بالكاد خرجت الكلمات متقطعة من فم جاكسن وهو يصرخ:
“أ-أنقذني! أرجوك!”
“احترم نفسك قليلاً.”
“قلت لك… أنقذني!”
“أنا الإمبراطور، إن كنت لا تعلم.”
“ما هذا الهراء؟ اللعـنة!
إن مُتّ هنا، هل ستتحمّل المسؤولية؟ ها؟!”
رغم أن كاسروسيان قد كشف عن هويته صراحة، إلا أن جاكسن لم يتورّع عن الحديث معه بوقاحة غير مسبوقة.
لم يكن ذلك نابعًا من سوء خلقه فحسب، بل من الذعر المطلق الذي اجتاحه بعد الإصابة التي أوشكت على أن تودي بحياته.
بل الأدهى، أن من الطبيعي ألا يصدق أن الإمبراطور—الرجل الذي لم يكن يتخيل يومًا أن يلتقيه—يقف الآن أمامه مباشرة.
“فكر جيدًا قبل أن تتكلم.”
قال كاسروسيان وهو يعقد ساقيه بهدوء.
“أنا الإمبراطور، والداعم الرسمي للبارونة ليريبيل… تلك التي حاولت إيذاءها.”
“هذا جنون محض!
إن لم تكن تنوي مساعدتي، فاغرب عن وجهي!”
زمجر جاكسن، وهو يقبض على بطنه، محاولًا أن ينهض بحذر، لكن قواه خانته.
ظل يتلوى على الأرض كحشرة بلا أجنحة، ثم تمتم بشتمة مكتومة قبل أن يرفع عينيه إلى كاسروسيان برجاء خافت.
“ربما… بالغت قليلًا.
أرجوك، أتوسل إليك…
ارحمني وساعدني.”
أدرك أخيرًا أنه إن واصل عناده، فسيلقى حتفه، فبدأ يتوسل بذل.
“هل تصدق أنني الإمبراطور؟”
“بالطبع، جلالتك.
أصدقك تمامًا.”
ابتسم جاكسن بتذلل، ولم يتردد في مناداة كاسروسيان بـ”جلالتك”.
ولو تطلب الأمر، لما تردد في مناداة خادم بـ”مولاي” لو كان ذلك سينقذه.
“حسنًا إذًا.”
ارتسمت على شفتي كاسروسيان ابتسامة ماكرة، وما لبث جسده أن بدأ يشعّ بضوء باهت.
“هـه؟ هـه… ما هذا؟!”
ذُهل جاكسن من المشهد، وازداد ذهوله حين شعر بالألم في بطنه يتلاشى شيئًا فشيئًا.
وضع يده على موضع الجرح… فلم يجد شيئًا.
لقد التأم كأن شيئًا لم يكن.
“هـ-هذا…”
“قلتُ لك، أنا الإمبراطور.”
اتسعت عينا جاكسن وهو ينظر إلى كاسروسيان، وقد خف بريق الضوء من جسده.
“آه… يبدو أنك لم تدرس تاريخ الإمبراطورية كما ينبغي.”
قال كاسروسيان بنبرة تشي بخيبة حقيقية.
“ببساطة، الأمير الثالث من مملكة تيسكان، كيشار، هو من استدعاه الحاكم لإنقاذ البشر بعد سقوطهم.
وقد هزم الشر بمعونة قديسة وتنين، وأسس أمة عظيمة…
هي إمبراطورية تينواس.”
عادت إلى ذهن جاكسن ومضات من دروس التاريخ التي تلقاها في طفولته، لكنه لم يستطع التفوه بكلمة.
فقد أفقدته المعجزة التي رآها القدرة على النطق، ومعها أيضًا صدمة احتمال أن يكون هذا الرجل حقًا هو الإمبراطور.
أضف إلى ذلك الجوّ الخانق الذي سلبه أنفاسه.
كل ما استطاع فعله هو التحديق في كاسروسيان بعينين تائهتين.
“لا أحد يستطيع الجزم إن كانت تلك القصص حقيقية أم خيالاً.
فجميع من عاشوا حينها رحلوا، وما تبقّى هو ما نُقل في الكتب.”
تابع كاسروسيان بهدوء.
“لكن ما هو مؤكد، أن الإمبراطور الأول كيشار مُنِح قوى من الحاكم، وورثها أبناؤه من بعده.
تعرف هذا، أليس كذلك؟”
حين التقت نظراتهما، ارتجف جاكسن وأومأ بسرعة.
“إذًا، ليس غريبًا أنني شفيتك.”
هزّ جاكسن رأسه بعنف، دون أن ينتبه إلى التناقض الصارخ في كلمات كاسروسيان.
كلام الإمبراطور بدا منطقيًا…
لكن الحقيقة أن تلك القوى قد اندثرت منذ قرون.
