حين اشتدّت حدّة التوتّر بين السيّدات.
بادرت السيّدة بيلّا، بوجهٍ يملؤه الأسف، للتدخّل وتهدئة الموقف.
“إنّها ما تزال فتاةً لم تتقن بعد التحوّل بين هيئة الحيوان والبشر، لذلك نحاول الحدّ من لقائها بأشخاصٍ من العائلات الأخرى. أرجو أن تتفهّمن الأمر.”
“آه، فهمت الآن… حسنًا، حين تتمكّن من التحوّل بحريّة، يمكننا العودة لمناقشة هذا الموضوع مجدّدًا.”
ورغم أنّ أعينهن لم تخلُو من بقايا الرغبة، فإنّهنّ تراجعن بسهولة.
فالتحوّل بين هيئة الحيوان والبشر بالنسبة للسوين يُعدّ أمرًا في غاية الأهميّة، بل هو مسألة حياة أو موت.
ومثلما هو الحال لدى السوين المفترسين، فإنّ أولئك الذين يقفون في أسفل الهرم الغذائي يتجنّبون بشدّة إظهار هيئتهم الحيوانيّة أمام الآخرين.
ذلك لأنّ السوين يبقى جثمانه على الهيئة التي مات عليها.
أي أنّ من يموت وهو في هيئة الحيوان، لا يترك جثمانًا على هيئة الإنسان.
ربّما لهذا السبب تحديدًا، كانت الجرائم ضدّ السوين في هيئة الحيوان أكثر بكثير مقارنةً بغيرها.
فإخفاء الجريمة حينها أسهل بكثير.
كما أنّ كثيرين قُتلوا لأنّهم أُسيء الظنّ بهم على أنّهم حيوانات عاديّة وتمّت مطاردتهم.
لذلك، حين سمعن أنّني لم أتقن التحوّل بعد، لم يجدن بُدًّا من التراجع خطوة للوراء.
كم تعرّضتُ لمضايقة هؤلاء السيّدات يا ترى؟
بدأتُ أفكّر أنّه ربّما حان الوقت للانسحاب من هنا.
“…أمّمم، سيّدتي بيلّا.”
“نعم يا ليا؟”
“في الحقيقة… أشعر بقليلٍ من الجوع.”
اتّسعت عينا السيّدة بيلّا، وغطّت فمها بكفّها.
“يا إلهي، لقد أحضرتكِ معي من دون أن أراعي راحتكِ! بما أنّني حقّقت هدفي من تقديمكِ لهنّ، فالأمر منتهٍ الآن.”
“وهذا يعني…؟”
“إنّه أوّل حفل لكِ، لذا عليكِ أن تستمتعي بكلّ ما تشائين. اذهبي.”
“شكرًا جزيلاً!”
انحنيتُ قليلًا أمام السيّدات، ثم انسحبتُ بسرعة من المكان.
لكنّ تقديمي لهنّ لم يكن سوى بداية محنتي.
فبمجرّد أن تُركتُ وحدي قليلًا، بدأت محاولات التقرّب من رجالٍ لم أرهم من قبل تتوالى كالسيل.
“أيتها الآنسة الجميلة، إن لم يكن لديكِ شريك، هل تتكرّمين بمراقصتي…؟”
“سوراديل هو شريكي.”
“…أعتذر عن التطفّل.”
هكذا تخلّصت من الأوّل.
“لقد سمعت عنكِ الكثير، لكنّكِ أجمل بكثير ممّا قيل. إن كان لديكِ وقت، فهل نخرج قليلًا إلى الشرفة لنتحدّث…؟”
“سأكون متردّدة وحدي، فهل يمكن أن يأتي سوراديل معنا؟”
فتجمّد وجهه فجأة، ثم تذكّر موعدًا وهميًّا وفرّ هاربًا.
هكذا تخلّصت من الثاني.
ولا أعلم كم رجلًا بعدهما طردته باستخدام اسم سوراديل كسلاح.
