“عفوًا؟”
“استعد للخروج!” صرخ إردان وهو يضرب وجه غيلبرت بجريدة مجعّدة،
“ألا تدرك أننا بحاجة لمعرفة ما يجري؟”
ولكل كلمة نطق بها، سدّد ضربة جديدة بالجريدة إلى وجهه.
“نعم، حاضر.” انحنى غيلبرت وأجاب بخنوع.
لم يكن الأمر يُحدث فرقًا…
فهو دومًا الهدف المفضل لغضب إردان، أياً كانت الأسباب.
—
ابتسمت إيلوديا وهي تتأمل الوثيقة في يدها؛ كانت إشعارًا رسميًا من العائلة الإمبراطورية يؤكّد إتمام تسجيل زواجها.
غياب إردان سهّل الأمر عليها كثيرًا.
بالأمس، تسللت إلى غرفته أثناء غيابه وسرقت ختمه دون أن تُصدر صوتًا.
بذلك الختم، أرسلت استمارة الزواج مباشرة إلى القصر الإمبراطوري.
“من كان يظن أن الزواج قد يكون بهذه السهولة؟” تمتمت إيلوديا، مسترجعةً اللحظة التي أصبحت فيها دوقة كبرى.
حينها، كان عليها أن تستأذن شيوخ العائلة، وتخوض سلسلة من التحضيرات، وإجراءات بالغة التعقيد… وكل ذلك لم يكن ضروريًا الآن.
ببساطة، وضعت ختمه وأرسلت الأوراق، أما الإعلان، فكان مسألة صحيفة واحدة.
“الآن، لن يجرؤ أحد على تحقيري بوصفي من عامة الشعب.” همست لنفسها، مستذكرة كل الإهانات التي ابتلعتها.
“لقد وُلدتُ نبيلة أيضًا، لكن لم يكن أحد يعلم بذلك…”
نظرت إلى الطاولة أمامها بعينين يكسوهما حزن دفين.
كانت والدة إيلوديا خادمة في قصر أحد الكونتات، ووالدها… كان الكونت ذاته.
ولدت نتيجة علاقة غير شرعية جمعت بينهما.
“كان والدك ينوي الاعتراف بك رسميًا، لكن الكونتيسة رفضت ذلك بشراسة.
لم يكن بوسعه فعل شيء.
لكن تذكّري دائمًا، الكونت هو والدك الحقيقي.”
حرص الكونت على تزويج والدتها لسائق عربة مخلص، ليخفي الحقيقة ويجنّبها وصمة “الابنة غير الشرعية”.
لكن مع مرور السنوات، بدأت ملامح إيلوديا تعكس وجه الكونت بوضوح متزايد.
وبسبب الشائعات التي لحقتها، لجأ الكونت إلى صديقه المقرب، الماركيز فيديليو، طالبًا منه أن يأخذها للعمل خادمة في قصره.
سرٌّ لم يكن يعرفه أحد… حتى تيسكان لم يكن على دراية به.
“لا يمكنني كشف الأمر بنفسي.” غشّى الحزن ملامحها.
“حين تموت الكونتيسة، سيعترف بي والدي كابنته… لا أريد أن أغضبه بسبقٍ متهور.”
بما أنها ابنة غير شرعية، لم تكن لتحصل على مكانتها كعضو شرعي في العائلة إلا باعتراف رسمي من الكونت.
ولو أعلنت الأمر دون إذنه، قد يحرمها منها إلى الأبد.
وكان ذلك أسوأ كابوس يمكن أن تواجهه.
مثل البجعة التي خرجت من بين طيات البطة القبيحة، كانت عازمة على استرداد مكانتها.
وحين يحين ذلك اليوم… سيشعر الجميع بالندم.
سيندمون على نظرتهم الدونية، وعلى سخريتهم.
“…!”
كانت غارقة في خيالها، حين دوّى صوت ارتطام عنيف، جعلها تلتفت فورًا.
لقد فُتح الباب بعنفٍ شديد.
والداخل… لم يكن سوى إردان، زوجها الآن.
“أنتِ…”
تلبدت ملامحه بالغضب، وتقدّم نحوها بخطوات تهدد وكأنها توشك أن تتحول إلى صفعة.
“ما الذي فعلتِه؟”
لم يكن يصرخ، لكن صوته الخافت كان أفظع من أي صراخ؛ أشبه بزئيرٍ مكتوم لحيوان مفترس.
ارتجفت عينا إيلوديا وهي تحدّق به بذهول.
“هل… هل فاجأك الأمر؟” قالت وهي ترمش سريعًا، تخفض نظرها قليلًا، وتبتسم ابتسامة هزيلة.
