فتحت جوديث النافذة نصف المغلقة، وألقت نظرة خاطفة إلى الخارج للحظات. عندما بدا أن لا أثر لطبيب القصر في الجوار، استقرت واقفة عند حافة النافذة التي تتيح لها مراقبة الخارج، ثم استدارت نحو الملك.
نظر الملك زيديكير نحو جوديث بعينين غائرتين، ثم أدار رأسه كما لو أن الشمس المبهرة أزعجته. وهكذا تشكّل مشهد غريب حيثُ كانت جوديث تنظر إليه، بينما الملك يتجنب النظر إليها. تبدو ملامح وجهه الجانبي المائل للأسود، تحمل شبهًا كبيرًا بفرانز الغارق في خيبة الأمل.
“جلالتك، أرجو أن تصغي جيدًا لما سأقوله الآن… وأن تثقَ بي.”
كان صوتها مشدودًا بالتوتر الواضح. ابتلعت جوديث ريقها الجاف ببطء.
تذكرت طفولتها. كان والدها الملك قد صدّق كذبة أخيها دون تردد، ورفض أن يصدق كلماتها وهي تبكي. عوقبت ظلمًا، ولم تجد من تشكو إليه ألمها وحسرتها.
هل سيصدق الملك لو أخبرته أن الملكة جيلسيس كانت تتعمد إبقاءه نائمًا؟ بل ربما يتهمها البعض بمحاولة اغتيال الملك، وهي تهمة قد تعصف بها. فكم كان الملك، الذي طال أمده في المرض وغياب الوعي، يعرف عن خبث الملكة؟
“تكلّمي.”
قال الملك. كان صوته يُظهر أنه يزال يعاني صعوبة في رفع صوته، مختلطًا بأنفاس خشنة تنبثق من بين نبراته المتهدجة المنقطعة. أنزلت جوديث بصرها للحظة، ثم رفعته ببطء. ظهرَت في عينيها الثابتتين، الخاليتين من الاهتزاز، عزيمة راسخة.
“جلالتك، لم يكن سبب فقدانك الوعي طوال هذا الوقت هو المرض.”
“……”
“ما كنتَ تتناوله لم يكن دواءً. إنه مستخلص من عشبة تُدعى ‘يد فيفنوار’، وهي قادرة بكمية ضئيلة على قطع الوعي.”
لم يجب الملك. لكنه لم يبدُ متفاجئًا أيضًا. ألأنه لا يصدق؟ أم أنه يرفض تصديق ذلك؟
انكمشت أطراف أصابع جوديث ببطء. ثم واصلت حديثها.
“والشخص الذي أمر أطباء القصر بإعطائكَ ذلك هو…”
“اسمكِ جوديث، أليس كذلك؟”
قاطعها الملك فجأة، فارتجفَ حاجباها قليلًا. لكنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها، ونشرت أطراف ثوبها قليلًا، ثم انحنت بركبتيها بوداعة قبل أن تعتدل.
“نعم، جلالتك.”
“انظري إلى الدرج خلفكِ. افتحي الدرج الثالث، ستجدين حبلًا صغيرًا. اسحبيه وافتحيه… وأحضري لي ما بداخله.”
أمرها الملك بصوت متقطع، كأنه على وشكّ الاختفاء. شعرت جوديث بالحيرة من طلبه المفاجئ، لكنها استدارت على الفور وفتحت الدرج الثالث كما أشار.
كان الدرج فارغًا، لكنها لمحت طرف حبل بارز في زاوية. سحبته بقوة، فسمعت صوت طقطقة، وانزلق ما كانت تعتقده قاعدة الدرج إلى الخلف كاشفًا عن فجوة. اتسعت عينا جوديث دهشة.
لم تكن المساحات السرية المخبأة في الأثاث أمرًا نادرًا، سواء في القصر الملكي أو قصور النبلاء. لكن ما أذهل جوديث لم يكن وجود تلك المساحة بحد ذاتها، بل ما احتوته.
“جلالتك، هذا…”
“أحضريه إليّ.”
ارتجفت أطراف أصابع جوديث وهي تمتد إلى داخل الدرج. أخرجت ما بداخله، وتقدمت نحو الملك بوجه يعكس ارتباكًا لا يدري كيف يتشكل تعبيره.
كان ما أخرجته إطارًا صغيرًا، أكبر قليلًا من كف اليد، لكن الصورة الموضوعة خلف الزجاج الباهت كانت كافية لتخمين هوية صاحبها.
