كنتُ أتناول الإفطار مع أهل عائلة وِيل كعادتي، حين فاجأتني السيّدة بيلا باقتراحٍ لم يخطر لي على بال.
“هل يُمكنني حضور حفل عائلة إيجل؟”
“بالطّبع. لكن سيكون عليك الحضور بصفتك شريكة سُوراديل. ما رأيك، هل يهمّك الأمر؟”
“نعم! أودّ الحضور كثيرًا.”
في الحقيقة، لم أكن من سادة العائلات ولا من ورثتها، لذا لم يكن من المفترض أن تتاح لي فرصة حضور حفلٍ فاخر لعائلة كبرى مثل إيجل.
كنتُ أنوي لاحقًا الاكتفاء بسماع ما إذا كان ثيودور قد حضر أم لا…
لكن يبدو أنّ الحظّ قد قرّر أن يغمرني بمفاجآته لليوم الثاني على التوالي.
فثيودور أمرٌ مهم، لكن الأهمّ أنّه قد أُتيحت لي فرصة ربّما أرى فيها أبي…
فتسارعت نبضات قلبي على الفور.
لقد مرّت قرابة ثلاثة أسابيع منذ أن غادرتُ المنزل.
ومنذ أن وُلدتُ من جديد، لم يسبق أن ابتعدتُ عن أبي لهذه المدّة الطويلة، لذا اشتقتُ إليه كثيرًا.
كنتُ قلقة عليه، متخيّلةً كم قد تألّم لغيابي.
“واو. إذن سترقصين معي أيضًا، يا ليا؟”
“احجزي لي الدّور الثّاني. أشعر بالتوتّر قليلًا، فقد مرّ وقت طويل منذ رقصتُ مع سيّدة غير بيلا.”
أمام حماس الأب والابن من عائلة وِيل، حككتُ خدّي بخجل.
“لكنني لم أرقص يومًا في حياتي.”
إلا أنّ سُوراديل بدا وكأنّه لا يزال يأمل في الرقص معي، فسأل بتطلّع:
“…لقد رقصتُ أنا من قبل، لذا سنجد طريقة ما، أليس كذلك؟”
“أترى أنّ هذا ممكن؟”
عندها، فتحت السيّدة بيلا فمها بعد أن ظلّت صامتة كأنّها تفكّر.
“كان يجدر بي أن أسألكِ مسبقًا إن كنتِ ترغبين في حضور الحفل. لكن بما أنّ الأمر قد تقرّر فجأة اليوم، فسوف يكون يومكِ حافلًا.”
أملتُ رأسي باستغراب.
“أليس الحفل مساءً؟ وبإمكاننا الانتقال بالسّحر، فلماذا لا نستعدّ على مهل…؟”
“ما الذي تقولينه، يا ليا.”
“عذرًا؟”
“علينا تجهيز الفستان والمكياج المناسبين لكِ في الحفل. لا أريد أن أرى من أحميها في عائلة وِيل تبدو ضعيفة أمام الآخرين.”
“آه، لا تقلقي بخصوص ذلك. أنا من ذلك النّوع من السّوين الذي لا ينكسر بسهولة.”
“أأنتِ واثقة من نفسكِ؟”
“نعم!”
عند إجابتي البريئة، ابتسمت السيّدة بيلا بهدوء وهي تحدّق بي طويلاً… بحدّةٍ جعلت عرَقي البارد يتسلّل على ظهري.
“…أرجوكِ اجعليني جميلة.”
حينها فقط، اتّسعت ابتسامة عينيها وصفّقت بفرح.
“جيّد. وقد علمتُ البارحة أنّ الفساتين المفصّلة على مقاسكِ قد انتهوا من تجهيزها.”
يبدو أنّني على موعد مع يوم طويل بالفعل.
اخترتُ فستانًا بتصميم إمبراطوري مريح، مصنوع من قماش ناعم لا يضغط على الجسد، تتزيّنه أزهار صغيرة، وتنحدر تنّورته بنعومة من عند الخصر.
كانت العمليّة مرهقة، لكن النّتيجة فاقت توقّعاتي جمالًا.
وأثنت السيّدة بيلا على أنّ الفستان الورديّ الذي بدا مناسبًا تمامًا لهيئتي البشريّة الجديدة.
حتى سُوراديل ظلّ يحدّق بي مدهوشًا، لكنني أعلم أنّه سيُعجب بي حتى لو ارتديتُ خرقةً بالية، لذا لا يُعتمد على حكمه.
وصلنا إلى قاعة حفل عائلة إيجل، ودخلتُ متأبّطة ذراع سُوراديل.
لقد اعتدتُ مؤخرًا على لمسات بسيطة منه، بعد أن صار يربط شعري بشكل شبه يومي.
بينما كنتُ أتجوّل بنظري بين الحشود أبحث عن أبي، لاحظ سُوراديل فضولي وسأل:
“أهناك من تبحثين عنه، يا ليا؟”
“لا. فقط لم أعتد على الأماكن المزدحمة، وهذا يثير فضولي.”
كان ذلك صحيحًا، لكن في الوقت نفسه كنتُ أبحث بعيني عن أبي.
لو كان هنا، لكنتُ وجدته فورًا. لكن على الأرجح لم يتمكّن من الحضور لانشغاله بالبحث عني.
وفجأة…
رأيته، ثيودور، يشقّ طريقه عبر الزحام نحونا بسرعة تكاد تشبه الاندفاع للقتال.
‘غريب، ظننته مريضًا، لكن يبدو بخير… أو ربّما لا، فملامحه تقول غير ذلك.’
