هل أخطأت حقًا؟
كان القلق يتملكني، فلم أعد قادرة على السيطرة على توتري.
راحت يداي تتحركان بلا وعي، أُزيح خصلات شعري خلف أذني مرارًا، وأعبث بطرف ثوبي بعصبية.
“أيتها البارونة…”
لا أعلم كم من الوقت مرّ قبل أن يخترق صوت كاسروسيان سكون العربة التي كانت تتحرك بهدوء.
رفعت رأسي لأجده ينظر إليّ بعمق، متأملًا وجهي بنظرات لا أعلم كم طالت.
“هل تخططين للعودة إلى الماركيزية؟”
كان سؤاله كفيلًا بأن يجعلني أدرك أنني لم أُطلعه بعد على خطتي للانتقام من إردان.
“ليس أنا وحدي… البارونة، وكثيرون غيرها، لا بد أنهم يخفون أسرارهم، سواء كانت عظيمة أم ضئيلة.”
توقف لحظة ثم تابع بصوت منخفض:
“حتى لو لم أعد أرغب في خداعك، لن أتمكن من البوح بكل ما أخفيته، عن قصد أو دون قصد.
هناك أشياء أعجز عن التعبير عنها.”
إذن هذا ما كان يعنيه بكلماته تلك.
“نعم.” أجبت بصدق ودون أي محاولة للإخفاء.
“حتى لو كان ذلك من خلال إمساك يد إردان؟”
“نعم.”
كان ردّي واضحًا، حتى في وجه سؤاله التالي.
“هل اخترتِ هذا المسار حتى لا يتضرر الأبرياء، من سكان الماركيزية ومن تورطوا في انتقامك دون رغبة منهم؟”
“نعم، هذا صحيح.”
أكدتُ ذلك مجددًا دون تردد.
في الحقيقة، لم يكن من الضروري أن أُفصح له بكل هذا الوضوح.
ومع ذلك، لم أشأ أن أكذب، لأنني ببساطة…
“لا أريد أن أجيبك بكذبة.”
نعم، لقد شعرت حينها بما شعر به هو ذات يوم.
لم أكن أفهم كاسروسيان كليًا، وهذا أمر طبيعي، فنحن بشر مختلفون، ومهما اقتربنا من بعضنا، يبقى كل شخص غريبًا في أعماقه لا يقدر الآخر على سبر أغواره.
ولهذا، كثيرًا ما بدت لي كلماته وأفعاله عصية على الفهم.
وكانت تلك الجملة إحداها.
لم أدرك حينها لماذا لم يشأ أن يكذب في جوابه.
لكنني الآن، وقد استرجعت صورته في تلك اللحظات الصغيرة، أدركت.
ولهذا أردت أن أكون صادقة.
“هل أتصرف بغباء؟” سألت، غير قادرة على إخفاء خوفي من أن أكون قد ارتكبت خطأ.
نظر إليّ كاسروسيان بنظرة دافئة، وقال بهدوء:
“هل تذكرين الوثائق التي قدمتها لي عند طلاقك من الماركيز إردان؟”
“نعم، قدمتها لدحض ادعاءاته بالفساد، وأثبتُّ بها كيف أدرت شؤون الإقليم كحاكمة فعلية.”
“نعم، رأيت تلك الوثائق.” ارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة سرعان ما تلاشت.
“ولهذا السبب، لا أستطيع أن أصفك بالحمقاء.”
“ماذا تقصد؟”
“لأنكِ لن ترغبي أبدًا في تدمير الأرض التي رعيتها بعقلك وجسدك وروحك.”
ساد الصمت، ولم أجد ما أقوله.
“كيف يكون ذلك حماقة؟”
لم يكن ما فعلته من أجل تقدير الآخرين، بل لأنه واجب عليّ أن أتحمل تبعات قراراتي.
كان هذا كل شيء.
ومع ذلك، حين سمعت كلماته، كما حين قال لي خدم الماركيزية أنهم فعلوا ما فعلوه من أجلي، شعرت بفيض من المشاعر يغمرني.
كان قلبي ينتفخ فرحًا لأن هناك من فهم ما لم يُقال.
