“حسنًا، ذلك يعتمد على مدى إخلاص أولئك النبلاء للماركيز، أليس كذلك؟”
 
قال فينسنت وهو يُلقي نظرةً على أرجاء المكتب الواسع.
 
“لستُ متأكدًا، لكن من الطبيعي أن لا يحبّ أحدٌ ربَّ عملٍ يتأخر شهورًا في دفع الأجور. 
خصوصًا إن كان يفرض ضرائب بنسبة ثمانين بالمئة.”
 
أجابت روزينا وهي تجلس إلى مكتبها وتفتح أوراقها بتأفّف.
 
“ما ينبغي أن نقلق بشأنه ليس أن يُكشف أمرنا، بل كيف سنعيد هذه المقاطعة الفوضويّة إلى سيرها الطبيعيّ من دون ليريبيل.”
 
زفر فينسنت ووارن تنهيدةً طويلة أثقلت صدريهما.
 
كان القول بأنهم بقوا في المقاطعة فقط لأن لا مأوى لهم سوى القصر، حقيقةً لا جدال فيها.
 
وبسبب ذلك، شهدوا بأعينهم كيف بدأ الخراب يلتهم المقاطعة التي أعادت ليريبيل إحياءها بشقّ الأنفُس.
 
هل يمكنهم إصلاح كل هذا بأنفسهم؟
 
كان الأمر موضع شكّ، والإيمان بقدرتهم ضعيفًا للغاية.
 
ومع ذلك، عادوا تلبيةً لطلبها الصادق.
 
جزءٌ من الوفاء، والكثير من المال، وطموحُ العالِم الذي يهوى حلَّ المسائل المستعصية — كلها كانت دوافعهم للعودة.
 
“أيُّ سيدةٍ تلك التي، بعد أن طُردت شرَّ طردة، تهرع لإنقاذ المقاطعة التي خذلتها؟”
 
“حقًّا. 
لو كانت غيرها، لتمنّت انهيارها التام، بل لصلّت من أجل ذلك!”
 
وربما كان السبب الأهم أنهم لم يكونوا وقحين بما يكفي لرفض رجاء ليريبيل النبيل.
 
“كفّوا عن الثرثرة، ولنبدأ أولًا بجمع المال.”
 
ابتسم فينسنت ووارن بخفة، وبدآ مع روزينا بترتيب الأوراق المبعثرة في المكتب.
 
وفي غضون يومين فقط، استطاعوا جمع قدرٍ كافٍ من المال لتوزيعه على جميع العمّال والخدم.
 
لم تكن كل الأجور المتأخّرة، لكنها كانت كافية لإعادة بصيص الأمل في نفوسٍ أنهكها الانتظار.
 
قال بعضهم: “أخيرًا نستطيع أن نتنفّس.”
وقال آخرون: “هل سنحصل على باقي مستحقاتنا أيضًا؟”
 
ومع أنهم علموا أنّ هؤلاء الثلاثة هم معاونو ليريبيل، لزم الجميع الصمت.
 
“ومن تظنّون الذي دفع لنا رواتبنا المتأخرة؟ لولاهم لما قبضنا فلسًا واحدًا، فهل من الحكمة أن نطعنهم بعد ذلك؟”
 
“وإن صمتنا، فماذا عن المال الذي لم يُدفع بعد؟”
 
“تظنّ أن ذلك النبيل البائس سيدفع؟ 
دعونا نعيش بسلام.”
 
لقد أصبحوا، بطريقةٍ ما، شركاء في الجريمة، لأنهم قبضوا ما لهم من مالٍ بعد أن كان ميؤوسًا منه.
 
“لا سبب يجعلنا نخلص لذلك اللورد المزعوم على أيّ حال.”
 
وساهمت عدم ثقة الخدم في إردان في تعميق هذا الصمت.
 
