كان البصر ضبابيًّا كما لو أنّ ضباب الماء قد غلّفه.
لم يستطع ثيودور سوى تمييز ملامح ذاك الذي استهدفه بصعوبة بالغة.
“عابر سبيل.”
لم يكن في نبرة صوته أو أجوائه ما يوحي بأنّه من حلفاء القتلة.
لكنّ طلب المساعدة منه كان قد فات أوانه.
كان على يقين أنّه سيلقى حتفه هنا.
“…اخرُج… من… هنا.”
بعد لحظات من الصمت، فتح الآخر فمه بنبرةٍ متحيرة كما لو أنّ الأمر أربكه.
“هُمم… لكن، بعدما عالجتُ كتفك، أتريد الآن أن تطردني؟ هذا صعب.”
حينها فقط أدرك ثيودور أنّ ألم كتفه قد خفّ كثيرًا.
لم يعرف كيف فعل ذلك، لكن لم يكن لهذا فائدة تُذكر.
فالمشكلة لم تكن النزيف الحادّ، بل السّم الذي سرى في جسده.
“هاه… هاه… لم… أطلب… منك… مساعدة.”
“إذًا، هل تنوي الموت هنا؟”
حاول ذاك الغريب أن يسقيه شيئًا ما، بدا وكأنّه جرعة علاجية.
لكن كما قال هو، فمارٌّ عابر مثله لا يمكن أن يمتلك ترياقًا قادرًا على إبطال سمٍّ فتاك كهذا الذي يستخدمه القتلة.
لم يرغب ثيودور في التشبّث بأمل واهٍ، فيرفض أن يشرب جرعةً من شخص مجهول.
أطبق فمه وأدار رأسه رافضًا.
لكن الغريب، وقد ضاق ذرعًا من رفضه المستمر، بدأ يفتح فمه بالقوة.
“ماذا تفعل…! مـمف!”
“اشرب!”
بل وأخذ يصبّ السائل في فمه ويقول: “هكذا… أحسنت، أنت تشرب جيدًا.”
لكن الغريب في الأمر…
حقًّا، كان الأمر غريبًا…
فبعد أن أُجبر على شرب الدواء، لم تمضِي سوى دقائق معدودة حتى بدأ يشعر بالقوة تعود إلى جسده.
وبدأ بصره يتحسّن قليلًا حتى بات يرى الأشياء القريبة بوضوح.
مثل شكل الخاتم الذي يزيّن إصبع ذاك الشخص الذي ما زال يُحكم قبضته على فمه…
وحين انبثق بصيص أمل بالنجاة، بدأ وعيه يعود تدريجيًّا، وشعلة الرغبة في الحياة تتقد فيه.
أجل… مهما ادّعى أنّه لا يتعلّق بالحياة، فلن يسرّه الموت أبدًا.
وأن يُقتل غدرًا في كمين كهذا كان ليمسّ كبرياءه في الصميم.
ولم يكن قد صنع عداوات شخصية كبيرة، فلا بدّ أنّها كانت مكيدة دبّرتها إحدى العائلات المعادية لعائلة وولف.
إذن، بقاؤه على قيد الحياة سيكون أسوأ خبر لتلك العائلة التي خططت للاعتداء.
شدّ عزيمته وأخذ يحدّق في منقذه الذي بالكاد كان يراه.
جرعةٌ كهذه، تُظهر مفعولًا فوريًّا بهذا الشكل، لا بدّ أنّها باهظة الثمن.
أراد أن يكافئ هذا المنقذ على إنقاذ حياته.
“سأُكافئك.”
“لا حاجة… فقط دعني.”
لكن المنقذ رفض المكافأة بإصرار، بل وفكّ ذراعه منه بعنف.
غير أنّ ثيودور، الذي لم يتعافى بعد بما يكفي ليقف وحده، أمسك بكمّه بسرعة وجذبه نحوه.
فإذا به يجرّه بسهولة أكبر مما توقّع، ويسقط المنقذ فوق جسده مباشرة.
