استغلالًا لإهمال الحراس، شرعت جوديث في تقليل جرعة الدواء التي يتناولها الملك يوميًا بكل حذر وتدرج.
ظلَّ وعيه المستعاد سرًّا مُحاطًا بالكتمان. حتى شيران وبارثولوميو، ناهيك عن فرانز، لم يعلموا بالأمر، بينما كانت جوديث الوحيدة التي تقف على الحقيقة.
*”لماذا فعلتِ هذا؟”
في غياب الطبيب، كانت جوديث تخلط الشوفان الذي أخفته مسبقًا بالحساء لتساعده على تناول وجبته. بعد فترة طويلة قضاها في غيبوبة أشبه بالموت، كان جسمه بحاجة إلى وقت طويل ليعود إلى طبيعته.
“سيأتي يومٌ يعلم فيه الجميع – بل يجب أن يعلموا – أن جلالتكَ قد استعاد وعيه، لكني رأيت أن الوقت لم يحن بعد.”
“ما أنا الآن سوى رجلٍ فتح عينيه واستطاع النطق، لا فرق بيني وبين ذلك الجسد الخاوي الذي كان يرقد بلا وعي. إن كان هذا قراركِ بعد التفكير، فقد أحسنتِ التقدير.”
احمرّت أذنا جوديث قليلًا وهي ترفع الملعقة، فقد أصاب كلامه جوهر الأمر. كان الملك الآن في أضعف حالاته. بعد سنوات ليست بقصيرة من التدهور التدريجي، لم يكن هناك داعٍ لأن يعلم أحدٌ باستيقاظه قبل أن يستعيد جسده الهش عافيته. فمن يدري ما قد تفعله الملكة؟
كانت تلك حقًّا أحد أسباب قرارها، لكن حين أشار الملك إلى ذلك بنفسه، شعرت بوخزة ضمير. لقد أحرجها أكثر أن يعي الملك بنفسه أنه عديم الفائدة – على الأقل في الوقت الحالي.
“كنتُ أحاول التحلي بالحذر.”
“لحسن حظ فرانز أنكِ في صفه.”
قال الملك ذلك بينما أطبقت جوديث شفتيها في نصف ابتسامة، ثم أطعمته ما تبقى من الحساء وجمعت الأطباق.
“ألا… تريد رؤية سموه؟”
سألت جوديث بحذر وهي تغلق النافذة التي كانت قد تركتها مفتوحة قليلًا ليدخل الهواء. بطَرفَ الملك بعينيه المتعبتين ببطء.
على عكس توقعاتها بأنه قد ينفر منها أو حتى يطردها، بدا أن الملك يكنّ لها نوعًا من المودة. كما أن فترات يقظته كانت تطول تدريجيًّا، وأصبح أكثر هدوءًا ووضوحًا في تفكيره.
كان يعلم أنها تحاول استخدامه بحذر شديد، لكنه غضّ الطرف عن ذلك. فمهما كانت نواياها، كان يرى أنها لن تضرّ فرانز أو العائلة المالكة.
ومن خلال محادثاتهم القصيرة المتكررة، نشأت بين جوديث وملك زيديكير نوعٌ غريب من الروابط السرية المشتركة. ومع ذلك، لم يذكر فرانز أبدًا في حديثه، وهو ما أثار استغرابها دائمًا.
فكيف لا يهتم بابنه الوحيد من زوجته التي أحبها؟ ألا يتساءل إن كان بخير؟ كيف كبر؟ ألا يشتاق لرؤيته؟
“كيف لا أريد رؤيته؟”
كسر الملك صمته أخيرًا. أشرق وجه جوديث للحظة، لكنه عاد واكتأب بعد أن تابع الملك حديثه:
“لكن في الوقت نفسه، لا أرغب في رؤيته.”
“ولماذا ذلك؟”
“لأنني أنا الذي…”
تاهت كلماته كما تاهت عيناه. تموجت سوادًا في حدقتيه كبركة ماء راكدة. منذ أن سمع اسم فرانز، أصبحت مشاعره غير مستقرة بشكل لا يمكنه السيطرة عليه.
