بدت كلمات جوديث خيالية للوهلة الأولى، لكن الملك أخذ الأمر بجدية.
من الواضح أن جيلسيس، التي كانت تحكم مملكة روتيا نيابة عنه لسنوات عديدة، لن تتخلى عن سلطتها بسهولة حتى لو علمت أنه استعاد وعيه. كما أنها ستحاول استغلال ضعف جسده لتنصيب كرولد ولياً للعهد. ولا أحد يعلم ما الذي قد تفعله بفرانز خلال هذه العملية.
لم يرغب الملك في التصرف بتهور. كما كان يعلم أنه لا يجب الاستهانة بطباع جيلسيس العنيفة والمخادعة، أو بعائلتها التي تقف خلفها.
بينما كان يعمل على تعزيز منصبه كملك، كان بحاجة إلى درع يحمي فرانز. إرساله إلى مكان لا تصل إليه يد الملكة ليس فكرة سيئة. كانت الإمبراطورية الديلاكية حليفة موثوقة حتى في أيام مجده، لذا يمكنه الاطمئنان على فرانز هناك.
لكن المشكلة تكمن في التحضيرات اللازمة لإرساله. فإرسال الابن الشرعي للملك إلى بلد آخر لسنوات ليس أمراً سهلاً. بدءاً من إيصال الرسالة إلى الإمبراطورية دون أن تعلم الملكة، وصولاً إلى المشكلات الصغيرة المعقدة التي ستتراكم، كانت هناك عقبات كثيرة.
“هل يمكنكِ تحقيق هذا؟”
نظر الملك إلى جوديث بنظرة مليئة بمزيج من القلق والثقة.
هل يمكنها ذلك؟ بعد سماع كلمات الملك، وجهت جوديث لنفسها السؤال ذاته. هذا شيء لم يحدث في الحياة التي عاشتها من قبل. بما أنها لا تعرف النتيجة، فلا يمكنها ضمان شيء. ومع ذلك، عليها أن تنجزه بأي حال.
“سأفعل ذلك. كما أيقظت جلالتك، سأحقق هذا أيضاً بأيّ طريقة.”
لقد انتهت الأيام التي كانت تنتظرِ فيها الإنقاذ بيد الآخرين. أغمض الملك عينيه ببطء وهو ينظرُ إليها، وعلت شفتيه ابتسامة عابرة مليئة بالتعب والقلق والأمل. ثم أومأ برأسه. غمرت جوديث فرحةٌ مشوبة بالخوف.
* * *
رغم فقدانه رتبته كمتدرب في الكولمبر بسبب مشاكله مع كرولد، إلا أن بارثولوميو لم يفقد الأمل.
لو قال إنه لم يشعر بالإحباط لكان كاذباً. لكن رؤية فرانز الذي كان يشعر بالذنب والاكتئاب جعلته يخفي مشاعره.
“المفترض أن أكون أنا من يحتاج إلى التعزية، لكنني أنشغل بتعزيتك بدلاً من ذلك”، كان يقولها مازحاً لأبيه، لكن بارثولوميو كان يتمنى أن يخفف فرانز من شعوره بالذنب بأسرع وقت ممكن. لذا أصبح يتردد على قصر أستل أكثر من قبل، يقضي معظم يومه مع فرانز.
“هل ما زالت الأميرةُ تعتني بعمي هذه الأيام؟”
أخذ بارثولوميو قطعة إكلير بيده – ناهيك عن الشوكة – وألقاها في فمه. نظر فرانز إلى آثار الصمغ على أصابعه من صنع القوس، ثم مرر له قطعة قماش مبللة وهو يومئ برأسه.
“ما زالت تفعل. تذهب إلى غرفة النوم مع شروق الشمس ولا تعود إلا بحلول المساء.”
“يا له من تعب. بالطبع من الطبيعي أن نتمنى لعمي أن يفيق بأسرع وقت ممكن… لكن هذه مهمة الخدم، ليس من شأنها.”
كان بارثولوميو يذكر بين الحين والآخر قصة جوديث وهي تحاول تحريك المبخرة الثقيلة وحدها. كلما سمع فرانز أن المبخرة كانت ستكون ثقيلة حتى لو ساعدها شخصان، يشعر بثقل في قلبه.
“تبدو ضعيفة لدرجة أنها قد تسقط إذا ركضت قليلاً، لكن صبرها يعادل صبر جندي خاض التدريب لسنوات.”
