“كان عليكِ أن تأتي أولًا وتطلبي أن نتقاسم الغنيمة، لكنكِ جشعةٌ بطبعكِ، تُجبرين الناس على ملاحقتكِ بكل هذا الإزعاج!”
تساءلتُ في نفسي: ما هي الثغرة التي تُمسكني بها أودري؟
هل هي تلك الحادثة التي اتُّهِمتُ فيها بالاحتيال على إحدى العائلات العامّة؟
أم صفقاتي المشبوهة في مجتمع النبلاء؟
أم اعتدائي على والديَّ؟
أم أنّها السحر الأسود؟
‘يا للغرابة، هناك من الأمور الكثير بحيث لا أعرف من أين أبدأ.’
كانت تبتزّني بأمورٍ لم أفعلها أصلًا، ومع ذلك إن أردتُ أن أعيش في هذه الجسدة وتحت هذا الاسم، فعليَّ أن أُذعن لتهديدها.
يا لها من دنيا ظالمة.
“ليس لديّ مال.”
“ماذا قلتِ؟”
تنفّستُ بعمقٍ وأبعدتُ خصلة شعرٍ عن وجهي.
“جثة التّنين ما تزال قيد الحفر، وسيستغرق استخراجها وتوزيعها وبيعها بضع سنوات على الأقل.”
“بضع سنوات؟ أتسخرين منّي؟”
حدّقت أودري بي من أعلى رأسي إلى أسفل قدميّ بنظرةٍ مريبة.
“إذن كيف ترتدين مثل هذه الثياب الفاخرة؟ أليست هذه كذبةً أخرى؟”
“هذه منحتني إيّاها السيدة كاميلا بنفسها. قالت إنه لا يليق بمَن أبرم عقدًا مع العائلة الإمبراطورية أن يتجوّل بملابسَ رثّة.”
ضاقت عيناها قليلًا وكأنها تَزِن صدقي في كلامي.
“قلتُ لكِ إنني لا أملك فلسًا واحدًا.”
“……”
“افعلي ما شئتِ باسمي، لن أمنعكِ، لكن لا تطلبي منّي استثمارًا أو نقودًا، فلن أستطيع تلبية ذلك.”
تذكّرتُ أنّ كاميلا وعدتني من قبل بأنها لن تسمح لماثيو الفاسد أن يحتال باسمي بعد الآن.
ولهذا، حتى لو ذكرت أودري اسمي في أي عملية، فلن تنطلي حيلتها على أحد.
“بعد بضع سنوات سأتمكن من دفع المال، فهل ستنتظرين إلى ذلك الحين؟”
قلتُها ببرودٍ وأنا أعلم أنني حينذاك لن أكون في هذه الإمبراطورية أصلًا.
“أقرضيني المال.”
تقاطعت ذراعا أودري أمام صدرها بثقةٍ مفرطة بعد أن رمقتني طويلًا.
“طالما أن صاحبة الجلالة اشترت لكِ ثيابًا، فبالتأكيد ستقرضكِ مالًا أيضًا، أو يمكنكِ أن تطلبي سلفةً على حساب ثمن جثة التّنين.”
‘حقًّا، ليت عقلها لم يكن بهذه الحدة المزعجة.’
“أتظنّينني حمقاء؟ متى تتوقعين أن أتمكن من تحصيل المال؟”
“سأرفع الأمر إلى مولاتي وأتواصل معكِ لاحقًا، لكن لا أعدكِ بشيء، فقد وقّعتُ عقدًا يجعلني الطرف الأضعف تمامًا.”
فما إن أنهيتُ كلمتي الأخيرة محاولةً كسب الوقت، حتى حدّقت بي أودري بحدةٍ ظاهرة.
“غريب أمركِ، تتصرفين بثقةٍ زائدة!”