بعد استيقاظه من سباته الطوعي الطويل، كان ملك زيديكير يقع أحيانًا فريسةً للقلق الشديد والحزن العميق، حتى أنه كان يشعر برغبة في البكاء كطفلٍ صغير. كان معظم ذلك يبدأ بإدراكه غياب إيميليا من جديد، ويتصاعد إلى ندمٍ معقّد تجاه فرانز، ابنه الذي لم يره منذ سنوات.
كان الملك يدرك جيدًا سبب تكرار جوديث لاسم فرانز في أحاديثهم القصيرة. فقد رأى منذ البداية أن الأميرة الصغيرة، رغم صغر سنها، كانت تتعمد إثارة الموضوع مرارًا.
في البداية، حاول الملك ألا يفكر كثيرًا في فرانز. كان يعتقد أن بقاءه على قيد الحياة يكفي، وأنه لن يبالي حتى لو كرهه فرانز أو حمّله المسؤولية.
لكنه كان مخطئًا.
“صاحبة الجلالة لا تزال تكرهه وتؤذيه.”
لم تحب جيلسيس فرانز أبدًا. بل كرهته كما كرهت إيميليا، حتى أصبح كالشوكة في عينها. وكان الملك نفسه يعلم ذلك، لكنه في ذلك الوقت، بعد فقدان إيميليا، لم يكن في حالٍ تسمح له بحماية فرانز.
“ليست جيلسيس من آذت فرانز، بل أنا. أنا من فعل ذلك.”
قال الملك وكأنه يعترف بذنب، بينما كانت جوديث تتوسل إليه أن يفكر في ما عانى منه فرانز.
لطالما تاقت جيلسيس لحب الملك، لكنها لم تجد إلا الجفاء. ومع تحطم كبريائها المرتفع أصلاً، أصبحت أكثر قسوة يومًا بعد يوم.
وتحولت تلك الأشهر التي اقتحمت فيها غرفته رغماً عنه، حين أعلن أنه لا يريد ابنًا من غير إيميليا، إلى بداية جنونها. وكانت السكين التي شرعت في جرح جسد فرانز مجرد نتاج لهذا الجنون.
ومع زيادة فترات نومه، وعدم وضوح وعيه حتى عند الاستيقاظ، اعتبر الملك ذلك نعمة.
فقد ظن أن اختفاءه، أو بقاءه في سبات عميق، قد يخفف من حدة غضب جيلسيس. وهكذا، قد يتحرر فرانز من كراهيتها التي تشبه القيد.
يا لها من أمنية أنانية!
لقد ترك فرانز في مستقبل مجهول، وظن أنه بإغماض عينيه فقط، سيعود كل شيء إلى نصابه. يا له من جهل!
“جلالتك.”
ركعت جوديث بجانب السرير وأمسكت بيد الملك. كانت يداها الخشنتان، اللتان لا تناسبان أميرة، تدلان على أعمال الخدم التي كانت تؤديها. حاول الملك أن يبتسم ضعيفًا وهو يربت على ظهر يدها، لكن شفتيه ارتعشتا قليلًا.
“قابل سموه، من فضلك.”
“لماذا تصرين على أن أرى فرانز؟ أريد أن أعرف السبب.”
توقفت جوديث للحظة، ثم عبست بجبهتها الصغيرة. ظهر التردد في عينيها الثابتتين عادةً.
“السبب الذي يجعلني أطلب من جلالتكم مقابلته هو…”
“……”
أحكمت جوديث قبضتها على نفسها للحظة، ثم استجمعت شجاعتها.
“جرؤتُ على القول إنني أتمنى أن يرى جلالتكَ الأمير فرانز كما هو الآن، ويتذكّر الملكة الراحلة إيميليا.”
ساد الصمت بعد كلماتها. وفي عينيه العاتبتين الغارقتين في الندم، بدأت ملامح الحكمة والوقار الملكي تطفو إلى السطح.
“أتريدين مني أن أبحث عن شبح إيميليا في ذلك الولد، فأشعر بالشفقة والحنين؟”
“نعم.”
عضّت جوديث شفتيها قليلًا. لكن ندمها على صدقها المفرط لم يدم طويلًا. فهي تعلم أنه دون هذه الصراحة، سيظل ملك زيديكير غارقًا في ندمه وخوفه، مترددًا في مقابلة فرانز إلى الأبد.
هذا ما لا يمكن السماح به. فالوقت ليس في صالحهم. عليه أن يتخذ قراره سريعًا، فهذه هي الطريقة الوحيدة لتحقيق هدفها.