وشعرت بحرارة تعلو عينيّ، وبوخز في أنفي، فانحنيت برأسي.
تابع كاسروسيان بصوته الهادئ:
“ليس فقط لأنني رأيت الوثائق… بل لأنني أريد أن أحترمك.”
رفعت رأسي، والتقت نظراتنا، عينيّ بعينيه الحمراوين العميقتين.
“كما قلتِ لي ذات يوم… أنا أيضًا، معجب بك.”
“أنا معجبة بدقتك وطيبتك، يا جلالتك.”
“أعني… أنا أحترم جلالتك كإنسان!”
كنت أعلم أنه يعني بكلمة “معجب” ما قصدته أنا يومها… الاحترام.
لكن رغم ذلك، تصاعدت الحرارة إلى وجهي، لأن المشاعر التي غمرتني لم تترك وجنتيّ دون أثر.
“لهذا، لا أريد وصف آرائك بالحمقاء، ولا التدخل بحجة المساعدة.
هكذا أُظهر مشاعري.”
لأنه يُحب، فهو يحترم.
ولأنه يحترم، فهو لا يتدخل.
كاسروسيان لم يكن يخشى أن يُبغض أو يُساء إليه، بل كان مستعدًا لاستغلال الآخرين لتحقيق غاياته، حتى وإن قابلوه بالكراهية.
وربما لهذا السبب، أراد أن يُظهر احترامه لمن يُحب.
لكن… لماذا؟
لماذا ظهر حين كنت في مواجهة مع إردان؟ لو كان حقًا يحترمني، لترك لي زمام الأمور كما خططت.
قال بصوت امتزج فيه الحزن والقلق:
“لكني لست مرتاحًا لفكرة عودتك إلى جانب ذلك الوغد، الماركيز إردان.”
تشابكت يداه فوق ركبتيه، وارتسم القلق واضحًا على محياه.
“أخشى أن يلوثك، أن يُلحق بك الأذى، أن أرى وجهك مجددًا مشوهًا بالخوف.”
“لأنني أحبك، لا أريد أن تتعرضي لهذا.”
[OMG!!!]
حينها أدركت السبب الحقيقي لتدخله.
لقد كان قلقًا عليّ، خائفًا أن يمسني سوء.
حاولت الاعتراض، فتحت فمي لكنني عجزت عن الكلام.
كيف لي أن أطلب من منقذي، الذي انتشلني من الموت مرتين، ألا يقلق عليّ؟
وكيف أطمئنه أنني سأنجح، وأنا أعلم أن حتى أدق الخطط قد يفسدها متغير واحد؟
صمتُّ، فسمعته يهمس مجددًا:
“أريد أن أحترمك لأنني أحبك، لكن لأنني أحبك، لا أريد أن تتألمي…
ولهذا أرغب في فعل المزيد لأجلك.
ألا ترين أنه تناقض؟”
“…”
“لكن هذا التناقض… هو ما أشعر به حقًا.”
“…”
“أما زلتِ لا تفهمين؟”
هززت رأسي ببطء وقلت:
“لا…
فقط غمرني الامتنان حتى عجز لساني عن النطق.”
عندها توقفت العربة.
نهض كاسروسيان وأمسك بيدي ليُعينني على النزول.
“أود أن أتصرف لأجلك، لكن إن لم تطلبي، سأكون قد تجاهلتك.
لذا سأمنحك نصيحة.”
وما إن وضعت قدمي على الأرض حتى شعرت بجذبه لي بقوة، حتى صرت بين ذراعيه.
انحنى نحوي حتى صارت وجوهنا متقاربة إلى حد يكاد أن يلامسني.
“استخدميني يا ليريبيل.”
شهقت من قربه، أسرتني عيناه الحمراوان، وأنفاسه الحارة التي لامست شفتي.
“سأجلب لكِ كل ما تتمنينه وأضعه عند قدميك.”
“…”
“الأمر بسيط…
امنحيني الإذن، وفي طرفة عين سيتحقق كل ما ترغبين به.”
في ظلمة الليل، كانت عيناه تتوهجان، وصوته ينساب بين الحلاوة والرهبة، كإغواء شيطان يعرض عليّ ثمرة محرّمة.
التعليقات لهذا الفصل " 103"