ولم يكن أحد يعلم أن الإمبراطور الحالي كاسروسيان، ذلك الذي لطالما وُصف بالعجز، يمتلك مثل هذه القوة.
ولو عُرف بذلك، لربما رُفِع مكانه بدلًا من أن يُهان.
“والسبب في أنني أُخبرك بهذا…”
قالها كاسروسيان بنبرة باردة، بينما كان جاكسن يخفض رأسه ليتفقد بطنه…
فإذا بالألم ينهش جسده مجددًا كدمية مكسورة.
“…هو لأنك ميت بالفعل.”
تجمد جاكسن مكانه.
ثقب آخر شق بطنه.
“أنت ميت.” جاء صوت كاسروسيان من فوقه.
كل ما يتفوه به أكاذيب…
لم يصدق جاكسن ما سمعه.
كان يتنفس.
وكان واعيًا.
صحيح أنه متألم، لكنه يتحرك!
كيف يمكن لميت أن يتحرك؟
لابد أنها أكاذيب، كما كذبة أنه الإمبراطور.
“هل تساءلت كيف ما زلت تتنفس؟ إنها قوتي… هي من تُبقي روحك معلّقة.”
فتح جاكسن فمه ليعترض…
“…غرررك…”
لكن الذي خرج لم يكن كلامًا…
بل حشرجة لا تشبه أي صوت بشري.
“قديماً، حين كان الكهنة يتمتعون بقوة الحاكم، كان إحياء الموتى مؤقتًا أمرًا شائعًا.”
قالها كاسروسيان بنبرة ساخرة، وهو يتأمل جاكسن المتألم.
“كانوا يفعلونها لمنح الموتى فرصة وداع أحبائهم.”
ثم اتسعت ابتسامته حتى تحوّلت إلى سخرية فاضحة.
“ما يعنيه هذا…
أنك ميت، وأنا من أحياك مؤقتًا، وستعود إلى الموت قريبًا.”
بدأت الحيرة تطفو في نظرات جاكسن الباهتة.
إن كان قد أُعيد للحياة ليودع أحبّاءه، فأين هم؟ لماذا لا يوجد سوى كاسروسيان هنا؟
لماذا لا يرى إيلوديا؟ ولا مايكونري؟ لا أحد… سواه.
“القدرة على إحياء الموتى مؤقتًا… مذهلة حقًا.”
قالها كاسروسيان، ثم لوّح بيده نحو الفراغ.
وفجأة…
بدأ أشخاص لم يكونوا هناك من قبل في الظهور، وتقدموا نحو جاكسن.
“لأنها تتيح لك تمزيق من مات…
قبل أن تُفرغ فيه كل غضبك.”
“…!”
في تلك اللحظة، أدرك جاكسن الحقيقة.
لقد أُعيد إلى الحياة فقط ليُعذَّب من جديد.
لأنّه أهان كاسروسيان، ولأنه تجرأ على الاقتراب من ليريبيل.
كم كان أحمق…
أغمض عينيه وسخر من عبثية الموقف.
لو أراد قتله، لكان عليه أن يقتله دون أن يتكلم.
كل ما فعله هو تأجيل النهاية…
فما إن أمسك به أتباع كاسروسيان، حتى لفظ أنفاسه.
لكن…
“آه!”
فتح جاكسن عينيه مجددًا.
“م-ما هذا؟!”
“أوه، ألم أخبرك؟ أنا بارع جدًا.
يمكنني إحياء الموتى…
مرات لا تُحصى.”
“…!”
ابتسم كاسروسيان ابتسامة باردة، مرعبة، وهو يحدّق في جاكسن المرتجف.
“أتساءل إلى متى سيحتمل الحاكم هذا الطفل الأحمق الذي يسيء استخدام نعمته.”
“أ-أرجوك… دعني أعيش!”
“عدد المرات التي ستُبعث فيها اليوم…
مرهون بصبر الحاكم.
فابتهل كثيرًا.”
ثم أشاح بنظره عن جاكسن الذي بدأت إنسانيته تتآكل تحت ضربات أتباعه، وتناول رزمة أوراق من أحدهم وبدأ في مطالعتها.
كان الكهنة قديمًا يتجنبون أدنى ذنب خوفًا من غضب الحاكم، أما كاسروسيان…
فلم يكن يهاب شيئًا.
لم يتردد يومًا في إساءة استخدام قواه.
حتى لو سُلبت منه، لم يكن ليتأثر.
فهو لم يطلبها أصلًا.
لم يرَ أي قيمة لحاكم أرهقه بهبة لم يشأها.
وما كان يهمّه الآن سوى شيء واحد…
أن يطفئ نيران غضبه على ذاك الوغد الذي تجرأ على إيذاء ليريبيل…
وتدنيس سمعتها.
التعليقات لهذا الفصل " 105"