غادرت باولا القصر واتجهت إلى المكان الذي كان لوكاس فيه قبل لحظات. وبينما كانت تُسلّط مصباحها على المنطقة، هبت ريح قوية، فتناثرت أوراق الشجر اليابسة، وتسببت في تذبذب ضوء المصباح بشكل متقطع.
ثم لاحظت شيئًا غير عادي: لم تكن هناك مجرد بضع قطرات على الأرض، بل كان هناك أثر يؤدي إلى مكان ما.
“ما هذا؟”
بدافع الفضول، اقتربت باولا لتفحص الأثر، فأدركت أنه ليس ماءً. لم يكن اللون الداكن بسبب الضوء الخافت، بل دم. وبينما انحنت لتتأكد، تأكدت أسوأ مخاوفها: إنه دم بالفعل.
شعرت باولا بالرعب، فتتبعت أثر الدم إلى الزاوية خلف الملحق. ابتلعت ريقها بتوتر، وقلبها ينبض بقوة. شعرت أن هذا نذير شؤم. هل تطلب المساعدة؟
ثم تذكرت لوكاس، الذي انفصلت عنه للتو. لم يكن موجودًا في القصر.
هل يمكن أن يكون…؟
غمرتها الحيرة، فترددت باولا للحظة، ثم قررت متابعة الطريق. أضاءت الأرض الملطخة بالدماء بمصباحها، ولاحظت أن البقع ازدادت كلما اقتربت من الزاوية.
هبت الرياح بشعرها على وجهها. بعد أن ثبتته، ركزت باهتمام على الزاوية. وسط عواء الرياح، ظنت أنها تسمع أصواتًا غريبة، أصواتًا…
عندما وصلت إلى الزاوية، ابتلعت بصعوبة وتقدمت بحذر. أدارت جسدها ووجهت ضوء المصباح نحو الزاوية المظلمة.
في تلك اللحظة، هبّت ريح قوية أجبرت باولا على إغلاق عينيها. رفرفت ملابسها بعنف، وتمايل المصباح، مما جعلها تشعر بالارتباك.
رفعت يدها لتحجب عينيها، ثم فتحتهما قليلًا. أضاء ضوء المصباح المتذبذب الأرض والجدران، وشخصية واقفة أمامها، وشخصية ساقطة أسفلها.
وفجأة ضربت قوة كبيرة المصباح.
“آه!”
صرخت غريزيًا. وبينما ارتطم جسدها بالأرض، تحطم المصباح على الأرض، تاركًا كل شيء في ظلام دامس.
تحسست باولا يائسةً المصباح، لكنها لم تستطع إلا أن تلتقط قطعًا مكسورة. تشبثت بها، وواصلت الصراخ، آملةً أن يأتي أحدٌ لمساعدتها.
في تلك اللحظة، أمسك أحدهم بكاحلها بقوة، فسقطت أرضًا. كافحت للتخلص من يده، واختلط صراخها بالنشيج. أرجحت قطع المصباح المكسورة بعنف في الهواء.
“آه! آه! اذهب بعيدًا!”
“…باولا…”
“آه! آه!”
“أرجوكم ساعدوني! لا تفعلوا هذا! ابتعدوا!” صرخت وهي تهز ساقيها بعنف وتكافح من أجل حياتها. وبينما كانت تحاول الزحف بعيدًا، اخترق صوت مألوف وسط الفوضى.
“باولا.”
أعاد صوت لوكاس اليائس والمتوتر باولا إلى الواقع. انهمرت دموع الخوف على وجهها وهي تتوقف عن الصراخ.
مع هدوء عويل الريح، سمعت صوت لوكاس ينادي باسمها. أصبحت الكلمات أوضح، قاطعةً الظلام.
“السيد لوكاس؟”
لم يكن هناك رد فوري. وبينما كانت عيناها تتأقلمان مع الظلام، استطاعت باولا تمييز شكل دائري غامض. ورغم مناداته، لم تتلقَّ أي رد، فقط صوت تنفسها المتقطع يزداد علوًا. مدت يدها بحذر لتلمس اليد التي تمسك بكاحلها، فشعرت بشيء مبلل.
“سيد لوكاس؟ هل هذا أنت حقًا؟”
“ب-…باولا…”
“يا إلهي، السيد لوكاس!”
زحفت باولا نحوه، فوجدت لوكاس منهارًا على الأرض، ملتفًا وممسكًا بها بشدة. صعّب الظلام رؤية وجهه. شعرت بالذعر، فتحسست وجهه وجسده، وأخيرًا لاحظت الرطوبة على أحد جانبيه. حاولت أن تكتشف ما هو، لكن الضوء الخافت حجب رؤيتها.