لكن حقًّا… كان سلاح سوريادل الطارد فعّالًا على نحوٍ يفوق توقّعاتي.
ما الذي يفعله عادةً ليجعل ردود أفعالهم بهذه الطريقة؟
وفي تلك اللحظة، وقعت عيناي على شعرٍ فضّي مألوف.
وأخيرًا وجدت سوراديل، فابتسمتُ بسرور وهممت بمناداته… لولا أنّه كان واقفًا أمام امرأة أخرى، وبدا الجوّ بينهما غريبًا.
تراجعتُ على الفور، وتسلّلتُ خلف أحد الأعمدة القريبة لأختبئ وأتسمّع على حديثهما.
كان سوراديل يحدّق في المرأة بنظرةٍ مريبة.
“هل ترغبين في الرقص؟”
“ن-نعم… هل يمكن أن تتفضّل وترقص معي؟”
“غريب… جسدكِ يرتجف بهذا الشكل، ومع ذلك تريدين الرقص معي؟”
“ه-هذا لأنّني متوتّرة فقط…”
“كاذبة.”
أمال رأسه ببطء، وملامحه صعبة على الفهم.
“أليس لأنّكِ خائفة مني؟”
“ل-لا! أنا لست خائفة أبدًا…!”
لكن ما إن التقت عيناها بعينيه، حتّى تجمّد جسدها بالكامل.
“يبدو أنّكِ لا تستطيعين التفريق بين خفقان القلب خوفًا، وخفقانه إعجابًا.”
ضيّق سوراديل عينَيه قليلًا.
“أتدرين ما شكل ملامحكِ الآن؟”
هبط صوته إلى نبرةٍ منخفضة.
“كأرنبٍ أُلقي أمام أسدٍ جائع.”
أصبح جسدها كلّه يرتجف الآن.
وبينما كان يحدّق بها بثبات، ارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة بسخرية.
“آسف، لكن ذوقي هو إناث البطاريق الواثقات بأنفسهن. ولا أجد متعةً في مجالسة من يقول إنّه يخافني.”
لم أتوقّع أن يعلن عن هذا الذوق الغريب أمام الناس بهذه الجرأة، فشعرتُ بالحرج يسري في وجهي.
“كاذب…!”
“ماذا؟”
صرخت المرأة فجأة، وقد بدا عليها الغضب.
“أنت تقول ذلك فقط لأنّك لا تريد أن تقترب منك النساء! أنا أعلم الحقيقة!”
“أوه… لكنّها الحقيقة فعلًا.”
“زياراتك اليوميّة لرؤية البطريق الذي يربّيه سيّد برج السحر ما هي إلا ذريعة، أليس كذلك؟ لديكَ في الخفاء أبحاث مشتركة مع البرج!”
نظر إليها سوراديل بلا اهتمام، ثم هزّ كتفيه.
“لا أرى أنّ عليّ تبرير شيء. فلتصدّقي ما تشائين.”
“مستحيل… أنت لا يمكن أن تحبّ ذلك البطريق القبيح!”
وفجأة، اختفت التعابير من وجه سوراديل.
“ماذا قلتِ الآن…؟”
“لكن قبل أن يُكمل، كنتُ قد وثبت من مكمني بسرعة خاطفة.”
أتجرئين على شتمي أنا شخصيًّا؟!
صحيح أنّ بطاريق آديلي تبدو قاسية المظهر أحيانًا، لكن…
حسنًا، قد لا تكون طيّبة القلب دومًا، لكنّها جذّابة للغاية!
ثمّ من أين لها أن تتصرّف وكأنّها حبيبة سوراديل؟!
لم أتحمّل أكثر، ووقفتُ أمامه، أحدّق في المرأة.
“أنتِ، تعالي معي قليلًا.”
“…ومن تكونين أنتِ؟”
“لقد تجاوزتِي حدودكِ. حين يرفضكِ أحد، انسحبي بهدوء، لا أن تصرخي في وجهه!”
