ، دون أن تدرك شيئًا.
كانت تريد فقط أن تُرضي أباها الحزين.
“شكرًا لكِ يا بريسيلا… شكرًا لأنك سمحتِ لي.”
ولم تعلم إلّا بعد مرور سنين طويلة
أنّ ذلك الشاب الذي احتضنها يومها لم يكن رجلًا مكتملًا، بل فتى لم يتجاوز السابعة عشرة.
بعد موافقتها البريئة، تمّ كلّ شيء بسرعةٍ مدهشة.
أُدرج اسم إردان على أنّه قريبٌ بعيد، وتبنّاه سيلفانوس رسميًّا.
ورغم أنّ العُرف لم يمنع تبنّي الغرباء،
إلّا أنّ أعراف فيديليو التي تفرض على الأبناء إنجاب الورثة باكرًا
جعلت ادّعاء القرابة غطاءً ملائمًا لتجنّب الجدل.
كانت هناك معارضةٌ ضئيلة،
لكنّ موت والدة بريسيلا أثناء الولادة بسبب اللعنة
أثار الخوف من مصيرٍ مشابهٍ لطفلتها،
فانتهى الأمر بتبنّي إردان ودخوله بيت فيديليو.
—
“ماذا تفعل؟”
حتى بعد التبني، بقيت بريسيلا طفلة.
“لماذا هذا الشيء يتألّم؟”
لكنها، رغم صغرها، أدركت أنّ شقيقها الجديد ليس طبيعيًّا.
“هل هناك خطب؟”
كان إردان يجلس في زاوية الحديقة، يفتك بالحشرات ويُجزّئها قطعةً قطعة.
لم يكن المشهد غريبًا تمامًا على بريسيلا؛
فقد سبق أن نزعت جناحًا من يعسوبٍ بدافع الفضول،
وشاهدت كيف كان يترنّح عاجزًا عن الطيران.
لكنها لم تربط يومًا قطةً لتقذفها بالحجارة.
“القطة تتألم.”
“أعرف.”
أجابها بهدوءٍ ووقاحة.
“لكن ما المشكلة؟”
“أوه…”
ارتبكت الطفلة.
شعرت بأنّ ما يفعله خطأ،
لكنّ ثقته جعلتها تتردّد في قول شيء.
“أليس هذا فعلًا خاطئًا؟”
سألته مجددًا بوجهٍ مرتبك.
“إنه أضعف منّي، فما الضرر؟”
تطلّع إليها بنظرةٍ باردة، ثم نهض مبتعدًا.
بريسيلا بقيت في حيرةٍ لا تفهمها.
لم يقتصر الأمر على الحشرات أو الحيوانات.
كان إردان يضرب الخدم دون تردّد.
“أيّها الأحمق! حتى هذا لا تعرف كيف تفعله؟”
“كيف تجرؤ على النظر في وجهي؟”
كان يحتقرهم جميعًا.
وإذا سُئل عن أفعاله، أجاب بابتسامةٍ باردة:
“ألقيته في الماء لأنني شعرت بالملل، لا أكثر.”
انتشرت أفعاله بين أرجاء المنزل حتى وصلت إلى أذن سيلفانوس.
“ضربته لأنه عصاني. آسف لأنني سبّبت القلق، لم أشأ أن أرهقكم بمشاكل الخدم.”
قالها بابتسامةٍ مصطنعةٍ وهو ينحني.
جلست بريسيلا إلى جوارهم، تتلفّت بينهما بقلقٍ طفولي.
كان الموقف غريبًا: أخوها الذي لا يرى الخطأ خطأً،
يعتذر الآن وكأنه المذنب.
“سمعت أنّ ما فعله لم يكن بتلك الخطورة.”
قال سيلفانوس بنبرةٍ صارمةٍ، دون أن يلين وجهه.
تجمّد وجه إردان شيئًا فشيئًا.
“أنا ابنك، أليس كذلك؟ عليك أن تصدّقني.”
“كلا. أنت لست ابني، بل طفلٌ تبنّيته من أجل ابنتي.
ولذلك أصدّق من خدموني سنين طويلة أكثر منك.”
غابت البسمة عن وجه إردان كليًّا.
“إذن هم لا يحترمونني لأنك تعاملني كغريب.”
رفع عينيه بعينين حاقدتين.
“لقد عاقبتهم فقط لأنهم استهانوا بي.
ومهما كان سبب تبنّيي، سأكون وريث هذه الدار،
أليس من الطبيعي أن أفرض هيبتي؟”
“يا لك من مغرور.”
ضحك سيلفانوس بسخريةٍ حادّة.
“تُمنح فرصة الحياة في بيت النبلاء،
بدل أن تشكر وتتعلّم وتسعى للارتقاء،
تتحدث عن الهيبة؟”
ضرب الطاولة بيده غاضبًا حتى ارتجّ صداها في القاعة.
“أيها الخادم!”
“نعم، سيدي.”
أجابه إيريك، كبير الخدم السابق، وقد غزا الشيب رأسه.
“احبس هذا الفتى، واجعله ينسخ كتب الأخلاق والآداب مئة مرّة.
ولا تدعه يغادر غرفته حتى ينتهي.”
لقد تبنّى سيلفانوس إردان وفاءً لوصية محبوبته الأخيرة “إيلينا”،
لكن الحقيقة أنّ ما كان يحرّكه لم يكن الحنوّ على الطفل، بل بقايا الحبّ لامرأةٍ لم يستطع نسيانها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 121"