نهضتُ فجأة، أزيح الحجارة المتساقطة بعنف بقدمي، وأركض نحو الباب.
 
ثم، قبل أن يُغلق تمامًا، اندفعت بجسدي من الفتحة الضيقة، وانقضضت على ساقيه العريضتين وأمسكت بها بأسناني.
 
“وِييييييييي!”
 
“… ليا؟”
 
كنتُ أجرُّه بقوّة تافهة لا تقارن بضخامته، لذا لم يتحرّك قيد أنملة.
 
لكنّه، وكأنّه أدرك أنّني أحاول جذبه إلى الغرفة، تحرّك طواعية إلى الداخل.
 
“تطلبين منّي الدخول، أليس كذلك؟”
 
“وِييينغ!”
 
“حسنًا، حسنًا.”
 
وما إن خطا سُوراديل إلى داخل الغرفة تمامًا، حتى أشرتُ بفكي نحو الباب.
 
” هل أُغلقه؟”
 
“وِييينغ.”
 
فأغلقه دون أن ينبس بكلمة، مطيعًا إشارتي.
 
أن يبقى بهذا الهدوء رغم أنّه يعرف أنني بطريق… هذا يثير الريبة.
 
وضعتُ يدي على خصري… ثم عدلتُ عن ذلك، وأحدّقت فيه بعينين حادّتين أُحاكمه.
 
“وينغ! وِييييييينغ! وِييينغ! (لقد ناديتني للتو ليا، أليس كذلك!)”
 
“أجل، أجل.”
 
“وِييينغ! وِييينغ! (وهدوؤك هذا مريب أيضًا!)”
 
“أجل، أجل.”
 
“وِييينغ! وِييييييييينغ! وِييينغ؟ (ثم! لماذا أخرجت كاميرا التصوير في تلك اللحظة بالذات؟)”
 
أصغى إليّ سُوراديل بوجه جاد، وحين أنهيتُ، ارتسمت على ملامحه نظرة واثقة وقال:
 
“فهمت كل شيء.”
 
… لم يفهم شيئًا.
 
بدأتُ أفكّر كيف أوصل له كلامي.
 
لو كان مترجم لغة البطاريق “إيبروس” هنا، لكان الأمر أهون.
 
راقبني سُوراديل وأنا أحرّك عينَي في كل اتجاه، ثم أمال رأسه قليلًا.
 
“آه، أتسألين لماذا لم أندهش حين رأيتكِ بطريقًا؟”
 
“وِييينغ! (بالضبط!)”
 
خشيت أن ينفي، فسارعت أهزّ رأسي بعنف إلى الأعلى والأسفل.
 
ويبدو أنّ مشهدي ذكّره بالرقص، فابتسم ضاحكًا وقال بمرح:
 
“لأنني، منذ لحظة لقائنا الأولى، كنت أعلم أنّكِ أديلّيا.”
 
“وينغ…! (هذا…!)”
 
حدّقتُ به بعينين مصدومتين، ثم هززت رأسي رافضة تصديقه.
 
“وِييييينغ! (كاذب!)”
 
“لستُ كاذبًا.”
 
“وِييينغ! وِييييينغ؟ (مهلًا، كيف فهمت كلامي للتو؟)”
 
“بهذا التعبير على وجهك، لا يسعني إلا أن أفهمك، يا ليا.”
 
إذًا، كنتَ تعلم أنّني بطريق، ومع ذلك تركتني أتصنّع دور الحوت القاتل؟
 
… ولماذا؟
 
سُوراديل، حسنًا، لكن ماذا عن السيّدة بيلا التي ما تزال مقتنعة تمامًا أنّني حوت قاتل؟ ألن تجرح مشاعرها؟
 
كنتُ أضيّق عينيّ أفتّش عن دوافعه، حين قال فجأة:
 
“على كل حال، منذ زمن لم أركِ بطريقًا وأنتِ بوعيك.”
 
ثم احمرّ وجهه بخجل.
 
“كنت أعلم أنّكِ والإنسانة ليا شخص واحد، لكن رؤية مظهرك المتدلّل هكذا بعد طول غياب… يبعث في النفس راحة.”
 
جثا على ركبة واحدة ليقابل نظري بمستوى أقرب.
 