“……”
“بدل أن تتوسّلي إليّ، تقفين أمامي بهذا الجفاء؟! إن كنتِ معدمة، فاستديني من أيّ مُرابٍ وأحضري المال فورًا أو…”
صرخت فجأة وهي تمدّ يدها لتقبض على شعري، لكن يدًا قوية صفعت يدها في الهواء قبل أن تلمسني.
“أعتذر لمقاطعتكنّ.”
التفتُّ فورًا نحو الصوت، وما إن رأيتُ مَن تدخّل حتى اتّسعت عيناي دهشة.
“اللورد زينون؟”
إنّه أحد فرسان الحراسة المخلصين لكاسروسيان.
أذكر أنّه في إحدى المرات دفعني قليلًا كي أتدخل أثناء خلافٍ بين هربرت والآخرين.
التفت إليّ مبتسمًا وغمز بعينه كما فعل سابقًا.
“البارونة ليريبيل مدعوّة فورًا إلى لقاء جلالته، الأمر عاجل، نرجو تفهّم الموقف.”
ثم تقدّم وأمسك بذراعي بلطفٍ ليدلّني نحو العربة التي جئتُ بها.
“ماذا؟! ألا تنوين الاعتذار؟ هيه!”
كانت أودري تصرخ من خلفنا غاضبةً كعادتها.
“تصرّفي هكذا يا ليريبيل! سنرى إلى أين توصلكِ هذه الجرأة!”
لم ألتفت، ولم أُحاول تهدئتها.
فهي مهما هدّدت، لن تجرؤ على كشف أسراري؛ إذ لن تجني من ذلك سوى سقوطها هي الأخرى.
“هل الأمر عاجل فعلًا؟” سألتُ زينون وأنا أصعد العربة.
“يبدو أن ضيفًا قد وصل.”
“ضيف؟ ضيف مَن؟”
إن كان ضيفي، فكيف عرف كاسروسيان بذلك؟
وإن كان ضيفه، فما حاجتي أنا للحضور؟
“الضيف قصد جلالته، لكنه قال إنّ الأمر يتعلّق بكِ أيضًا، لذا أُمرنا باستدعائكِ.”
‘هل يُعقل أن يكون إردان؟’
هل جاء ليناقش أمر إبطال الزواج المتعثر؟
“لقد تأخّر كثيرًا إذًا.”
نظرتُ من نافذة العربة، وكان الأفق يبتلع آخر خيوط الشمس.
“الضيف وصل صباحًا.”
“صباحًا؟!”
“ومنذ ذلك الحين ينتظر عودتكِ، فلما لم تُظهري، أُمرتُ بالبحث عنكِ.”
يعني أن كاسروسيان والضيف كلاهما انتظراني طوال اليوم؟
حتى إنّ أحد فرسانه الشخصيين جاء بنفسه؟
“كم يؤسفني ذلك.”
“جلالته هو من أصرّ على الانتظار، فلا داعي للاعتذار يا سيدتي. فالذي يقضي حاجاته ليس عليه حرج.”
ابتسمتُ بخفةٍ مرتبكة، فردّ زينون بابتسامةٍ مازحة.
“لكن كيف وجدتني؟ لابدّ أن الأمر استغرق وقتًا.”
أمال رأسه قائلًا:
“جلالته كان يعلم تمامًا أين أنتِ.”
تجمّدتُ.
لقد جئتُ إلى هذا المكان وحدي دون رفيق، ولم أُخبر أحدًا بعزمي على زيارة منزل ليريبيل القديم، كي لا يُساء فهمي.
ومع ذلك، عرف كاسروسيان.
لابد أنه أرسل مَن يراقبني حمايةً لي كما ورد في بنود عقدنا.
“يبدو أنني تسببتُ بزلّة لسانٍ الآن.” قالها زينون بخجلٍ حين رأى وجهي المتصلّب.
“لا بأس.”
ابتسمتُ مجبرَةً وأنا أُخفض بصري، محاوِلةً إخفاء اضطرابي.