شعرٌ بنيٌّ محمرّ ينسدل تحت الكتفين، عينان ذهبيتان تبدوان دافئتينِ كشعلةِ هادئة، وامرأةٌ ترتدي ثوبًا خفيفًا يكشف برقة عن عنقها الأبيض، تبتسم ابتسامة هانئة كمن يوشك على النوم، لكنها مفعمة بالحيوية. كان وجهها المواجه للأمام يشبه فرانز بشكل مذهل.
“هل تعرفين من هي؟”
“…الملكة الراحلة، أليس كذلك؟”
ابتسم الملك ابتسامة خافتة.
“أجل، إنها إيميليا خاصتي. هذه الصورة رسمتها بيدي.”
مدّ أصابعه الضعيفة النحيلة ليمسح سطح الإطار بحذر. في تلك اللحظة، بدا الملك زيديكير وكأنه نسي وجود جوديث إلى جانبه تمامًا. كان يلمس الزجاج الباهت كمن يريد أن يُمتص داخله، أو كمن يتوق إلى ذلك.
“أجميلة هي؟”
رمشت عينا جوديث ببطء.
“إنها سيدةٌ فائقة الجمال. و…”
“وماذا؟”
“… شبهها الكبير بسمو الأمير فرانز أدهشني قليلًا.”
“أحقًا؟ كان الجميع يقولون ذلك عندما كان الأمير صغيرًا. قال البعض إنه سيشبهني عندما يكبر، لكن يبدو أن ذلك لم يحدث.”
أطلق الملك ضحكة خافتة. لكن تلك الضحكة لم تدم طويلًا. سرعان ما انتابه سعال شديد، فسقط الإطار من يده.
هرعت جوديث لإحضار الماء وساعدته على الشرب. وبينما كانت تمسح شفتيه المبللتين بعناية بقطعة قماش، ظلّت عينا الملك معلقتين بوجه إيميليا في الإطار. بدا وكأن عينيه الباهتتين تكتسيان بحياة طفيفة وهو ينظر إلى صورتها.
“كنتِ أعلم أن أطباء القصر لم يعطوني الدواء الصحيح.”
مع زفرة عميقة، نطق الملك بتلك الكلمات، فشعرت جوديث بقشعريرة تجتاح جسدها. ما الذي سمعته للتو؟ هل فهمت ما قاله حقًا؟
“كنتَ… تعلم؟”
“نعم. في البداية لم أدرك، ولكن في لحظة ما استيقظت على الحقيقة. كل الأطباء الذين فحصوني أجمعوا على أن مرضي هو مرض الروح. لم يكن في جسدي خللٌ يُذكر. وأنا نفسي كنت أعلم ذلك.”
“إذا كنت تعلم… فكيف… كيف إذن…”
تشتتت نظرة الملك مرة أخرى وفقدت بريقها. نظر إلى جوديث التي كان تُحدّق فيه بتلك العينين اللتين لا تصدقان ما تسمعان، ثم همس متقطعاً وكأنه يقدم اعتذاراً.
“لأنني لم أرغب في أن البقاء مستيقظاً.”
“… ما معنى ذلك؟”
“بعد موت إيميليا… أصبح كل نفس أتنفسه عذاباً. هل يمكنكِ أن تفهمي ذلك؟”
نظر إليها من تحت حاجبيه بعينين غارقتين في ظلال المرض والوجوم. ولما لم تجد جوديث رداً، أطلق الملك تنهيدة طويلة قبل أن يلتقط إطار الصورة الذي أسقطه. من وراء الزجاج، كانت الملكة إيميليا لا تزال تنظر إليه بجمالها الساحر وابتسامتها الحنونة، لكن مع مسحة من الحزن في عينيها.
“رغم اختفاء إيميليا، استمر العالم في الدوران بلا اكتراث. لم أستطع تحمل شروق الشمس وغروبها.”
في مواجهة الفراق المفاجئ، ذاق جحيمًا لم يخطر بباله من قبل. في خضم الألم الذي يشبه تقطيع الجسد بالسكاكين، عرف الملك للمرة الأولى معنى الظلم. شعر كأن أحشاءه تتمزق. حتى وهو يصرخ باسمها أمام صورتها، أو حين كان ينتحب كمن يطلق صرخة من فرط العجز أمام الفظاعة التي لا تُحتمل، لم يستطع تصديق أن كل ذلك النور الذي كانت تحمله، وحيوية شبابها، ودفئها، وابتسامتها الصافية الوديعة، كل تلك الصور التي أثارت في قلبه شعوراً قريباً من الإخلاص، قد دُفنت تحت التراب الأسود حالما أغمضت عينيها.