تأمّلتني بتمعّن، وكأنّها تحاول معرفة لأيّ عائلة أنتمي، ثم ابتسمت بسخرية.
“آه، أنتِ تلك الحوتة القاتلة التي تحميها عائلة وِيل.”
تصلّبت ملامحها، ثم حذّرتني:
“حضرتِي الحفل بفضل السيّدة بيلّا، فلا تتدخّلي في ما لا يعنيكِ.”
“وأنتِ تظنّين أنّني سأقف مكتوفة اليدين؟ هو معجب بي!”
“…ماذا؟”
التفتُّ إلى سوراديل.
“سوري!”
“نعم يا ليا.”
اقترب منّي بسرعة حين ناديته.
مددتُ يدي نحوه بثقة.
“هنا… افعلها.”
كان يجب أن يكتفي بتقبيل يدي، لكنّه فجأة لفّ ذراعيه حولي، وحاصرني بالكامل.
“آه! اتركني! قلتُ قبّل يدي، لم أقل عانقني!”
ابتسم بخبث وهو يدسّ وجهه في عنقي.
“لكنّني فسّرتُها كدعوةٍ للعناق. وأنتِ من أغريتِني، لذا أنا بريء.”
كيف نسيتُ أنّه انتهازيّ حتى النخاع؟!
“مددتُ يدي فقط! كيف توصّلتَ لهذه النتيجة؟!”
“لأنّكِ احتضنتِني البارحة أيضًا.”
“توقّف عن التلميح وكأنّها عادة يوميّة، كانت زلّة واحدة!”
وبعد جهد، أفلتُّ منه، ثم نظرتُ إلى المرأة.
لابدّ أنّها فهمت الآن أنّه معجب بي.
لكن بشكلٍ غريب، بدت وكأنّها على وشك البكاء.
“أه… هل صحيح أنّكِ احتضنتِي سوراديل البارحة؟”
“ما الذي كنتِ تستمعين له؟ قلتُ إنّها كانت زلّة.”
“ل-لكن…!”
هزّت رأسها، وكأنّها ترفض تصديق ما سمعت.
مهما كان إعجابها به، فهل يستحقّ الأمر كلّ هذا الصدمة لمجرّد عناق؟
تجاهلتُ دهشتي، وقرّرت قول ما لديّ.
“اسمعي، هو ليس مهووسًا بالبطاريق ولا شيء من هذا القبيل. لقد رفضكِ فقط لأنّكِ قبيحة.”
“م-من تقولين إنّها قبيحة؟”
التفتُّ إلى سوراديل بنظرةٍ آمرة أن يجيب بدلاً منّي، فأشار إليها مباشرة بلا تردّد.
“أنتِ. لا تصلين لمستوى البطريق حتّى.”
أرضاني جوابه تمامًا.
“سمعتِي؟ إذًا اخرجي من هنا.”
غادرت وهي تجهش بالبكاء، ووجهها أحمر كالجمر.
راقبتُ ظهرها وهي تختفي، ثم صفّقتُ بيديّ.
“هه، ليست حتّى هدفا سهلا.”
وبينما كنتُ أستمتع بشعور النصر، شدّ سوراديل كمّي.
“ليا.”
“ماذا؟”
“لا بأس عندي، لكن… ألا تخشين أن ينتشر خبر أنّ بيننا شيء ما؟”
“ومن يهتمّ؟”
لم نفعل شيئًا أساسًا، فما الداعي لكلّ هذا
القلق؟
ابتسم سوراديل ابتسامة غامضة، وهزّ كتفيه.
“إن كان هذا رأيكِ، فلا مشكلة. آه، بالمناسبة… هناك شيء أزعجني في كلامكِ قبل قليل.”
“وهو؟”
“أنا حقًّا أحبّ البطاريق.”
“…وما شأني أنا؟”
ابتسم بمكر، وأردف:
“لا شيء، فقط خشيت أن تسيئي الفهم.”
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 34"