“أوه!”
ألمه في كتفه لم يزل، لكنّه كان محتملًا مقارنة بما شعر به عند الإصابة الأولى.
ويبدو أنّ المنقذ قد ارتبك لسماعه أنينه، فنهض بسرعة ورفع رأسه.
وفي اللحظة التي تلاقت فيها عيناهما عن قرب…
انقلب عالم ثيودور رأسًا على عقب.
شعر أنّ وعيه يطفو وأن مزاجه يرتفع بجنون في لحظات.
وبالفطرة، أدرك أنّه كان يطبع بصمته على هذا الشخص.
لم يكن يتخيّل أبدًا أنّ تلك البصمة التي طالما كرهها، ستحدث فجأةً وبلا مقدمات.
من دون أيّ تماس جلدي، ومن دون أن يعرف حتى وجه الطرف الآخر.
لكن، ويا للمفارقة… في تلك اللحظة شعر أنّه عاش حياته بأسرها ليصل إلى هذا اليوم.
وأنّه لو أمكنه أن يظلّ غارقًا في هذا الإحساس، لباع روحه للشيطان بلا تردّد.
إحساس مقدّسٌ مهيب، يفوق الوصف.
لكن قبل أن يفيق من هذا النشوة المذهلة…
بوف!
ضُرب ثيودور على رأسه بشيء ما، وانغمس بصره في الظلام.
وحين استعاد وعيه، كان قد نُقل إلى المقرّ المركزي لعائلة وولف.
“لقد استيقظ السيّد ثيودور!”
ما إن تأكّد الخادم من ارتعاشة جفونه وفتح عينيه، حتى أسرع راكضًا ليُبلغ الخبر.
راقب ثيودور ظهر الخادم وهو يغادر الغرفة، ورفع يده إلى رأسه الذي يكاد ينفجر من الألم.
“…متى فقدت الوعي؟”
أترى أنّها آثار جانبية لـلبصمة؟
وبما أنّه ليس في هيئة ذئب، فلابدّ أنّ الوقت لم يكن المساء، وربما ظلّ فاقدًا للوعي ليوم أو أكثر.
نهض مترنّحًا واتّجه نحو المرآة.
ثم رفع قميصه ليتفحّص أسفل عظمة ترقوته… لكن ما رآه جعله يشكّ في عينيه.
“ها…؟”
لماذا لم تظهر العلامة الهلالية؟
أيمكن أن تكون البصمة التي وضعها كانت مجرّد حلم؟
حدّق في جلده الأملس النقي، فإذا بالصداع يشتدّ أكثر.
بدأت الحمى تتصاعد، وأشدّ ما ضاق به هو ذاك الضغط المؤلم في صدره.
كانت لحظة وضعه البصمة على منقذه تتكرّر في عقله بلا انقطاع.
ذلك الشعور الحادّ، لا يمكن أن يكون حلمًا… فحتى قلبه يؤكّد أنّه لم يكن كاذبًا.
لكن…
كان في حيرة عارمة.
لم يكن قط قد رغب في تلك العلامة ، ولا مرّة واحدة في حياته.
فمن أين جاءه هذا الإحساس بالفقدان إذًا؟
“ثيودور.”
أفاق من أفكاره على صوتٍ يناديه باسمه، فالتفت إلى مصدر الصوت.
“…أمّي.”
كان والدا عائلة وولف واقفَين هناك، بملابس غير مرتبة وكأنّهما أسرعا بالحضور، يحدّقان به بقلق.
رمقه روبين بنظرة عتاب لكونه نادى أمّه فقط، لكن إيزابيل تجاهلت الأمر وتقدّمت إلى الغرفة.
“ثيو، هل جسدك بخير الآن؟ قالوا في الفحص إنّك لا تعاني من أذًى كبير، لكنّك لم تستفق حتى مضى يوم كامل، فقلقتُ كثيرًا.”
رمش ثيودور ببطء، أهو بخير فعلًا؟
بالطبع، كانت الإجابة ، لا.