لقد اختفت إلى الأبد، ولن يعود قادراً على احتضان كتفيها أو سماع همساتها العذبة، فلماذا لم ينتهِ العالم؟ لم يستطع تحمل الظلم. لو أمكنه، لفضّل أن يفقد عقله وينسى، أو أن يموت.
“لكن لم يكن في قدرتي أي من الخيارين. لهذا، رغم علمي بأن أطبائي كانوا يُطيلون سباتي، ظللتُ صامتاً.”
“……”
“ربما لا تزالين صغيرةً على فهم مثل هذا الشعور. لكنني عشت تلك السنوات. لم تكن طويلة، لكنها كانت كافية لأن تحطمني بعد فقدان إيميليا.”
ليس الأمر شيئاً يُدرك بمجرد العيش طويلاً. تألقت عينا جوديث بلمعان غريب، كأنها على وشك البكاء، أو ربما الصراخ بحدة. ربما لم يكن أي من ذلك ليؤثر في الملك… لو لم تنطق جوديث بما قالته بعد ذلك.
“لقد كان اختياراً أحمقاً.”
التفت الملك نحوها ببطء.
“ماذا قلتِ؟”
“… كان اختياراً أحمقاً. الملكة الراحلة لم تكن لترضى عن قرار كهذا.”
“نعم، هذا صحيح. أنا أعرفها أكثر منك. وأعلم أيضاً أن ما فعلتهُ لا يستحق الثناء.”
“بينما كنتَ تتخلى عن نفسك، هل فكرت للحظة في العذاب الذي عاشه وليّ عهدك؟ لو فكرتَ فيه، لما فعلت ما فعلت.”
ارتعش صوتها. انهمرت الدموع أخيراً من عيني جوديث وهي تقبض يديها بغضب.
شعرت بالظلم، بالحزن، والكآبة.
لو أن الملك أحب زوجته الراحلة أقل بقليل، لما عاش فرانز طفولةً مليئةً بالمعاناة.
لكن… هل يمكن إلقاء اللوم على الحب؟
لم تستطع أن تلومه، هو الذي تقاذفته موجات الحزن على زوجته الميتة حتى ألقى بنفسه في سبات عميق، وعاش سنواتٍ كجسد بلا روح. فبكت.
مرر الملك أصابعه بلطف على عيني جوديث المحمرتين، وكأنه يشعر بالأسف. لم يستطع توبيخها، فهو يدركُ تماماً سبب حزنها.
“لا تبكي. إذا كان فرانز يُشبهني بأي شكل، فسيثور غاضبًا عليّ لأنني أبكيتكِ.”
“……”
في تلك اللحظة، سمعوا ضجة من الخارج. بدا أن الجنود يتهامسون، ثم اقتربت خطوات من الغرفة المجاورة، كما لو كان طبيب القصر عائداً.
مسحت جوديث دموعها بسرعة وأخفت تعابير وجهها، ثم ساعدت الملك على الاستلقاء مرة أخرى.
“يجب ألا يعلم أحدٌ باستعادتكَ للوعي… حتى إشعار آخر.”
“يبدو أن لديكِ خطة.”
حاول أن يبتسم، لكن كل ما استطاع فعله هو تضييق عينيه قليلاً. بعد سبات طويل، حتى عضلات وجهه لم تعد تطيعه. نظرت جوديث إلى يده التي لا تزال ممسكة بإطار صورة الملكة الراحلة، ثم غطته باللحاف مع الإطار.
“سأقلل جرعة دوائك تدريجياً من الآن فصاعداً.”
“أتريدين إبقائي مستيقظاً؟”
“يجب عليكَ ذلك. من أجله… عليكَ أن تفعل ذلك.”
أغمض الملك عينيه وهو ينظر إلى السقف بوجهٍ غامض.
تمنت جوديث أن يعني صمته الموافقة. وتوسلت في سرها أن يتمكن تمثيله من خداع الأطباء.
─────────────────────
لا تنسوا الضغط على النجمة أسفل الفصل ⭐ وترك تعليق لطيف 💬✨
حســاب الواتبــــاد:
أساسي: Satora_g
احتياطي: Satora_v
انستــا: Satora_v
───────────────
قوة الأرواح والقلوب ذكر الله علاّم الغيوب 🌱:
– سُبْحَانَ اللَّه 🪻
- الحَمد لله 🪻
- لا إله إلا الله 🪻
- الله أكبر 🪻
- لا حَول و لا قوة إلا بالله 🪻
- أستغفِرُ الله الْعَلِيُّ الْعَظِيم وَأَتُوبُ إِلَيْهِ 🪻
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 45"