والأسوأ أنّ تعابيره ازدادت حدّة كلّما اقترب.
‘لا يكون قد اكتشف أنّني أنا من أفقده وعيه في ساحة الصيد؟’
إن كان الأمر كذلك، فالموقف غير عادل! فقد أنقذتُ حياته ولم أكن أقصد إيذاءه، وهو من بدأ بسلوك غير لائق معي!
لكن… يبدو أنّ الأمر لا علاقة له بذلك، إذ إنّ عينيه كانتا مركّزتين على سُوراديل.
وحين وصل، ألقى نظرة سريعة فاحصة عليه، قبل أن تتجمّد ملامحه فجأة ويسقط رأسه قليلًا.
كانت قبضته ترتجف بقوّة وهو يهمس بشتيمة:
“تبًّا.”
ثم استدار وغادر القاعة مباشرة.
حدّقتُ مذهولة، ثم وخزتُ سُوراديل في خاصرته.
“هل جنّ أخيرًا؟”
“…يبدو ذلك، أليس كذلك؟”
“أم أنّه أسقط أخلاقه في ساحة الصيد بجانب وعيه؟”
“ربّما أصيب في رأسه.”
رفعتُ حاجبي بدهشة أمام برود سُوراديل.
“ألا تشعر بالغضب، يا سُوراديل؟”
“ليس كثيرًا.”
“لماذا؟ لقد جاء وريث عائلة أخرى وشتمك فجأة.”
أمال رأسه قليلًا وقال بتشبيه غريب:
“هل ستغضبين لو مرّت نملة بجانبك وشتمتك؟”
‘يا رجل، مع أنّه بطل القصّة، تشبّهه بِنملة؟’
فكّرتُ أنّه ربما يخفي غضبه، فقلت:
“أنا كنتُ سأغضب فعلًا وأجعل فمه يدفع ثمن وقاحته.”
“…أعجبني أنّكِ تعرفين قيمة نفسك.”
ضاق بصري وأنا أتذكّر شيئًا فجأة.
“أخبرني، حين ذهبتَ إلى عائلة وولف أمس، ماذا فعلتَ بثيودور؟”
“فعلتُ شيئًا، لكن ليس سيئًا. وقد وافق عليه.”
“آها.”
عندها فقط، فهمتُ سبب غضب ثيودور وبرود سُوراديل.
لا أعلم ما حصل، لكن من الواضح أنّ سُوراديل هو المخطئ.
وبينما كنّا نتحدّث، جاءت السيّدة بيلا، بعد أن أنهت حديثها مع بعض الحاضرين.
“ليا، تعالي معي قليلًا.”
قادَتني دون أن تشرح، حتى وصلنا إلى حيث تجمّعت زوجات العائلات الأخرى.
“آه…! إنّها الفتاة التي أحضرتِها في مسابقة الصيد الأخيرة.”
ابتسمت السيّدة بيلا بهدوء.
“نعم. تأخّرتُ قليلًا في تقديمها.”
“لا بأس. طالما لم يمضِي على تحولها إلى انسان سوى فترة وجيزة، فسيكون أمامها الكثير لتتعلّمه.”
أخذن ينظرن إليّ بإعجاب ودهشة.
“من لون شعرها، لا شكّ أنّها أوركا (حوت قاتل).”
“إنّها جميلة للغاية.”
“أليس ابنكِ أوركا أيضًا رغم شعره الفضيّ؟ إذًا لا بدّ أنّك لم تري مثل هذا اللون منذ زمن طويل.”
ما إن ذُكر سُوراديل حتى مرّ ظلّ حزن على ملامح السيّدة بيلا.
“كما تعلمن… ابني يختلف قليلًا عن باقي السّوين.”
فأسرعن بمسايرتها قائلين:
“عدم وجود أيّ مفترسٍ يتفوّق عليه يُعَدّ أمرًا جيّدًا.”
“صحيح. عدم شعوره بالخوف من أيّ خصم دليل على قوّته.”
“سمعنا أنّ قوّته الفطريّة هائلة لدرجة أنّ شعره شاب باكرًا.”
“على أيّ حال، لا بدّ أنّكِ سعيدة بوجود فرد آخر من جنسه.”
كنتُ أرتجف من الداخل، إذ لم أرغب بأن يُذاع اسمي بهذه السهولة.
أشعر أنّ هروبي من عائلة وِيل لاحقًا سيصبح أكثر صعوبة.
وفيما أنا غارقة في أفكاري، سألت إحداهنّ بحذر:
“هل تفكّرين في تزويجها بابنكِ، يا سيّدة بيلا؟”
أجابت بهدوء:
“لا. سُوراديل لا يرغب بالزواج، ولا أريد فرض ذلك عليه.”
ثم مسحت كتفي بلطف، ولمست في يدها دفئًا صادقًا.
“ما يهمّني أن تجد ليا شخصًا جيّدًا، وسأدعم اختيارها أيًّا كان.”
فور أن سمعت السيّدات ذلك، لمعت عيونهنّ كمن عثر على فريسة.
“إن كانت حديثة العهد بالإنسانيّة، فلا بدّ أنّها بحاجة إلى أصدقاء. ابني الثاني أبدى اهتم
امًا بأوركا تحميها عائلة وِيل.”
“عذرًا، لكن ابنكِ دائم الانشغال بالتنقّل، على عكس ابني…”
“الأصدقاء الأفضل هم من نفس الجنس. بناتي يتمتّعن بروح اجتماعيّة عالية.”
بدأ التنافس الحادّ بينهنّ لتعريف أولادهنّ بي.
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 33"