“ما الذي تريدين تحقيقه مع هذا الولد في النهاية؟”
حين طرح السؤال، رأى الملك وجه جوديث يتحوّل كأنه شخص آخر. ذلك الوجه الذكي الغريب الهادئ، الذي كان دائمًا وديعًا ومتزنًا أمامه، أصبح فجأة حادًا كشفرة السيف.
“أجيب جلالتك بكل إجلال: أريد أن تضع على كتفيه وسامَي الحديد والبلّوط، وترفع كأس الزمرد لتباركه.”
كانت إجابة غير متوقعة، لكن لدى سماعها، خامره شعور غريب بأنه كان يعرف أنها ستقول هذا.
ما ذكرته جوديث كان جزءًا من مراسم التتويج في مملكة روتيا. حيث يضع الملك السابق – أو من ينوب عنه – الأوسمة التي ترمز إلى السلطة الملكية العظيمة والنسب النبيل على عاتق الملك الجديد، ثم يباركه بكأس من الخمر في كأس الزمرد الموروث منذ عهد المؤسس، وهي من أهم طقوس المراسم الطويلة.
بذكرها هذه التفاصيل الدقيقة بدلًا من الإجابة العامة بأنها تريد رؤية فرانز على العرش، أدرك الملك حزم جوديث وإخلاصها. كما أدرك بخبرته أنها ما زالت تخفي هدفًا رئيسيًا وراء كل هذا.
“أهذا كل شيء؟”
كان صوت الملك ثقيلًا كالمُثقَل. لم تُجب جوديث. فأعاد السؤال.
“بنظرة إلى عينيكِ أستطيع أن أعرف. أنتِ لا تريدين مجرد رؤية فرانز على العرش.”
“…وماذا يرى جلالتك؟”
“لماذا هذا الكم من الكراهية في قلبكِ؟ هل اعتقادي أنكِ صغيرة على ذلك كان غرورًا من شيخٍ عجوز؟”
مرة أخرى، كان صمتها إجابةً تنفي وتؤكد في آنٍ واحد. ربما يستطيع تخمين كراهيتها للملكة جيلسيس، لكنه لن يعرف أبدًا السرّ المصيري الذي أخفته جيدًا.
لن يعرف كيف دُمرت حياتها بوحشية. ولن يعرف كيف تهاوت حياة فرانز – الذي تخلّى عنه – وتفتت إلى أشلاء.
“لا تجيبينني. لا أكره الفتيات العنيدات.”
ضحك الملك ضحكة قصيرة. وفي نفس اللحظة، خبت نيران الغضب والعدائية في عيني جوديث دون صوت.
“إذا احتجتُ مساعدة جلالتك الآن، هل ستساعدنني؟”
“أي مساعدة تحتاجينها؟”
“الإمبراطورية الديلاكية أسست أكاديمية جديدة في القصر الإمبراطوري. أريد إرسال الأمير فرانز إلى هناك.”
كان هذا مفاجئًا، لكن الملك لم يذهَل. مرّر يده على شفتيه الجافتين وهو يفكر، ثم نظر إليها.
“تريدين إرساله للدراسة في الإمبراطورية؟”
“نعم، جلالتك.”
“وهل يريد فرانز ذلك؟”
“الأمير لا يعلم شيئًا عن هذا. إنها فكرتي وحدي، ومخطّطي الشخصي. جلالتك… بكل وقاحة، إن وحشية الملكة جيلسيس تجاه الأمير قد تجاوزت كل الحدود منذ زمن. إذا تركنا الأمير بجانبها، فقريبًا سيدمرُ نفسه بيديه.”
─────────────────────
لا تنسوا الضغط على النجمة أسفل الفصل ⭐ وترك تعليق لطيف 💬✨
حســاب الواتبــــاد:
أساسي: Satora_g
احتياطي: Satora_v
انستــا: Satora_v
───────────────
قوة الأرواح والقلوب ذكر الله علاّم الغيوب 🌱:
– سُبْحَانَ اللَّه 🪻
- الحَمد لله 🪻
- لا إله إلا الله 🪻
- الله أكبر 🪻
- لا حَول و لا قوة إلا بالله 🪻
- أستغفِرُ الله الْعَلِيُّ الْعَظِيم وَأَتُوبُ إِلَيْهِ 🪻
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 46"