كان جاكسن في البداية يسخر حين بلغه خبر إقامة عائلة الفيكونت ماثيو حفلًا فاخرًا؛ إذ كان يدرك تمامًا ضيق حالهم المالي.
لكن سرعان ما وصلت إلى مسامعه شائعة خفيّة تقول إنّ ابنة الفيكونت ماثيو صديقة مقرّبة للبارونة ليريبيل، وأن الحفل ليس إلا ذريعة لدعوتها.
فما كان منه إلا أن سارع لاقتناص دعوةٍ لحضور ذاك الحفل.
“حتى لو لم تكن سوى شائعة…
لا بأس.
كل ما يهمّني هو لقاء تلك المرأة…
ليريبيل!”
لقد بذل جاكسن كل جهدٍ مستطاع في سبيل لقاء ليريبيل، لكن عبثًا؛ فهي لا تظهر إلا في المجالس الرفيعة.
“إنها فرصتي الأولى… والأخيرة.”
منزويًا في ركنٍ ظليل، راح يرقب ليريبيل وسط الحشود، يترصّد اللحظة المناسبة للتقدّم نحوها.
“لو تسنّى لي فقط أن أظفر بذلك… هاهاها…”
وما لبثت أن راودته ذكرى حديثه الأخير مع إيلوديا:
“كل ما حدث بسبب ليريبيل… تلك المرأة.”
كانت إيلوديا قد أغرقت نفسها في البكاء، تسرد بمرارةٍ كيف عاملتها ليريبيل بظلمٍ سافر.
“كيف لامرأة شريرة كهذه أن توجد أصلًا!”
رؤية واحدة من أجمل نساء الإمبراطورية تبكي بحرقة وتفضي بما في قلبها أيقظ في جاكسن شعورًا عميقًا بالشفقة…
بل بدأ يراها شريرة بامتياز.
“ما الذي يمكنني فعله لأجلك؟”
“آه… في الحقيقة…”
رغم أنّها تعلّقت بكُمّه كطفلةٍ تستنجد، فإنّها بدت متردّدة؛ وكأنّها فقط رغبت في مَن يُصغي إليها ويُقرّ بصدق معاناتها.
لكنّ جاكسن، وقد بدأ نفاد صبره، أعاد السؤال:
“ما الذي ترغبين أن أفعله بشأن ليريبيل؟”
“…!”
ارتجفت إيلوديا عند سماع كلماته، وارتعشت شفتيها الحمراوان المنتفختان من فرط البكاء.
هنا اجتاح جاكسن شعورٌ عارم بالرغبة.
نعم…
سأتخلّص من تلك المرأة، ثم أحصل على استثمار الماركيز، وأجعل منه ورقة رابحة لأصبح عشيق هذه الحسناء، ومن ثم أبدأ بابتزازها ماليًّا على مهل.
رمق جسد إيلوديا بنظرةٍ ماكرة، مصحوبة بابتسامةٍ خبيثة.
لم يكن في نيّته مساعدتها حقًّا؛ جلّ ما أراده هو المال.
رغم علمه أنّ القضاء على ليريبيل ليس بالأمر الهين، إلا أن طمعه الأحمق دفعه ليعد بما هو فوق استطاعته، كما اعتاد حين كان يقدّم مشاريعه الوهمية للنبلاء الأثرياء.
“سأتكفّل بالأمر.
أعدك.”
أطلق وعده بوقاحة، كما لو كان يعرض مشروعًا وهميًّا على الأثرياء.
وللحقيقة، حتى لو نال الاستثمار، لم يكن يدري من أين يبدأ.
“ك-كلا…ليس هذا ضروريًّا…
كل ما أريده هو استعادة أموالي فحسب.”
هزّت إيلوديا رأسها بشدّة.
آه…
كم أنتِ طيبة القلب، أنتِ التي ستكونين خطيبتي…!
فكّر جاكسن بارتياح، وهو يبتسم.
“حسنًا، سأعتني بالأمر.
ومن يدري؟ قد يُصيبها مكروهٌ أثناء ذلك.”
قهقه ضاحكًا.
لكن في قرارة نفسه، كان يدرك أن انتزاع المال من ليريبيل — التي تمتلك عقدًا مع الإمبراطور وتحظى بحماية الإمبراطورة الأرملة — أمر شبه مستحيل.
ولو كان ممكنًا، لكان قد استولى على ثروتها منذ زمن.
وها هو اليوم بالكاد يتسكّع أمام قصر الإمبراطورة الأرملة يلهث طمعًا في استثمارٍ من ليريبيل نفسها.
“سيكون من الغباء أن أعيد كل المال الذي جمعتُه بشق الأنفس…
سأحتفظ بمعظمه وأعيد جزءًا يسيرًا، أليس كذلك؟”
كان جاكسن يسبح في أوهام المستقبل الزاهي، حيث يجمع بين ثروة ليريبيل وهذه الفاتنة التي أسرَت قلب الدوق الأكبر والماركيز معًا.
“…”
أما إيلوديا، فاكتفت بإمالة رأسها قليلًا، دون أن تعارضه.
