ما الذي جرى لثيودور حتى يتفجّر غضبًا في قاعة الحفل ويلفظ كلمات جارحة قبل أن يخرج؟
لكي نعرف ذلك، علينا أن نعود قليلًا إلى الوراء.
كانت بداية الحكاية في صباح يوم مسابقة الصيد.
أفراد عائلة وولف ركبوا العربات متجهين إلى موقع إقامة المسابقة.
إيزابيل، سيّدة وولف ورئيسة العائلة، وأمّ ثيودور، كانت تحدّق في ابنها ذي الملامح المعتمة.
“لا تبدو في مزاج جيّد، يا ثيو.”
عندها التفت الأب، روبين، يتفحّص ملامح ابنه هو الآخر.
وبالفعل، لم يكن مظهره يوحي بصحّة أو حيويّة كبيرة.
“إن كنتَ متوعّكًا، فسأشارك أنا بدلًا منك في المسابقة.”
“لا، لا داعي. الأمر فقط أنّ منامي كان مضطربًا هذه الليلة.”
هزّ ثيودور رأسه بهدوء، فارتسمت على وجه إيزابيل نظرة وكأنّها تذكّرت شيئًا.
“أجل، اليوم هو يوم الهلال. يا ثيو، بعد المسابقة عد مباشرة إلى القصر.”
“……”
انجذبت عيناه للحظة إلى أسفل عظمة ترقوة والدته، حيث يوشك أن يختفي تحت شالها نقش هلال ناقص.
وإن كان هذا النقش مغطّى بثيابها، فالأب بالتأكيد يملك النقش ذاته.
وهو أيضًا، إن طيع يومًا، فسيكون في نفس الموضع، على شكل الهلال.
شكل القمر في يوم التحوّل القسري إلى هيئة الحيوان يحدّد شكل النقش، ولأنه وُلد في يوم هلال، فسيكون نقشه هلالًا لا محالة.
بمجرد أن خطرت في ذهنه فكرة البصمة، شعر ثيودور بضيق في صدره وتحدّث على نحو اندفاعي:
“أمي… لماذا نحن أكثر تقييدًا من باقي المستذئبين؟”
تطلّعت إليه إيزابيل بملامح استغراب، فأوضح أكثر:
“أقصد ظاهرة التحوّل القسري في أيام معيّنة، وكذلك مسألة البصمة.”
“آه…”
تنفّست الصعداء بخفوت، ثم قالت بنبرة هادئة:
“لأنّ ما يتناقله الناس عن أصل المستذئبين ليست أسطورة، بل حقيقة. نحن ندفع ثمن ما اقترفه أسلافنا. لا نكشف الأمر لأنّ لا خير في ذلك.”
“لكن لماذا يتحمّل الأحفاد الأبرياء هذا الثمن؟ لم أفهم هذا بعد.”
“ثيو، العالم لم يكن يومًا عادلًا منذ الولادة.”
قالتها بحزم، ثم ألانت نبرتها:
“هل تتذكر أوّل مرة رأيتَ فيها سوراديل من عائلة ويل؟”
استرجع ثيو ذلك المشهد.
الآن اعتاد عليه، لكن حين كان صغيرًا ورآه لأوّل مرة…
تجمّد تمامًا، عاجزًا عن الحركة، تحت وطأة خوف لم يشعر به من قبل.
لم يفهم في البداية لماذا المستذئبون ذوو طبيعة الفريسة يرتجفون أمامه، لكن بعد ذلك اليوم، فهم تمامًا.
رأت إيزابيل تجعيدة الغضب بين حاجبيه، فأكملت:
“من يولد في أسفل هرم السلسلة الغذائيّة، يقاسي مثل هذا الخوف مرّات لا تُحصى.”
“لكن أليس هذا أمرًا يمكن التغلب عليه بالوقت والمجهود؟”
“الخوف الفطري مجرّد مثال صغير. هناك من يولد يتيمًا، وهناك من يولد في فقر مدقع لا يملك ثمن رغيف.”
أمالت رأسها قليلًا وهي تقول:
“المقارنة مع الآخرين لا نهاية لها.”
“لكن البصمة… هي لعنة تتوارثها الدماء بلا انقطاع.”
هنا تدخّل روبين، الذي كان يصغي بصمت:
“أنا لا أراها لعنة.”
“أبي…”
ألقى ثيو دور نظرة استعطاف نحو أمه لتوقفه، لكنها ابتسمت بهدوء.
“آسفة، لكنني أتفق معه.”
قال روبين بعينين جادّتين بلا ذرة تردّد:
“ثيودور، لم أندم لحظة على طبع أمّك.”
“عدد المستذئبين ذوي الدم النقي من نسل الذئب الأسود قليل جدًّا. ومع ذلك، أنتما حالة نادرة و طبعتما بعضكما.”
“صحيح… لكنني، مثلك، شعرت بالضيق من أنّ البصمة تتحكّم في مشاعري.”
“إذًا لماذا…؟!”
“عندما تلتقي نصفك الآخر، ستدرك أن البضمة نعمة لا لعنة.”
كلمة “نعمة” فجّرت انفعال ثيودور:
“المشاعر الناتجة عن الوسم؟ هذا ليس حبًا.”