حتى المشرفون في المناصب الوسطى اختاروا عدم الكلام، فمشاعر عدم الثقة بإردان امتزجت بالحنين والاحترام تجاه ليريبيل، وجعلتهم أكثر تسامحًا مع معاونيها.
 
وربما لأنهم تشاركوا الفكرة نفسها التي خطرت لنيك: “ربما تتحسّن أحوال المقاطعة بعودتهم.”
 
“ألَا يبدو ذلك الرجل مجنونًا تمامًا؟”
 
“المال! لا يوجد مال! 
كيف يُفترض بنا أن نُصلح الأمور دون مال؟”
 
“ما دام يأكل ويشرب ويعيش برخاء، فليذهب الجميع إلى الجحيم! لقد سئمت!”
 
بات هؤلاء الثلاثة، الذين أصبحوا أمل المقاطعة الأخير، يفكّرون في الهرب من شدّة الإحباط الذي شعروا به من تصرّفات إردان.
 
إردان لم يُعد الأموال التي صادرها من حاشيته إلى خزينة المقاطعة، بل احتفظ بها لنفسه.
 
ولم يكتفِ بذلك.
 
“أين يُنفق كلّ هذا المال؟ أليس لديه ماله الخاص؟ دَعْه يُنفقه بدلًا من أموالنا!”
 
مال ليريبيل، والأموال المصادَرة، وممتلكات بيت الماركيز بأكمله، كانت جميعها بين يديه.
 
ومع ذلك، استخدمها لشراء الحليّ الفاخرة، والملابس الباهظة، والأشياء عديمة الفائدة من المزادات الكبرى.
 
إذا اشترى دوق تيسكان لوحةً فنية، سارع إردان لشراء لوحةٍ من الرسّام ذاته بثمنٍ مضاعف.
 
بل وكان يحمل النقود نقدًا ويصرفها على أشياءٍ لا يُعرَف كنهها.
 
كان إسرافه جنونيًّا بحقّ، وكأنما غايته الوحيدة هي التبذير.
 
“بهذا الوضع لا يمكننا تخفيض الضرائب، فإيراداتنا بالكاد تُقارن بما كانت عليه.”
 
“نسبة هجرة العامة مرتفعة جدًا، الأسواق راكدة، والحرفيون يرحلون تباعًا.”
 
“نحتاج إلى المال… إن استطعنا فقط سدّ هذه الفجوات…”
 
كانوا يمزّقون شعرهم حيرةً في محاولةٍ لتحقيق وعد ليريبيل: أن يجعلوا الضرائب أخفَّ ليحيي الناس حياةً كريمة.
 
ولو أنّ إيلوديا لم تكن مسجونة، لهربت منذ زمن بعد أن رأت إلى أيّ حدّ يُهدر المال.
 
 
—
 
مع كلّ خطوةٍ أخطوها، تركت أقدامي آثارًا سوداء على الغبار الأبيض الذي غطّى الأرض.
 
لم يمسّ هذا المنزل بشرٌ منذ سنوات، والغبار وحده هو من سكنه.
 
سعلتُ وأغلقت فمي بكفّي، ثم أخذت أتفحّص المكان بعينين مثقلتين.
 
“…….”
 
كان هذا منزل ليريبيل.
 
ولولا المعلومات التي حصلتُ عليها من إحدى المنظمات السرّية، لما عرفت طريقه أبدًا.
 
“يبدو أنّ اللصوص لم يقتربوا من هنا.”
 
رغم أنّ الأبواب لم تكن مقفلة، إلّا أن المنزل ظلّ سالمًا، إمّا لأن الحيّ آمن، أو لأن الجميع علم أنّ لا شيء ذا قيمة فيه.
 
تحرّكتُ ببطء وأنا أتفحّص أرجاءه بدقّة.
 
غرفتان صغيرتان، وصالة متواضعة، ومطبخ ضيّق، ومستودعٌ فقيرٌ للمواد الغذائية.
 
