“لقد طلبتْ نوعًا من السحر لم يكن بوسع أيّ ساحرٍ آخر أن يُتقنه.
حتى أنا كدتُ أرفضه لصعوبته وإرهاقه، لكنّها عرضت عليّ مبلغًا يفوق الخيال، فاستسلمتُ لإغراء المال. كانت تملك ثروةً طائلة وتنفقها ببذخٍ مدهش، لذا أنصحكِ أن تتقرّبي منها، فقد يعود عليكِ ذلك بنفعٍ عظيم.”
قال لويس عباراته تلك بنبرةٍ متباهيةٍ كأنّه أفاض عليّ بحكمةٍ ثمينة.
فاكتفيتُ بخفض بصري، وارتسمت على فمي ابتسامةٌ يائسةٌ تنضح مرارةً.
“لقد ماتت تلك المرأة.”
“همم… إذًا فالرابح الحقيقي هو من ورث مالها.”
كلا، لم يكن الأمر كذلك البتّة.
فإن كنتُ قد ورثتُ عنها شيئًا، فهو الزواج…
ذلك الإرث المشؤوم الذي جلب عليّ الذلّ والعار.
غير أنّي أخفيتُ تلك الحقيقة خلف ابتسامةٍ باهتة، إذ لم يكن يليق أن أُفصح عنها أمام لويس.
“سأنصرف الآن.”
أفرغ لويس آخر لقمةٍ من طبق الحلوى، ثم نهض وغادر بخفّة.
تابعتُه ببصري وهو يبتعد، وتمتمتُ لنفسي بصوتٍ خافت:
“المرأة التي أورثتني ذلك الزواج المقيت، تركتْ لي أيضًا إرثًا آخر أكثر غموضًا.”
حدّقتُ في اللفافة السحرية بين يديّ صامتةً مذهولة.
ما الذي كانت “بريسيلا” تسعى إليه من خلالي؟
هل سيُكشف لي السرّ إن فتحتُ هذه اللفافة؟
وبعد لحظاتٍ طويلةٍ من التردّد، مزّقتُها.
—
كان ذلك في يومٍ شتويٍّ ماطرٍ، يومٍ انهمرت فيه السماء كأنّها تُفرغ غضبها، يصاحبه رعدٌ يهدر وبرقٌ يشقّ العتمة.
“كأنّ السماء قد انشقّت نصفين!”
ذلك ما فكّرت به بريسيلا الصغيرة ذات الأعوام الأربعة، وهي تحدّق من خلف زجاج النافذة في المطر المتساقط.
“ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟!”
جلجل صوت أبيها “سيلفانوس” في أرجاء القصر، فالتفتت بريسيلا إلى مصدره.
رأت امرأةً شاحبة البشرة، يقطر من شعرها البلل، واقفةً عند المدخل كأنّها خرجت من بين العواصف نفسها.
من أين أتت تلك المرأة؟
احتضنت بريسيلا دميتها الصغيرة بذراعين مرتعشتين، وحدّقت في أرجاء الغرفة بعينين تملؤهما الحيرة.
كانت تلك غرفة والدها، ولم تكن لتدخلها في مثل هذه الساعة لولا أنّها فزعت من صوت الرعد وأتت تطلب حضنه.
“همم؟”
لاحظت شيئًا غريبًا…
لوحة أمّها الراحلة التي لم تُفتح يومًا كانت هذه المرّة مفتوحة!
لكن كيف تُفتح لوحة؟ لم تستوعب الأمر.
وراءها تجلّى فراغٌ أسود كظلمة الليل، يتماهى مع هيئة تلك المرأة الغريبة، كأنّها خرجت من جوف العدم نفسه.
قال سيلفانوس بغضبٍ جارفٍ:
“امرأةٌ هربت من بيت الماركيز، وتركتني، ثم تعود من ممرٍّ سرّيّ؟ إنه جرمٌ لا يُغتفر حتى في الموت!”
مدّ يده نحو السيف المعلّق على الجدار.
‘ما الذي يحدث؟’
لم تفهم بريسيلا شيئًا، غير أنّ ضحكةً صغيرةً أفلتت منها.
فأبوها، رغم صوته الغاضب، بدا صغيرًا وضعيفًا، لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره.
اضطر إلى الزواج باكرًا، إذ كان وريثًا وحيدًا لعائلة “فيديليو” الملعونة التي لا يبقى أحد من نسلها على قيد الحياة حتى البلوغ.
ضحكت الطفلة لأنّه بدا كمن يتظاهر بالقوة.
فبدنه الهزيل وملامحه الندية جعلاه يبدو كصبيٍّ يحمل سيفًا أكبر من حجمه.
قالت المرأة بصوتٍ ساخرٍ متهكّم:
“كان عليك أن تُغلق الممرّ، يا سيس.”
اقتربت منه بخطواتٍ هادئة، وقالت بنبرةٍ مشوبةٍ بالاستهزاء:
“أكنت تنتظرني حقًّا؟”
“ما هذه السخافة! بعد أن خنتِني؟!”
صرخ سيلفانوس بحرقةٍ هائلة.
“لماذا؟ لماذا فعلتِ بي ذلك؟!”
أضاء البرق الغرفة للحظةٍ خاطفة، فرأت بريسيلا حينها أنّ المرأة، على رغم سوادها الغامض، كانت فاتنة الجمال.
ورأت أيضًا دموع أبيها المنهمرة بحرقةٍ تُدمِي القلب.
“لقد وعدتِني يا إيلينا! وعدتِ أن تبقي إلى جانبي، أن نتزوّج ونقود عائلة فيديليو معًا! قلتِ إنّك ستحمين طفلي إن أنا متّ!”