“فاجأتني؟ تسألين إن كنتُ مصدومًا؟”
ضحك بتهكّم، ثم ركل الأريكة التي كانت تجلس عليها بعنف.
لم يضربها مباشرة، وكان ذلك أقصى ما استطاع كبحه من نفسه.
كان قد تحقّق من صحة الخبر قبل عودته إلى القصر. النتيجة؟ كل شيء كان حقيقيًا.
“تسجيل الزواج؟ أجل، وصل بالأمس بعد الظهر، فأنهيت المعاملة فورًا.
لمَ لا؟ أليست هذه المرأة هي من تحبها؟”
قالها كاسروسيان، الذي صادق ببساطة على زواجه من إيلوديا.
لم يستطع إردان الاعتراف له بأنه كان يخطط للتخلص من إيلوديا من خلال قطعة دانتيل ليعود إلى ليريبيل.
كبرياؤه منعه من ذلك.
فتجاهل نصيحته المبتذلة: “تحدث مع زوجتك لتمنع أفعالًا أكثر تهورًا”، وغادر القصر الإمبراطوري يغلي من الداخل.
“هل تدركين ما فعلتِ؟ هل تدركين؟!”
ركل الأريكة مجددًا، وفاض به الغضب…
غضب على إيلوديا التي حطّمت خططه للاستيلاء على أملاك ليريبيل.
“إردان!”
شهقت إيلوديا وهي ترتجف من عنفه المتصاعد.
“ما معنى هذا؟!”
كانت تتوقع منه الدهشة، بل حتى بعض الغضب.
فقد تجاهلت أوامره، وسرقت ختمه سرًا.
لكنها لم تتوقّع أن يراها خيانة تمسّ مكانته، وكبرياءه، وسلطته بهذه الصورة.
ألم يكن يحبها؟
لقد أحبها حتى بعد زواجها.
وبمجرد أن رحلت بريسيلا، العقبة الوحيدة، ركض نحوها معترفًا بحبه.
أجبرها على الطلاق من تيسكان، وضمّها إليه.
بل حاول حتى قتل زوجته السابقة التي رفضت الانفصال، فقط ليكون معها.
بعد كل هذا، ظنّت أنه سيغضب، لكنه سيتفهّم… سيتقبّل.
لكن ما تراه أمامها الآن… كان صدمة موجعة.
“ما زلتِ لا تفهمين خطأك؟!”
مرر يده في شعره بغضب واضح.
“ما الخطأ؟ كنا سنتزوج على أية حال!”
“قلت لكِ انتظري! وها أنتِ تتصرفين من وراء ظهري—”
“توقف!”
صرخت وهي تغطي أذنيها من الألفاظ النابية التي بدأت تتسلل إلى لسانه.
“أتدري لماذا فعلت هذا؟ لأجلك! لماذا لا تفهم؟!”
“لأجلي؟”
ضحك ضحكة باردة، وحدّق في الفراغ.
نعم… هذه هي إيلوديا.
دائمًا تتصرف من تلقاء نفسها، دائمًا تجرّه إلى كوارث لا يمكن التنبؤ بها.
كم مرة عضّ على أسنانه وهو يرمّم الفوضى التي تخلّفها؟
لو لم يكن حريصًا على التفوق على تيسكان، لكان صفعها مرارًا.
ومع كل هذا، لماذا لم يتوقع انزلاقها الجديد؟
بل… ما الذي جعل تيسكان يتمسّك بها؟ ما السحر الذي أغراه ودفعه إلى هذه الدوّامة؟
لو أن تيسكان كان أكثر حكمة، لما وقع في حبها.
ولما كان إردان الآن غارقًا في هذا المستنقع.
“هل تعتقدين أن العبث مع ليريبيل بتلك الطريقة السخيفة كان لأجلي؟”
رمشت إيلوديا بعينيها المتورمتين من الدموع، ولم تفهم ما يعنيه.
“أتحدث عن استخدامك لذلك القزم!”
صرخ إردان، ثم ألقى بقطعة دانتيل ملطّخة بالدماء في وجهها.
“…!”
شحب وجهها، وسقطت القطعة أمامها على الأرض… لكنها سرعان ما استجمعت رباطة جأشها.
“لا علم لي بشيء من هذا.”
“ماذا؟!”
عند ردّها الحازم، تقلصت ملامحه بغضب هادر.
لكنها واصلت حديثها بنبرة هادئة:
“صحيح أنني تحدّثت معه، لكنني لم أطلب منه فعل ذلك.”
التعليقات لهذا الفصل " 107"