حاولت رفعه، لكن جسده المترهل كان ثقيلاً للغاية. وبصعوبة، نجحت في رفعه جزئياً، مع أن وزنه جعل تثبيته صعباً. في النهاية، كادت أن تُجلسه على حجرها، مُتكئةً عليه.
استمر الدم بالتسرب من يديها. وبينما كانت تتحسس بطنه، أدركت أن الدم يتدفق من جرح.
شعرت بالرعب فضغطت بيديها على الجرح لكن الدم تدفق من خلال أصابعها.
“ماذا… ما هذا؟”
“ب-…باولا…”
نعم، سيدي لوكاس. أنا هنا. ماذا يحدث؟
“ها… ها…”
لامست أنفاسه المتقطعة أذنها وهو يُسند وجهه على كتفها، يكافح لالتقاط أنفاسه. بدت حالته حرجة، وشعرت باولا بموجة ذعر.
من كان بإمكانه فعل هذا؟ من؟
“سيد لوكاس، ابق معي.”
هزت كتفيه برفق. التفتت عينا لوكاس نحوها ببطء، لكنهما كانتا مشتتتين وغامضتين. رؤيته في هذه الحالة حطم عزيمة باولا، وانهمرت الدموع على وجهها.
من فضلك، ابق مستيقظًا. لا يمكنك النوم.
“لماذا… ها… لماذا لم تأت… ها… تأت…”
“لو سمحت…”
“انتظرت… من أجلك… بدلاً من… بدلاً من أخي… ها… انتظرت… ها…”
كان صوته ضعيفًا وخافتًا. في محاولة يائسة منه لإبقائه واعيًا، صفعت باولا خده، وتزايد خوفها وهي تكافح لإبقائه مستيقظًا.
لا تنم. لا تستطيع النوم!
“لقد انتظرتك كل يوم… ها… انتظرت… ها… انتظرت…”
كان قلب باولا ينبض بسرعة وهي تحاول إبقاء لوكاس مستيقظًا، وكانت دموعها تختلط بالدماء على يديها.
كان لوكاس يتلوى ويتأوه بين ذراعيها، محاولًا الفرار من قبضتها رغم محاولاتها اليائسة لإمساكه. كان تنفسه متقطعًا وغير منتظم، واستمر الدم في التدفق بحرية.
نظرت باولا حولها بيأس، تطلب المساعدة، لكن المكان ظلّ خاليًا بشكلٍ مُخيف، كما كان. غشّت دموعها بصرها، فمسحتها، أملًا في العثور على من يستطيع المساعدة.
لا تستطيع النوم. من فضلك، لا تنم.
“حقا… كان جيدا… أنا حقا…”
“سيد لوكاس، لا يمكنك النوم.”
خفتت كلماته هامسةً. صفعته باولا برفق على خديه محاولةً إبقاءه مستيقظًا. شعر ببرودةٍ مُقلقةٍ في جسده، وأخافها هذا البرودة.
لم يكن هناك وقتٌ لإضاعته. كانت بحاجةٍ إلى مساعدته بسرعة.
استجمعت كل قوتها، ونجحت في رفعه، لكن جسده المترهل جعل الأمر صعبًا للغاية. كانت كل خطوة شاقة، وانهارت تحت وطأته، وشعرت بألم حاد وهي تسقط. بإصرار، أجبرت نفسها على النهوض وحاولت مجددًا، لكنها سقطت مرة أخرى.
كان قلقها عارمًا، وقلبها يخفق خوفًا. كان عليها أن تنقله إلى بر الأمان، إلى من يستطيع المساعدة. غذّى اليأس جهودها، فواصلت جرّه، مستندةً إلى ظهرها، وسحبته على الأرض.
لا يمكنكِ الموت. لا يمكنكِ الموت. أرجوكِ. لا تموتي.
امتزجت الدموع بالعرق على وجهها وهي تواصل السير، وعزيمتها لا تتزعزع. شعرت بكل خطوة وكأنها معركة، وقد غمرها ثقل لوكاس وإرهاقها.
أخيرًا، خرجوا من الظلام إلى ضوء القمر. قادهم أثر الدم إلى منطقة أكثر انفتاحًا. تأملت باولا لوكاس للحظة؛ كان وجهه شاحبًا بشكل غير طبيعي، يكاد يكون بلا حياة. فحصت تنفسه وشعرت بأنفاس خفيفة، لكنها ثابتة، على أطراف أصابعها.