اختفى الضوء، لكن صدى نحيبه ظلّ يتردّد في الجدران.
“كنتُ أؤمن بكِ، إيلينا…”
قالها بصوتٍ مختنقٍ بالبكاء.
ابتسمت إيلينا، ومدّت يديها تمسك قبضتيه المرتجفتين على السيف.
“أنا آسفة، يا سيس…”
قالتها برفقٍ حزين، ثم انتزعت السيف من يديه وأسقطته أرضًا، وضمّته إلى صدرها كما تضمّ الأمّ طفلها الضائع.
“لقد عدت… وإن بعد حين.”
ألصقت خدّها بخدّه، وهمست بصوتٍ يقطر دفئًا وحنينًا، كأنّها تعوّضه عن سنينٍ من الفقد.
أما هو، فبكى في أحضانها كطفلٍ تاه طويلاً.
شعرت بريسيلا بانقباضٍ في صدرها الصغير، فشدّت على دميتها أكثر.
‘كأنّ شيطانًا نزل من السماء ليلتهم أبي.’
كان ذلك وصفها البريء لما شهدته تلك الليلة.
“سيس…
أنا سأموت قريبًا.”
قالت إيلينا بصوتٍ رقيقٍ كنسمةٍ باردة.
“ماذا؟!”
اهتزّ صوته كمن سُقي فجأة صاعقةً من الرعب.
“أريد منك أن تُحقّق لي رغبةً أخيرة… أتفعل؟”
كانت كلماتها تنساب رشيقةً كالعسل، لكنّها مسمومةٌ بالفتنة.
“أرجوك، افعلها…
لقد عدتُ إليك، إلى صدرك.”
كان صوتها همسَ شيطانٍ جميلٍ يُغري بالعهد.
“ستفعل، أليس كذلك؟ سيس الطيّب؟”
كأنّها تُلقي عليه تعويذةً لا فكاك منها.
أدارت بريسيلا وجهها عنهما بخجلٍ غامض، شاعرةً أنّها تُشاهد ما لا ينبغي لطفلةٍ أن تراه.
“……!”
وفجأة رأت شخصًا ثالثًا في الغرفة
طفلًا صغيرًا يكبرها بقليل.
كان اسمه “إردان”.
ولم تعرف بريسيلا هذا الاسم إلا بعد أيام، حين رحلت إيلينا مجددًا، تاركةً ذلك الطفل وراءها.
—
منذ تلك الليلة، جلس سيلفانوس أمام ابنته الصغيرة وأخذ يروي لها أمورًا أعقد من أن يدركها عقلُ طفلةٍ في الرابعة.
قال إنّ تلك المرأة كانت خطيبته منذ الطفولة، وإنّهما كبرا سويًّا في بيت الماركيز، حتى خانته وهربت مع سائق العربة.
وقال إنّه تزوّج أمَّ بريسيلا على عجلٍ لينجب وريثًا، إذ كانت لعنة العائلة تقترب منه.
وأنّ المرأة التي ظهرت ليلة المطر هي نفسها تلك الخائنة التي عادت بعد سنينٍ طويلة.
“الكلام صعب.”
قالت بريسيلا ببراءةٍ طفوليةٍ وهي لا تفهم سوى القليل.
ابتسم سيلفانوس بحزنٍ وربّت على شعرها.
“أعلم ذلك.
لكن سيحين يومٌ يجب أن تعرفي فيه كلّ شيء.”
“لِمَ؟”
“لأنّكِ ستكونين سيّدة هذا القصر قريبًا، يا صغيرتي.”
أمالت رأسها باستغرابٍ وقالت:
“لكنّي مريضة.”
تجمّد وجهه في لحظةٍ من الألم.
“إنّها اللعنة، أبي.”
قالتها ببساطةٍ مؤلمةٍ وهي لا تُدرك ما تقول.
فلعنة آل فيديليو التي أزهقت أرواح أبنائها قبل البلوغ كانت قد امتدّت إليها.
“سأموت، ولن أصبح الماركيزة.”
قالتها ببراءةٍ مروّعة، كأنّها تتحدث عن لعبةٍ مملة.
“كلا، لن تموتي يا بريسيلا.
ستكونين بخير، وستكبرين.”
وأيّ أبٍ يستطيع أن يخبر طفلته بحقيقة موتها؟
فكذب عليها بصوتٍ متهدّجٍ ككلّ الآباء الذين يعجزون عن مواجهة الفقد.
“هل سأتزوّج؟”
“هاه؟ تتزوّجين؟”
“سأتزوّج، وأنجب طفلًا، ثم أموت مثلك؟”
كانت كلماتها كطعنةٍ ناعمةٍ في قلبه.
فهي لا تعلم أنّها تردّد نبوءة العائلة عينها.
فلعنة فيديليو كانت تفتك بأبنائها قبل نضوجهم، لذلك كانوا يُزوّجونهم مبكرًا لضمان بقاء النسل.
كما حدث مع سيلفانوس نفسه الذي أنجبها وهو في الثالثة عشرة.
“لا، لا…
لن يكون الأمر كذلك.”
هزّ رأسه بعنف، محاولًا طرد تلك الفكرة الملعونة.
“كلّ ما أريده منكِ هو أن تعيشي بسعادةٍ يا صغيرتي، أن تأكلي جيدًا، وتلعبي، وتضحكي.”
“همم؟”
“ولهذا السبب…
سأُدخل ابن تلك المرأة في نسبنا.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 120"