“… إنها مختلفة عما كنت أتخيل. كنت مندهشاً جداً عندما التقيتها لأول مرة.”
بعد أن أنهى بقية الإكلير ومسح أصابعه، ضحك بارثولوميو فجأة.
“ربما تستطيع الأميرة أن تحطم كبرياء أحدهم. ألا تعتقد أن الأمر يستحق الانتظار؟”
“لا أريد أن أصبح بهذا الدرء من السوء.”
تغير تعبير فرانز. لأنه يعرف جيداً من يتحدث عنه، لم يكن لديه خيار آخر.
طوال هذه السنوات، لم يجرؤ على التحرر، بل ظل منحنياً تحت قدميها خائفاً. بسبب ذلك، تعرضت جوديث للإهانة والتهديد عدة مرات. والآن، من غير المنطقي أن يتوقع منها أن تسقط الملكة. أليس هذا أمراً مقززاً؟
“على أي حال، أعتقد أنك تزوجت بشكل جيد، وهذا يطمئنني.”
نهض بارثولوميو وأمسك بقوس آخر كان متكئاً على الحائط. جرب وتره القاسي عدة مرات، ثم أخرج سهماً من جعبته ووضعه على الوتر. كان يدا عاريتين دون قفازات.
شاهد فرانز بصمت بينما كان بارثولوميو يشد الوتر، وظهرت أوردة بارزة على جبينه. ارتعشت ذراعه العضلية قليلاً، ثم فجأة، مع صوت حاد، انطلق السهم واستقر بعيداً قليلاً عن مركز الهدف.
“لماذا التمارين فجأة؟”
سأل فرانز بينما كان بارثولوميو ينظر بخيبة أمل. هز بارثولوميو كتفيه الصلبين بينما وضع سهماً آخر على الوتر.
“أتعلم أن هناك مملكة صغيرة في الجنوب تشتهر بمهارة رماة السهام؟ يروضون قطعاناً من الذئاب الضخمة بدلاً من الخيول، وفي الحرب يمطرون أعداءهم بوابل من السهام المسمومة. يستخدمون أقواساً صغيرة كألعاب الأطفال لكنها ثقيلة بشكل مرعب.”
“ولهذا تتدرب على الرماية؟”
“لا يمكنني أن أتدرب وحدي. معظم جنود روتيا بارعون في استخدام السيوف والرماح، لكن القليل منهم يتقنون الرماية. سواء كانوا فرساناً أو جنوداً عاديين. في المعارك الميدانية قد لا يكون الأمر مهماً، لكن في حصار المدينة، عدم إتقان الرماية قد يكون نقطة ضعف كبيرة.”
“لم تشارك لوثير في حرب منذ وقت طويل. هل هناك سبب مفاجئ للقلق؟”
كان سؤال فرانز عادياً، لكن تعبير بارثولوميو كان غريباً.
“ألم تقل إن الأميرة كانت أميرة تيان؟”
“نعم.”
“ملك تيان مهووس بالحرب. الملوك المدمنون على القمار أو النساء أو البذخ أمر شائع. لكن القليل منهم مهووسون بالحرب. معظم الذين يحلمون بأن يصبحوا فاتحين لا يتخذون خطوات فعلية بسبب العقبات العملية. لكن هذا الرجل مختلف. المشاكل الواقعية لا تهمه.”
عند سماع تلك الكلمات، اتخذ فرانز تعبيراً جاداً مشابهاً لوجه بارثولوميو.
لم تكن حقيقة أن ملك تيان هو شقيق جوديث مشكلة بحد ذاتها. المشكلة الحقيقية تكمن في أن الملكة جيلسيس دفعت تعويضات الحرب نيابة عنه.
“ملك تيان ما زال يطمع في الجنوب. كما تعلم، هناك العديد من الإمارات المتحالفة بشكل وثيق في تلك المنطقة، بالإضافة إلى ممالك صغيرة غير منضمة. حقيقة أن بعضها يتمكن من البقاء دون الانضمام لأكبر قوة في المنطقة دليل على كفاءتها.”
“…إذاً ما تعنيه هو أن دفعنا تعويضات الحرب نيابة عن ملك تيان قد يصبح مشكلة مستقبلية.”
“إمارات الجنوب تقع تحت نفوذ دوقية ميلغان وإمارة كاتانيا، ولا يمكن تجاهلها حالياً بسبب احتياجنا لمواردها الغذائية.”