الأثاث قديمٌ وباهت، والجدران خالية من اللوحات والستائر.
 
كلّ شيءٍ كما كان حين غادرت.
 
حتى خلوُّه من أيّ شيءٍ ذي قيمة بقي على حاله.
 
“صحيح.
عندما أستيقظت ورأيتُ هذا المشهد، أدركت أنني إن بقيت هنا فسأموت جوعًا، ولهذا ذهبتُ إلى بريسيلا.”
 
ورغم أن هذا البيت يخصّ الجسد الذي أعيش فيه، إلا أنّه لم يَعُد يمتُّ إليّ بصلة.
 
سبب زيارتي له كان رغبتي في التأكد من صدق المعلومات التي وصلَتني.
 
فإن كانت هناك بقية من أثر ليريبيل، فربما أستطيع من خلالها التحقّق من الحقيقة.
 
“لم أتوقّع أبدًا أن تكون قصّتها أعقد من مجرّد شخصيةٍ ثانوية.”
 
تذكّرتُ تفاصيل ما أرسلته المنظمة السرّية، وتنهدتُ بضيق.
 
“الكاتب فعل هذا نكايةً بي، لا شكّ في ذلك.”
 
فقط لأنني علّقتُ يومًا أن البطلة مملّة.
 
وُلدت ليريبيل لأبٍ مدمن على القمار وأمّ فاسدةٍ أثارت حولها الشبهات، ولم تَعرف طفولةً سعيدة.
 
لم تتلقَّ تربيةً سليمة أو تعليمًا يغرس القيم الأخلاقيّة.
 
تاريخها سلسلةٌ من الأفعال المشينة.
 
منذ صغرها، كانت تعمل في بيوت الأغنياء، تلاعب أطفالهم وتؤنسهم، لكنها كانت تُسيء إليهم خفيةً وتسرق ممتلكاتهم.
 
وفي بعض البيوت، تسلّلت إلى غرف الورثة بحماقةٍ لتنال مكانة السيّدة.
 
وفي أخرى، اتّهمت ربَّ البيت زورًا لتبتزّه بالمال.
 
‘ولعلّ ما منع انتشار تلك الفضائح أنّ الأسر التي استخدمتها كانت غنية، لكنها تبقى من العامّة، فتكتّمن على الأمر حفاظًا على سمعتهنّ.’
 
كانت ليريبيل بارعةً في استدراج أبناء أربابها للمشاركة في حماقاتها، لتضمن صمتهم إن كُشِف أمرها.
 
بهذا الأسلوب تربّت، وبهذا الفساد نضجت.
 
وحين بلغت، باعت ما سرقته واقترضت المال لتدخُل عالم النبلاء.
 
‘كيف لطفلةٍ صغيرة أن تستدين دون خوف؟’
 
هززتُ رأسي بأسف وأنا أتأمّل تلك المعلومات.
 
في مجتمع الطبقة العليا، كانت ليريبيل تبتزّ الرجال والنساء على حدٍّ سواء، وتستغلّ نقاط ضعفهم لابتزاز المال.
 
مارست الاحتيال، وسعت بشراسةٍ للزواج من أيّ نبيلٍ يُقرّبها من السلطة.
 
وعندما قرأتُ ذلك الجزء، شحب وجهي دون إرادة.
 
“…….”
 
ربّما كان حظّي حسنًا لأنّ أحدًا لم يذكر لي شيئًا من ماضيها.
 
‘لقد تغيّرت ليريبيل فجأة، بعد أن اختفى والداها دون أثر.’
 
فتحتُ الباب إلى الغرفة التي يُفترض أنّ والديها كانا ينامان فيها.
 
────────────୨ৎ────────────
فقط 116 فصل يفصلنا عن نهاية روايتي المُفضلة 😿. 
 
             
			
			
		
		
                                            
التعليقات لهذا الفصل " 116"