ومع انخفاضه، مرّر يده في شعره، وأخذ يتأمّلني في هيئتي كبطريق.
 
كانت الحمرة حول عينيه مثيرة على نحو غريب.
 
“هاه… عيناكِ المجنونتان، هما الأفضل.”
 
انها ليست عنونا، بل ريش أبيض يا هذا.
 
إصراره على اعتبار الريش الأبيض عينين أزعجني بشدّة.
 
“هل لي أن ألمس بطنكِ؟”
 
ماذا ستفعل؟
 
رغبته في لمس بطني الثمين أثارت في داخلي غضبًا جارفًا.
 
فاندفعت أقرصه بمنقاري بلا رحمة في أنحاء جسده.
 
“وينغ، وِييينغ! (ابتعد عن بطني الثمين!)”
 
وبعد أن أفرغت غضبي فترة طويلة، ابتعدتُ أتنفّس بعصبية، فرأيت وجهه في مجال نظري.
 
لكن ملامحه لم تكن متألّمة أو مستاءة… بل غامرة بفرحة.
 
“يا إلهي… هل قبلتِني للتو، يا ليا؟”
 

 
أوه لا.
 
تذكّرت فجأة أن منقاري، بالنسبة للإنسان، بمثابة الشفاه، وأن قرصي له كان بمثابة…
 
وضع شفتي في كل مكان من جسده…
 
وقبل أن أُكمل الفكرة، أدركت أنني انسقت إلى أجوائه، فانفجرت صارخة:
 
“وِييييييييييينغ!”(أي قبلة هذه! منقار الطيور ليس شفاه البشر!ن
 
عندها—
 
طَقطَقة. دحرجة.
 
توجّهنا أنا وسُوراديل في آنٍ إلى مصدر الصوت.
 
“لي… ليا سيّدتي…؟”
 
كانت “إيبروس” قد ظهرت لا أعلم منذ متى، وأسقطت سلّة كانت تحملها، تحدّق بيننا محاولة فهم الوضع.
 
“وِييينغ…! (روس…!)”
 
هممتُ بالاندفاع نحوها لأشيَ بما قاله سُوراديل، لكنّها عضّت شفتها السفلى بغيظ.
 
“في الوقت الذي غبت فيه قليلًا… فاتني هذا المشهد الممتع! كان يجب أن أراه!”
 
يا فتاة! أهذا المهم الآن؟
 
وبينما هي تتأفّف، بدت وكأن فكرة خطرت لها، فرفعت رأسها فجأة وسألت:
 
“سُوراديل، أين كاميرا التصوير؟”
 
“آسف، فاجأني الموقف حتى نسيت.”
 
“هاه؟ تنسى شيئًا مهمًّا كهذا؟ ما الذي تتقنه إذًا؟”
 
“لكن لدي صور التقطتها حين عدت متأخرًا.”
 
“… كما توقّعت! كنت أعتمد عليك، سُوراديل.”
 
“هاها، لا يبدو أنكِ كنتِ تثقين بي فعلًا.”
 
أدركتُ من حديثهما أنّ بينهما اتفاقًا ما، فحدّقت بهما بعينين تفيض بالخيانة.
 
“وِييييينغ!”
 
أومأت “إيبروس” برأسها وكأنّها توافقني.
 
“صحيح، كلام ليا سيّدتي منطقي.”
 
“أوه؟ وماذا قالت؟”
 
نظرت نحوي بحذر قبل أن تجيب:
 
“قالت إنّ وجهها الأيمن أجمل في الصور من الأيسر.”
 
هذه الكلبة الصفراء… تفسّر كلامي كما يحلو لها!
 
غضبتُ، وبدأت أقرص ساقيها بمنقاري.
 
“آي، يؤلمني يا آنستي!”
 
لكنّني كنت أقرص لأؤلم، لذا واصلت بلا رحمة.
 
تأمّلني سُوراديل وقال:
 
“ليا، إن كان الأمر يزعجكِ، لماذا لا تعودين لكونك انسانة وتقولين ما تريدين مباشرة؟”
 
… أيمكن ذلك؟
 
حاولت التحوّل سريعًا، لكن سرعان ما أدركت أنني لا أعرف الكيفية.
 