“هلّا أعطيتني تذكارًا؟”
“تذكارًا؟”
طلب جاكسن علامة تذكارية على اتفاقهما.
“أتظنين أن انتزاع المال من امرأة ذات صلات بالعائلة الإمبراطورية أمر يسير؟ سيستغرق وقتًا طويلًا، وسأبذل فيه جهدًا كأنّ حياتي مرهونة به.
لكن خشية أن تنسي الأمر مع مرور الزمن…
أريد تذكارًا.”
لم يكتفِ بطلب تذكار، بل ألمح كذلك إلى رغبته بالحصول على مقابلٍ لتعَبِه.
لم يكن جاكسن غبيًّا تمامًا؛ فلو كان كذلك، لما استطاع أصلًا تجميع مخططات تجارية زائفة ليعرضها على النبلاء.
“…خذ.”
اقتنعَت إيلوديا بمنطقه، فنزعت مجوهراتها وقدّمتها له، ثم مزّقت قطعة دانتيل من طرف فستانها وسلّمته إيّاها.
كان ذاك الدانتيل من صنع مشغل مدام ناتالي الشهير، الذي لا يتعامل معه سوى قلة من الزبائن الرفيعين.
ولذا، كان كفيلًا بأن يكون تذكارًا معتبرًا يُثبت الاتفاق.
أين ذهبت؟
كان جاكسن يقلّب قطعة الدانتيل في جيبه، مسترجعًا ذكرياته مع إيلوديا حين لمح ليريبيل تتحرّك صوب مكانٍ آخر.
فانتهز الفرصة وتبعها خفية.
هل من الممكن أن تسير الأمور بهذه السلاسة؟! تحرّك بصمت، وهو يضحك في سره.
كأنّ الأقدار اليوم تسير لصالحه.
كيف لليريبيل أن تحضر حفلًا لعائلة متواضعة دون وصيفات أو حراسة، ثم تسلك ممرًّا معتمًا وحدها، كأنّها تائهة؟
“…ما الذي تريده؟”
حين أمسك جاكسن بذراعها من الخلف، استدارت نحوه.
“لمَ أنتِ طويلة إلى هذا الحد؟” تمتم دون وعي وهو يرفع رأسه نحوها.
“ليس من شِيَم السيدات الانشغال بأمرٍ كهذا.”
قطّب حاجبيه.
لطالما شكّلت قِصَر قامته عقدةً لديه، وزاد الأمر سوءًا أن وجد نفسه أمام امرأة يفوقها طولًا.
“تُكثر الحديث عن الطول وكأنّه شأن ذو بال.”
“ماذا؟”
تجعّد وجه جاكسن حين ردّت عليه ليريبيل ببرود.
“هل لديك ما تودّ قوله لي؟
وإن لم يكن، فالرجاء أن تتركني.
وإن كان لديك… فالرجاء أن تتركني أولًا.”
هاه؟ شعر جاكسن بالارتباك أمام هدوئها الواثق.
كان المكان معتمًا وخاليًا من الأنظار، ومع ذلك لم يبدُ عليها أدنى أثرٍ للخوف.
ألَا تخافني؟! أتراها تحتقرني؟ أثار ذلك غيظه أكثر.
“أتظنّين أن هذا وقتٌ مناسب للتظاهر بالشجاعة؟!” صاح، وقد جُرح كبرياؤه.
“أتظنّين أن أحدًا سينقذك لو تركتك هنا مرمية ككلب؟ هاه؟!”
“…لماذا تفعل هذا فجأة؟”
أجّجت لهجتها المؤدبة كبرياءه المجروح.
“أين ختمك؟” راح يتحسّس يدها اليسرى بحثًا عن الخاتم.
“ولِم تحتاج إلى خت…؟”
“تعرفين جيدًا السبب!” زمجر، وجذبها نحو زاويةٍ مظلمة.
“اصمتي واتبعيني!”
“إلى أين تأخذني؟!”
“قلت لك… اخرسي!
أم أنك تودّين أن أضربك؟!”
“ما الذي تفعله بحق السماء؟!”
“ماذا أفعل؟ سأكون زوجكِ القادم.”
كانت خطّته سرقة ختمها الرسمي وتزوير وثيقة زواج، ليصبح زوجها، ثم يتخلّص منها لاحقًا، ليؤول إليه إرثها.
وقد خطرت له هذه الخطة في اللحظة التي لمحها تسير وحيدة.
“ابقِ ساكنة… لا أريد استخدام العنف.”
عزم على تفتيشها بعناية بحثًا عن الختم.
وإن لم يكن معها، لم يكن ليتردّد في نزع ملابسها بالكامل وجرّها معه.
عندها، خشية الفضيحة، لن تجرؤ على الاستغاثة أمام الآخرين.
“هل أرسلتك إيلوديا؟”
وفي اللحظة التي كان جاكسن يستغرق في تنفيذ خطّته الحقيرة، باغتته ليريبيل بذكر اسم إيلوديا.
التعليقات لهذا الفصل " 100"