اختفى والداها كما لو أن الأرض ابتلعتهما دون أن تترك أثرًا.

وعندما بلغت ليريبيل السنّ المناسبة لتسلّم اللقب، قرّرت الإبلاغ رسميًّا عن اختفائهما الغامض.

‘لم يُعرف مصيرهما لسنوات، فاعتُبرا ميتين. ومن ثم قالت إنّه يتوجّب عليّ أن أَرِث اللقب بنفسي.’

كانت عائلتها تحمل اللقب فقط، لا تنتمي إلى نبلاء البلاط، ولا إلى إحدى العائلات الخادمة، ولا حتى إلى النبلاء الحاكمين.

أُجريت بعض التحقيقات السطحية بلا جدّية، وفي النهاية مُنِحت ليريبيل لقب “بارونة فيليس”.

‘لكن مهما نظرت إلى الأمر، يبقى مريبًا.’

ربما بدا هذا الحكم قاسيًا عليها، لكن إحساسي الداخلي يخبرني أنّها ليست بريئة تمامًا.

اختفى والداها بعد أن ربح والدها مبلغًا ضخمًا من القمار، سَدَّد به جميع ديونه، وبقي معه فائض من المال.

بعد ذلك بفترة وجيزة، بدأت ليريبيل تبيع مجوهرات والدتها أو ترتديها بنفسها.

كانت والدتها امرأة جميلة تبيع جمالها للرجال، وتعيش برخاء رغم ديون زوجها، لذا لم يكن غريبًا أن يثير الأمر الشبهات حول ليريبيل.

الآن أدركتُ السبب وراء نظرات كاميلا المريبة نحوي، وشكوكها التي لم تهدأ حتى النهاية.

“ليس من العدل أن أُلبَسَ روحًا بهذه الطريقة…”

توقّفت عن الكلام، وهززت رأسي بأسى.

لقد حدث ما حدث، والاعتراض لن يُغيّر شيئًا.

ومع أنّ ماضي ليريبيل لا يمكن تغييره، فإن لغز اختفاء والديها لم يُحسَم بعد.

وربما يمكنني تصحيح هذا الجزء على الأقل.

“هاه…”

قضيت وقتًا طويلًا أفتّش في غرفة والديها عن أي دليلٍ يبرّئها من التهمة، لكن دون جدوى.

“ربما يكون الدليل في مكانٍ آخر…”

تمتمت بضيق وأنا أستعدّ للمغادرة، لكن فجأة شعرت بشيء يعلق عند أصابع قدمي.

نظرت إلى الأسفل فرأيت الأرض مغطاة بطبقةٍ كثيفة من الغبار.

انحنيت أزيح الغبار، فاكتشفت فتحة مربّعة صغيرة، بداخلها تجويف أشبه بمقبض.

ويبدو أنّ قدمي انزلقت داخلها.

بوجهٍ متجهّم، أدخلتُ يدي وسحبتُ الغطاء بقوة، حتى انبعث صوت صريرٍ خشن، وارتفع اللوح عن الأرض.

وما كُشف أمامي كان سلّمًا يقود إلى الأسفل.

“…قد يكون خطرًا؟”

ابتلعت ريقي وترددت.

كان الخوف يزحف في صدري أمام تلك الفتحة المظلمة التي تشبه فم وحشٍ ينتظر فريسته.

لكن التردد لم يدم طويلًا.

أشعلت شمعة، ونزلت وحدي إلى السرداب.

‘إن كان هذا المكان يحمل دليلًا على شرّ ليريبيل الخفي، فلا أحد يجب أن يراه سواي.’

فطالما سأعيش بهويتها، لا أريد أن يُوجَّه إليّ اللوم على ماضٍ لم أرتكبه.

إن كان بالإمكان إخفاء الحقيقة، فسأفعل.

وما إن وصلتُ إلى أسفل، حتى تجمّدت في مكاني.

“لقد حدث شيء…”

كانت الرفوف ممتلئة بكتبٍ تحمل عناوين مثيرة للريبة:

“أساسيات السحر الأسود”، “تاريخ السحر وسوء الفهم”، “طرق صنع الجرعات لتحسين حياتك”، وغيرها.

وعلى الطاولة وُضعت قوارير تحوي سوائل غامضة، فيما رُسمت على الأرض دائرة سحرية ملوّثة بالدماء.

كان المكان بأكمله يبدو وكأنّه مختبرٌ مخصّص لدراسة وممارسة السحر الأسود.

في الإمبراطورية، مجرّد البحث في السحر الأسود يُعد جريمة كبرى، أمّا ممارسته فهي طريقٌ مباشر إلى المقصلة.

“لماذا عليّ أن أعيش حياة معقدة إلى هذا الحد…”

تنهدتُ بمرارة، وأنا أنظر إلى تلك الأدلة التي قد تُودي بحياتي، رغم أنّني لم أفعل شيئًا.

—

لم أنتظر طويلًا.

تصرفت بسرعة.