نادت من بين دموعها، داعيةً له أن يستيقظ. تأملت أن يناديها كعادته، لكنه حرك شفتيه بضعف. أدركت باولا أنه يحاول قول شيء ما، فأنزلته برفق إلى الأرض وانحنت لتسمع كلماته الخافتة من خلال أنفاسه المتقطعة.
رغم المعاناة والألم، خرجت كلمات لوكاس المكسورة، بالكاد مسموعة. استمعت باولا باهتمام، وقلبها يتقطع وهي تحاول فهم ما كان يحاول إيصاله، متمسكة بأمل أن تتمكن من إنقاذه.
سرت قشعريرة باردة في عمود باولا الفقري عندما سمعت خطوات تقترب. شحب وجهها، وأحكمت قبضتها على يد لوكاس. ورغم ضعفه، تشبثت يد لوكاس بيدها بقوة، كما لو كان يحاول طمأنتها أو منعها من المغادرة.
نظرت باولا إلى الصوت، وقلبها ينبض بقوة. في الظلام الدامس، بدأ شيءٌ لامعٌ يتشكل. حدقت بها محاولةً تمييزه، لكن الضوء كان خافتًا ومشوّهًا.
قطع همس لوكاس العاجل ذعرها، كان صوته بالكاد مسموعًا ولكنه كان مليئًا باليأس.
“اذهب. اركض، الآن… انطلق.”
ترددت باولا، مترددة بين البقاء مع لوكاس والهرب من الخطر الوشيك. رأت الخوف في عيني لوكاس، وألمها التفكير في تركه. لكن كلماته، المُلِحّة، كانت واضحة.
“لوكاس، لا أستطيع تركك هنا!”
“من فضلك… من أجلي… اذهب.”
ضعفت قبضته، ورأت باولا الضوء يتلاشى ببطء من عينيه. انهمرت الدموع على وجهها وهي تواجه القرار المؤلم بتركه على أمل الحصول على مساعدة.
“سأعود. أعدك”، قالت بصوتٍ مختنقٍ بالعاطفة.
بنظرة أخيرة حزينة إلى لوكاس، أجبرت باولا نفسها على الوقوف. كان عليها أن تركض، لتطلب المساعدة بسرعة. ازداد صوت خطوات الأقدام علوًا، فأدركت أنه لا وقت لديها لتضيعه.
ركضت باولا مبتعدةً عن المشهد، وقلبها يثقله الذنب والخوف على لوكاس. بدا الظلام يحيط بها، لكنها أبقت تركيزها مُنصبّاً على إيجاد من يُنقذه.
تسارعت نبضات قلبها وهي تكافح الخوف الشديد الذي اجتاحها. شعرت بكل خطوة وكأنها معركة ضد قيود خفية، وجسدها مثقل بالرعب. كان عليها الهرب، لكن غريزتها كانت تصرخ بها للبقاء ومساعدة لوكاس.
حُفرت صورة لوكاس، وهو يتلوى من الألم ويمد يده بتوسل يائس، في ذهنها. كان ألمه واضحًا، ودفعتها الأخيرة القوية لضمان هروبها دفعتها إلى التحرك. تعارض رعب تركه مع إلحاح الخطر الوشيك.
بينما كانت تركض، استعادت ذكريات لحظاتٍ جمعتها مع لوكاس – دفء نظراته، وابتساماته المطمئنة، ولطفه الدائم. كل ذكرى كانت تناقضًا صارخًا مع الواقع المؤلم الذي تواجهه الآن. صورة ابتسامته لها، حتى في هذه اللحظة العصيبة، وخزت قلبها.
دفعها خوفها من فقدانه، من انزلاقه بعيدًا وهي عاجزة عن مساعدته، إلى الأمام. كل صدى خطوات، وكل ظل في المحيط زاد من ذعرها، لكنها أجبرت نفسها على التركيز على إيجاد الأمان والمساعدة.
انهمرت دموعها وهي تركض، كل قطرة منها دليل على الألم والذنب اللذين شعرت بهما. تشبثت باولا بأمل أن يصمد لوكاس، وأن تتمكن بطريقة ما، بفرارها، من إنقاذه.
وبينما اتسعت المسافة بينها وبين المشهد، همست لنفسها، على أمل أن تفي الليلة بطريقة ما بالوعد الذي قطعته – للعثور على المساعدة، والعودة، وجعل تضحية لوكاس تعني شيئًا ما.
التعليقات لهذا الفصل " 47"