لم يُزعجني أنه أرسل مَن يراقبني… بل الشيء الذي أقلقني حقًّا هو أنّه علم بمكاني، وعلم أنني زرتُ منزل ليريبيل، وأنني استعنتُ بمرتزقةٍ لإصلاحه.
هل أدرك الآن حقيقتي؟
هل علم أنني لستُ ليريبيل نفسها؟
أحسستُ بنبضي يعلو كطَرقِ مطرقةٍ في صدري.
لم أشأ أن يكون كاسروسيان بالذات من يكتشف ذلك.
—
“أعتذر عن التأخّر.”
حين دخلتُ قاعة الاستقبال، كان الليل قد أرخى سدوله، وتوّج القمر سماء القصر.
“لا بأس.”
ارتجفَت يداي لحظةَ سمعتُ صوته، ذاك الصوت الذي لم أنسه.
انحنيتُ برزانةٍ ممسكةً بطرف ثوبي، ثم رفعت رأسي لأواجه كاسروسيان.
“……”
منذ أن رآني بعينَيّ الحمراوين لم أعد أراه بلا نظّارة، أما الآن فقد عاد يضع تلك العدسات السميكة المعتمة التي تُغطي وجهه.
حتى شعره أعاده إلى تسريحته القديمة الدقيقة.
بدا غريبًا عليّ…
غريبًا إلى حدٍّ مؤلم.
“اجلسي.”
نطقت كلمته نبرةٌ رسمية جافة، خالية من أيّ دفء أو عاطفة.
نفس النبرة التي كلّمني بها يوم عقدنا الاتفاق.
وكأن كلّ ما بيننا قد انمحى كغبارٍ في الريح.
“حسنًا.”
جلستُ في صمتٍ مطبق.
آه… إنه يعلم إذًا.
يعلم كلّ ما اقترفته ليريبيل من خطايا وأفعالٍ مشينة.
لذا سحب عنّي تلك الرعاية اللطيفة، وكأنه لم يُبدِ حنانًا قط.
لم أكن بحاجةٍ إلى أحدٍ ليخبرني بذلك.
لقد أدركتُه من نبرته وحدها.
لم أشعر بالخيانة، بل بالفهم المرّ.
فمن ذا الذي يمكنه أن يبقى على وُدّه إن علم أن من يثق بها كانت مجرمة؟
حتى ادعائي بفقدان الذاكرة، بعدما عرف الحقيقة، لا بد أنه صار أعذارًا جوفاء.
من الطبيعي إذًا أن يبتعد.
نعم، هذا طبيعي.
لو كنتُ مكانه، لفعلتُ الشيء نفسه.
‘كان من حسن حظّي أنني لم أقل له إنني متجسدة. وإلا لاعتبرني مجنونة أيضًا.’
خفضت رأسي أكثر، محاوِلةً إخفاء دموعٍ حارقة كادت تنفلت.
[MY BABY 🥹🥹🥹💔].
إنه تصرف طبيعي، أكرّره في ذهني، وأقنع نفسي به…
لكنّ عينيَّ تحترقان رغم ذلك.
أتكون هذه المرارة لأنّ ما بُني بيننا ينهار لأسبابٍ لم أرتكبها أنا؟
أم لأنها المرة الأولى التي أشعر فيها أنني عاجزة عن الدفاع عن نفسي؟
كان حلقي يؤلمني كمن ابتلع جمرة.
“الكونت وارت، تفضّل وفسّر للبارونة سبب زيارتك.”
وصلني صوته البارد كطعنةٍ في الصدر.
كتمتُ شهقةً، وحاولتُ السيطرة على دموعي.
لم يكن ألمه نابعًا من غضبه…
بل من الخوف.
الخوف من أن أُدان بتُهمٍ لم أرتكبها، وأن أُساق إلى المقصلة بسبب ماضي شخصٍ آخر.
نعم…
ذلك هو السبب، بلا شك.
التعليقات لهذا الفصل " 118"