في الصباح التالي زارني بعض العمّال، وقضيت النهار في إزالة كل أثرٍ للسرداب المشؤوم.

أحرقت الكتب، وسكبت السوائل المجهولة فوق تربة نباتات ميتة لتختفي.

كسرت القوارير، ودهنت الأرض بصبغة سميكة لتُخفي الدائرة السحرية.

ثم أغلقت مدخل السرداب بأوتادٍ متينة.

بعدها طلبت من نقابة المرتزقة حراسة المنزل من أي محاولة سرقة.

أقفلت جميع الأبواب والنوافذ، حتى لا يتمكّن أحد من التسلل.

‘ربما هذا هو السبب الذي حُلّت به روحي داخل جسدها… أو ربما هو المفتاح لمعرفة ليريبيل الحقيقية.’

لكنّني لم أجرؤ على المخاطرة بحياتي الآن.

كان حظّي حسنًا أن أحدًا لم يكتشف السر، وأن المنزل لم يتعرض للنهب.

كنت أعلم أنّ الأفضل هو بيع المنزل أو تركه، لكن دفن ماضي ليريبيل المظلم بدا لي أكثر حكمة.

‘حالما أنتهي من الانتقام، سأرحل إلى الخارج.’

راقبت العمّال وهم يُغلقون آخر نافذة، وشعرت كأنني أُغلق فصلًا من حياتي أيضًا.

رفضت جميع عروض المناصب: لا أريد أن أكون دوقة لتيسكان، ولا إمبراطورة لكاسروسيان.

لم أرغب بتوريط أحد في الخطر.

سأهاجر بعيدًا وأعيش حياة هادئة وثريّة.

“ليريبيل؟”

رفعت رأسي عندما سمعت صوتًا مألوفًا.

كانت أودري تقترب نحوي مبتسمة.

“كنت أظنّ أنني سأحتاج إلى البحث عنك بنفسي.”

‘يا للقدر…’

كنت مرهقة، ولا طاقة لي لمجادلتها بعد ما مررتُ به.

“كيف لم تردّي على رسائلي؟ هل أصبحتِ غنية لدرجة أنكِ لم تعودي تُكلمين أمثالي؟”

تبدلت ملامح أودري فجأة إلى الجدية، وضغطت على كتفي بقوة.

“هل تظنين أنني سأقف مكتوفة الأيدي بينما تستخدمين اسمي للاحتيال؟!”

“استخدم اسمك؟ ولماذا أفعل ذلك؟”

“أتسألينني؟!”

رفعت حاجبيها باستنكار.

“استخدام اسمي ليس جريمة! 

ما المشكلة في ذلك؟”

“حقًّا؟”

“بالتأكيد. طالما الأمر هكذا، عليكِ أن تشاركي أيضًا.”

استدارت وهي تلوّف خصلات شعرها الطويل بين أصابعها بلا اكتراث.

“كنت سأسوّي الأمر باسمي، لكن لم يصدقني أحد، لذلك أريدك أن تفعليها بنفسك.”

“ولِمَ أنا تحديدًا؟”

توقفت عن اللعب بشعرها، وحدّقت بي بثقة متعالية.

“لأنني قلت ذلك. أليس هذا سببًا كافيًا؟”

كانت تتحدث وكأنها سيدة تأمر خادمتها، لا صديقة تخاطب أخرى.

خلال تحقيقاتي عن ليريبيل، علمت أنّ أودري لم تكن صديقة مخلصة، بل رفيقة سوءٍ في كل مغامراتها الفاشلة.

“أنا لم أتزوج بعد، ولا أملك المال! عائلتي فقيرة! ألا يمكنك أن تُظهري بعض التعاطف مع صديقة بائسة مثلي؟ ألن تشاركي بعض ما كسبتِه؟ أم أصبحتِ قاسية لهذا الحد؟”

“هل هذا ما تسمّينه صداقة؟”

حدّقتُ فيها بصمت.

لو كانت تعتبر ليريبيل صديقة فعلًا، لما تحدثت بهذا التهكم أو حاولت ابتزازها بهذه السهولة.

والآن، ليست تعاملني كصديقة بل كأداة.

تريد المال فقط.

“هاه…”

أطلقت أودري تنهيدةً ثقيلة، ثم اقتربت أكثر حتى شعرت بأنفاسها تلامس وجهي.

“هل عليَّ أن أقول صراحة إنني أعرف أسرارك حتى تنفذي ما أطلبه؟”

ابتسمت ببرود.

تمامًا كما قرأت في التحقيقات، كانت أودري دائمًا تتحكم بليريبيل وتُخضعها.

“لماذا تتظاهرين بالطيبة؟ لو تحدثتِ بلطفٍ قليل، لكنتُ سمعتُ لكِ. لكن يبدو أنكِ لا تملكين أي ذوق.”

ثم دفعت كتفي بيدها بخفةٍ، كأنها تقول:

“تحرّكي، لا وقت لديّ لهذا.”