فالتفتُّ إليه بوجه حائر وفم نصف مفتوح، ليبادلني نظرة متوهّجة بالإعجاب وكأنه أمام مشهد لطيف لا يُحتمل.
 
“يا للأسف… حتى بهذه الملامح الظريفة، لا أستطيع مساعدتكِ يا ليا.”
 
كان واضحًا أنه يعرف أنني عاجزة، ويتعمّد إثارة أعصابي.
 
حدّقت فيه بعينين مثلثتين:
 
“وينغ، وِييينغ؟ (لستُ أنظر إليك بهذا القصد!)”
 
“هاها، لا أفهم ما تقولين، لكنكِ لطيفة. ازداد غضبكِ أكثر.”
 
كم وددت أن أوجه لكمة قوية إلى صدره.
 
لو بدأت أقرصه الآن، لربما استمتع بذلك…
 
فتردّدت، أحدّق فيه بعصبية، حين مال رأسه باستفهام:
 
“إن كان تحوّلك هذه المرة إلى بطريق قد تمّ بإرادتكِ، فهل يعني أنّ عودتك لإنسانة ستكون بإرادتك أيضًا؟ وإن كنتِ لا تعرفين الطريقة… فماذا ستفعلين؟”
 
“… وينغ؟”
 
أكنتُ أظن أنّ الأمر يحدث تلقائيًّا؟
 
“عندما تعودين إلى شكل الحيوان بفعل عدم استقرار التحوّل، فهذا مؤقّت، وبزوال السبب تعودين بشرًا.”
 
أومأت بسرعة. بالفعل، إن تماسكتُ عاطفيًّا، كنت أعود بشرًا دون وعي.
 
“لكن هذه المرّة، رجوعكِ للحيوان كان بإرادتكِ. إذًا عودتكِ لإنسانة ستكون تلقائية.”
 
اللعنة… أهذا ما في الأمر؟
 
وغدًا موعدنا للذهاب إلى إقليم وِيل…
 
كارثة.
 
ابتسم سُوراديل ابتسامة مائلة، وكأنّ الموقف يعجبه:
 
“الآن انت في ورطة، يا ليا. ماذا لو خاب أمل والدتي فيكِ وطردتكِ من هنا؟”
 
شهقت وتصلّبت.
 
“… ليا؟”
 
ناداني وقد لاحظ ارتباكي، لكنّ كلمة “طرد” و”خيبة أمل” ظلّت ترنّ في أذني، تحجب عنّي كل صوت آخر.
 
خفق قلبي بسرعة، وبدأ تنفسي يضطرب.
 
لا…
 
لا… لا…!
 
في دوّامة من الذعر، أفقت فجأة، وهرعت أفتّش الغرفة، حتى سحبت بحذر حقيبة صغيرة بأسناني.
 
وضعت فيها بعض الحجارة، وثيابي التي كنت أرتديها بشريّة، ومبلغًا احتياطيًّا، ثم جررتُها حتى قدمي “إيبروس”.
 
راقبتني بصمت، قبل أن تضيق عيناها.
 
“آنستي، أتنوين الهرب من المنزل؟”
 
بالطبع.
 
إن غادرتُ قبل أن يُكتشف أمري، فسيبدو أنني خرجت بإرادتي، ولن يظن أحد أنني طُردت.
 
ولن أرى السيّدة بيلا تنظر إليّ كعبء.
 
“إلى أين ستذهبين في هذه الساعة الخطرة؟”
 
حدّقتُ بها بصمت، معبّرة أنني أريد الإقامة في بيتها.
 
“آه… يسعدني جدًّا…!”
 
سارعت بفهم مقصدي، وفرحت كثيرًا، لكن حين التفتت نحو سُورا
ديل، ارتبكت وبدأت تهدّئني فجأة:
 
“لكن، ألا ترين أن تعيدي التفكير؟ سيّدة العائلة و السيد سُوراديل لا يبدوان منزعجين من كونك بطريقًا.”
 
حتى سُوراديل بدا متأثّرًا من حركتي المفاجئة، فمال إلى الجديّة وقال:
 
“آسف يا ليا، كانت مزحة، لم أتوقّع أن تخيفكِ إلى هذا الحد.”
 
ترجمة:لونا
             
			
			
		
		
                                            
التعليقات لهذا الفصل " 40"