“هل تقول إن حبي لأمك وهم؟”
“صدقًا كان أو وهمًا، الحقيقة لا تتغيّر:
في تاريخ وولف، كان الشريك دائمًا أكبر نقطة ضعف.”
“ثيودور!”
هبّ روبين واقفًا غاضبًا، لكن إيزابيل أمسكت بيده تهدّئه:
“اهدأ، عزيزي.”
“…إيزابيل.”
أطاعها وجلس، فابتسمت له برفق، ثم التفتت لابنها:
“صحيح أن التحوّل القسري في أيام معيّنة نقطة ضعف، لكنّه يحصل ليلًا، فلا يسبب إزعاجًا كبيرًا.”
مسّدت جانب عينها المتعبة وهي تتابع:
“ثم إننا نتحوّل مرة واحدة فقط في الشهر، عكس غيرنا ممّن يفعلون ذلك كل بدر. ليست كلها مساوئ.”
“حتى الحيتان تتحوّل مرة في الشهر.”
“لكنهم لا يستطيعون التحوّل على اليابسة. أليس هذا ظلمًا لهم؟”
لم يجد ما يرد به على منطقها، فصمت يعضّ شفته.
“لكل سوين مميزات وعيوب. أتفهّم شعورك بالظلم، لكن ماذا ستفعل؟ اعتذارنا لن يغيّر شيئًا.”
ثم ابتسمت فجأة:
“ثيو، يا بني.”
“…نعم، أمي.”
“أتعرف كيف حافظنا على نسل الذئب النقي رغم القيود التي ذكرتها؟”
قطّب حاجبيه وهو يفكّر. لم يسمع عن كثيرين فشلوا مع شركائهم بعد البصمة…
ثم خطر له احتمال مجنون:
“لا تقلين… أن مشاعر الشريك أيضًا تُجبَر؟”
“لا، السبب هو وجوهنا.”
“…”
أفقده جوابها القدرة على الكلام.
“الذئب الأسود لم يورّثنا القيود فقط، بل أجسادًا قويّة وجاذبيّة تسحر أي شخص.”
“هذا فقط…؟”
“تقول فقط؟ المظهر أداة قويّة للإغواء.”
نظرت إليه بإعجاب واضح:
“ليس لأنك ابني، لكن… لديك وجه وسيم، جسد رائع ، ومكانة، مال، وحمو وحماة يرحّبون بزوجتك ويدلّلونها.”
مع كل كلمة، ازدادت ملامحه امتعاضًا.
“أنت أفضل عريس في السوق. فقط لو أنك أقل برودًا…”
“أمي…”
تنفّست بأسى وهي تسند ذقنها إلى يدها:
“لكن ماذا نفعل، وأنت نسخة من أبيك؟ ومع ذلك، أنت لطيف معي، لذا ستغدق العطف على من تطبعها.”
ضحك روبين وأضاف:
“سأستمتع برؤيتك تتلهّف لرضاها.”
“أبي، أنا…”
لكنّه لم يجرؤ أن يكمل:
هذا ما أكرهه بالضبط.
“أراك تتأخر كثيرًا في الطبع…”
“أتمنى أن تجد نصفك الآخر قبل أن يفوت أوان الزواج.”
لم يرد ثيودور أن يطيل الجدل، فأنهى الحديث:
“على أي حال، سأحضر الإكسير الذي أردتماه.”
فهمت إيزابيل أنه يغيّر الموضوع، لكنها لم تعلّق، بل ابتسمت بحنان:
“انتبه لصحتك ولا ترهق نفسك.”
منذ تلك الأحلام المضطربة كان عليه أن ينتبه…
أن يتعامل معها كإنذار، لا أن يتجاهلها.
كان يضغط على جرح كتفه، يترنّح داخل الغابة.
في هجوم غادر، قُتل الفارسان المرافقان له، وطُعن كتفه بسيف مغلّف بالسم.
حتى إشارة الاستغاثة التي أطلقها لم تعمل، وكأن الأمر مُدبّر بعناية.
قضى على المهاجمين، لكنه غيّر مكانه تحسّبًا لكمين آخر… وكان ذلك خطأً على ما يبدو.
“هاه… هاه…”
ظنّ أن مجرد إيقاف النزيف يكفي، لكن جسده بدأ يتصلّب ووعيه يتلاشى.
أسند ظهره إلى شجرة وجلس:
“هل… سأموت هكذا…؟”
ربما بفعل السم، أو لأن فكرة الموت لم تستقر في قلبه بعد، شعر ببلادة لا بحزن.
العزاء الوحيد أنّ حياته لم تكن مثيرة لدرجة التعلّق بها.
لكن ما يؤلم
ه حقًا…
“سيحزن… والداي…”
وأسدل جفنيه، فاقدًا وعيه.
لا يعلم كم بقي هكذا، حتى أحسّ حركة خفيفة قرب كتفه المصاب.
ولمّا اقتربت تلك الحركة أكثر، فتح عينيه فجأة، ممسكًا بيد اقتربت منه بكل ما بقي من قوّة.
“أجب… من… أنت؟”
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 35"