“لكن دوق كاتانيا مسنٌ ويعاني من المرض منذ فترة طويلة، بينما يتنازع أبناؤه غير الشرعيين على السلطة خلف الكواليس. إذا مات فجأة، ستغرق الدوقية في الفوضى، ولن يتردد الطامحون في استغلال الفرصة.”
في معسكر التدريب، كانوا يحصلون على معلومات مفصلة نسبياً عن صراعات القوى خارج المملكة. بالإضافة إلى ذلك، مشكلة دوقية كاتانيا التي يتحدث عنها بارثولوميو كانت معروفة حتى لفرانز، إذ تعود إلى سنوات عديدة.
إذا وقعت دوقية كاتانيا تحت سيطرة أي من إمارات الجنوب، فستصبح قوتهم أكبر من أي وقت مضى. إذا اتحد أحدهم مع قوى الجنوب وأعلن نفسه ملكاً أو حتى إمبراطوراً، فمن المؤكد أن القارة ستغرق في الفوضى.
كما أن سقوط مملكة تيان السريع خلال هذه العملية سيصبح حقيقة واضحة كالنار.
إيلاند ملك تيان كان أعمى بسبب حبه للحرب والغزو، ولم يكن قائداً عسكرياً ماهراً أو حتى متميزاً في القتال الشخصي. كان الأمر أشبه بدخول قاعة قمار بلا معرفة بالقواعد، معتمداً فقط على الحظ. الفرق الوحيد هو أن المقامرة تخسر فيها حياتك، أما الحرب فتخسر فيها مصير أمة بأكملها.
ومن المرجح أن تكون روتيا الهدف التالي بعد تيان. بغض النظر عن قيمة المملكة نفسها، فإن موقعها الجغرافي يسهل غزوها، بالإضافة إلى وجود سبب وجيه. وهذا السبب صنعته الملكة جيلسيس بيديها.
“طالما لم يمت ملك تيان فجأة بمرض، فلا يمكن لروتيا أن تشعر بالأمان.”
تأمل فرانز كلمات بارثولوميو بجدية. كانت القوة العسكرية لروتيا من بين الأقوى في المنطقة، لكن بسبب غياب الصراعات الداخلية والخارجية لفترة طويلة، كان موقف الشعب متفائلاً بشكل عام. الأسوأ من ضعف القوة العسكرية هو الارتباك الطويل في حرب غير متوقعة.
“لهذا يجب أن أستعد بما أستطيع.”
“…أليس السبب أنك فجأة توقفت عن التدريب اليومي الشاق، فأصبحت طاقتك زائدة عن الحد؟”
“آه، هذا أيضاً صحيح بالطبع.”
ضحك بارثولوميو بصوت عالٍ على النكتة غير المقصودة. حاول فرانز التخلص من قلقه المضطرب مستنداً إلى صوت ذلك الضحك.
“سموك.”
بعد صوت اختراق السهم للهدف، سمعوا صوتاً ناعماً. التفت فرانز وبارثولوميو في نفس الوقت.
“سمو الأميرة.
انحنى بارثولوميو أولاً، وابتسمت جوديث رداً عليه.
بعد المناقشة المتعلقة بالمخاوف حول مملكة تيان، شعر فرانز ببعض الإحراج عند رؤية وجهها. لكن جوديث لم تكن مهتمة بما كان يتبادله فرانز وبارثولوميو.
قالت جوديث:
“بارثولوميو، هل يمكنك تخصيص بعض الوقت لي؟ لدي شيء أريد مناقشته معك.”
اتسم وجه بارثولوميو بالحيرة.
“ألا يمكننا الحديث هنا؟”
“كلا، فقط نحن الاثنان.”
اتجهت نظرة فرانز نحو بارثولوميو، الذي بدوره نظر إليه متسائلاً عما يحدث، لكن فرانز لم يكن لديه إجابة.
─────────────────────
لا تنسوا الضغط على النجمة أسفل الفصل ⭐ وترك تعليق لطيف 💬✨
حســاب الواتبــــاد:
أساسي: Satora_g
احتياطي: Satora_v
انستــا: Satora_v
───────────────
قوة الأرواح والقلوب ذكر الله علاّم الغيوب 🌱:
– سُبْحَانَ اللَّه 🪻
- الحَمد لله 🪻
- لا إله إلا الله 🪻
- الله أكبر 🪻
- لا حَول و لا قوة إلا بالله 🪻
- أستغفِرُ الله الْعَلِيُّ الْعَظِيم وَأَتُوبُ إِلَيْهِ 🪻
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 47"