“لا أظنّ أنّني بخير.”
وعلى غير عادته، إذ كان دومًا يردّ بأنّه بخير حتى لو كان متألمًا، بدا مختلفًا هذه المرة.
فهمت إيزابيل وروبين من هيئة ابنهما أنّ الأمر ليس هيّنًا، فتجمّد وجهاهما.
ثم لاحظا أنّ جبينه يتصبّب منه العرق البارد.
فاستدار روبين على عجل ليخرج من الغرفة.
“سأستدعي الطبيب.”
“لا، بل الأفضل أن تسمعا ما لديّ أوّلًا، ثم تحكما على الوضع.”
“…ما الأمر؟”
وبنظرات مُلحّة منهما، لم يُطل تيودور الحديث وبدأ بالخلاصة مباشرة.
“أمّي، أبي… أظنّ أنّني فشلتُ في وضع البصمة.”
“…ماذا؟!”
وبعد أن هدأ ذهولهما، وأخبرهما ثيودور بما جرى في يوم مسابقة الصيد وما يشعر به الآن، فتحت إيزابيل فمها ببطء.
“إنّها بصمة غير مكتملة.”
“…وما هي هذه البصمة الغير مكتملة؟”
“يُقال إنّ بصمة الذئب لا تتمّ إلا بملامسة الجلد للجلد، لكن في الحقيقة هناك شرط آخر.”
تضايقت ملامح ثيودور فهو يسمع بهذا للمرّة الأولى.
“أتُراه بسبب أنّني فقدت الوعي في وسط الأمر؟”
“لا. فالزمن أثناء العلامة يكاد يتلاشى الإحساس به، لكنّها تتمّ في لحظة خاطفة. لو كانت كاملة، لأنهيتَها قبل أن تفقد الوعي.”
رفعت إيزابيل كتفيها بخفّة.
“ما حدث هو أنّك لم تُكمل الشرطين، لذا كانت غير مكتملة.”
“…شرطان؟”
“نعم. غالبًا ما تتحقّق الشروط معًا فور بدء العلامة، لذا نادرًا ما تحدث حالة كهذه.”
“وما هما الشرطان؟”
“أوّلًا، أن يتلامس جلداكما.”
وهذا ما لم يتحقّق عند ثيودور. أغمضت إيزابيل عينيها لحظة ثم فتحتهما.
“وثانيًا: أن تتلاقى نظراتكما.”
“تلاقي النظرات… إذن.”
تذكّر ثيودور بوضوح أنّ البصمة بدأت حين التقت عيناه بعينيها.
“تحقّق أيّ شرط منهما قد يطلق العلامة في أيّ وقت.”
“إذًا ما أعانيه الآن…”
“إنّها الحُمّى الناتجة عن عدم اكتمال العلامة. لا بدّ أن تُكمِل الشرط الآخر لتستقرّ حالتك، وعندها ستظهر العلامة تحت ترقوتك.”
وحين أنهت كلامها، شبكت إيزابيل يديها وابتسمت ببهجة.
“أخيرًا… صار لابني شريكة بصمة! إنّه أمر مؤثر. كيف كان الشعور؟ أظنّك الآن تفهم ما نشعر به؟”
“…نعم.”
لم يشأ الاعتراف، لكن لم يستطع الإنكار.
إحساس قشعريرة ممزوج بالنشوة، لم يشعر بمثله قط في حياته.
“لا وقت نضيّعه إذًا، يجب أن نعثر على منقذتك ،والتي ستكون عروستك، لنُكمل العلامة.”
ت
متم ثيودور وهو يضغط على صدغيه من الصداع.
“عروس؟… أمّي!”
“كيف كانت ملامحها؟ هل كانت هادئة؟ أم لطيفة؟”
ارتسمت ابتسامة حالمة على شفتي إيزابيل وكأنّها تستمتع بالتخيل.
“أُفضّل شخصًا مرحًا بلا عقد. فكلّ أفراد عائلتنا متجهمون أكثر من اللازم.”
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 36"