بعد أن اغتسلت إيفلين بالماء الدافئ وتلقّت العلاج على يد الطبيبة، جلست الآن في المكان الذي أُعِدّ لها داخل النقطة الحدودية.
ورغم أن المكان لم يكن لائقًا، وأن الماء لسع جراحها، فإنها، للمرة الأولى في حياتها، تنال هذا القدر النادر من العناية. ففي الظروف العادية، لم يكن مسموحًا لإيفلين أن تحظى بمثل هذه الرفاهية.
“هل أُحضِر لكِ بعض الشاي؟.”
عند سؤال الخادمة، انفرجت شفتا إيفلين قليلًا. كان حلقها جافًا بالفعل، لكنها لم تكن تعرف شيئًا عن أنواع الشاي.
“ماء… فقط من فضلكِ.”
كانت قد همّت بالتحدّث بصيغة رسمية انعكاسًا لما اعتادته، لكنها كبحته غريزيًا وحاولت التصرّف بهدوء على طريقتها. بدت كلماتها متكلّفة إلى حدّ يبعث على الحرج، غير أن الخادمة لم تُبدِ أي استغراب.
فهي، في نظرها، الأميرة أوفيليا الحقيقية.
ملأت الخادمة كأسًا نظيفًا بماء صافٍ وقدّمته لإيفلين، ثم أخبرتها أن تنادي إن احتاجت شيئًا، وغادرت الخيمة المعدّة لها. بدا وكأن الخادمة قد شعرت بانزعاج إيفلين من وجودها.
ارتشفت إيفلين جرعة من الماء وأطلقت زفرة خافتة. كان البقاء وحدها يخفّف عنها قليلًا. لم تمضِ سوى ساعات معدودة، ومع ذلك شعرت خلال وجودها مع الخادمات بقلقٍ لا ينقطع.
فاليرقة لا تعيش إلا على إبر الصنوبر، وخادمة مثل إيفلين لا يليق بها هذا العيش المترف. حتى في نظرها، لم يكن الأمر صائبًا.
ارتداء ما لا يخصّها لم يزدها إلا ضيقًا وثقلًا. كما أن الهوية التي تتقمّصها الآن هي نفسها ما يُبقيها على قيد الحياة.
تخيّلت إيفلين بعقلٍ بارد ما الذي قد يحدث لو كُشِف أنها ليست الأميرة أوفيليا الحقيقية. إن علمت الخادمة، إن علم الجنود، إن اكتشف إمبراطور بييت حقيقتها، لم يكن هناك مجال كبير للتفكير.
في كل مستقبل تخيّلته إيفلين، كان الموت بانتظارها. إلى هذا الحدّ كانت المسألة خطيرة.
“أليس الهرب أرحم من العيش في خوفٍ دائم من انكشاف الأمر؟.”
حدّقت إيفلين في كأس الماء، غارقة في التفكير. بدا الفرار حفاظًا على حياتها أهون بكثير من العيش تحت هذا القلق المستمر.
صحيح أن هروبها سيجعل العلاقة بين بييت وهِستا تتداعى بلا رجعة، وسيسقط كثيرون قتلى، وسيفقد كثيرون أحبّاءهم.
لكن إيفلين لم تكترث. فهي لم تعرف يومًا معنى التعلّق بالآخرين. نشأت وسط الازدراء والاحتقار، فكيف لها أن تحمل مشاعر ودّ تجاههم؟.
حتى ما تبقّى لديها من ضمير دُفن الآن تحت خطر الموت الداهم، ولم يبقَ له أثر.
ثم أليست هيستا قد حاولت قتلها أصلًا؟.
وقد عزمت على الهرب، فرفعت إيفلين قليلًا طرف الخيمة، الذي اتُّخذ نافذةً، لتتفقّد الخارج. حتى في وضح النهار، كان الجنود يجوبون المكان في دوريات صغيرة.
إن أرادت الإفلات دون أن يلاحظها أحد، فلا بدّ أن يكون ذلك في ساعة متأخرة من الليل. وبعد أن حدّدت التوقيت على نحوٍ تقريبي، راحت تراقب محيطها بعناية لتجد الموضع الأقل عرضةً للأعين.
في تلك اللحظة، عاد رينارد مع جنوده ممتطين خيولهم. خفّضت إيفلين الستار قليلًا، وحبست أنفاسها، وحدّقت به بتركيز.
كان الرجل الذي عرّف نفسه باسم رينارد ثيودور هو الإمبراطور السيّئ الصيت للقارّة الغربية.
حتى الآن، لم تعرف إيفلين عنه سوى الشائعات المتداولة في عاصمة هيستا، وكانت تتخيّله كائنًا شيطانيًا. لكن إمبراطور بييت الذي رأته بعينيها كان رجلًا وسيمًا، متناسق البنية، قويّ العضلات.
لا بدّ أن تلك الشائعات الخبيثة قد نُسجت بقصد تشويه سمعته.
ترجّل رينارد بخفّة وتحدّث إلى من التفّوا حوله، ثم رفع رأسه. وللحظة، التقت عيناهما. ورغم المسافة بينهما، كان نظره حادًا ومصوّبًا إليها مباشرة.
فزعت إيفلين وأسقطت الستار الذي كانت تمسكه على عجل، ثم أشاحت بوجهها. خفق قلبها باضطراب، كمن ضُبط متلبّسًا. بردت أطراف أصابعها، وتجمّع العرق البارد في يدها المقبوضة بقوّة في حجرها.
وبما أنها كانت تنوي الهرب فعلًا، فلم يكن قلقها بلا مبرّر.
تمنّت أن يمرّ الوقت سريعًا ليحلّ الليل، غير أن الشمس كانت لا تزال عالية في السماء. عضّت شفتها بغيظ، ثم تردّدت وألقت نظرة أخرى. كانت فوجئت بأن رينارد قد غادر، ولم يبقَ أحد في المكان الذي كان يقف فيه.
—
تمكّنت إيفلين بالكاد من تناول عشاءها، تلتقط من الطعام الدسم لقيمات تسدّ رمقها، ثم انتظرت أن يعمّ الهدوء خارج الثكنات. وبسبب الضجيج والحركة الكثيفة طوال المساء، بدا انتظار السكون طويلًا بلا نهاية.
وأخيرًا، حلّ الليل الذي ظنّت أنه لن يأتي أبدًا. خيّم الصمت على المكان، ولم يكسره سوى زقزقة حشرات الليل.
رفعت إيفلين طرف الخيمة الذي كان بمثابة باب، فرأت حرّاسًا متمركزين على مسافة. ولحسن الحظ، لم يكن أحد يراقب خيمتها. كان من الغريب ألّا تُحرس خيمة الأميرة أوفيليا، لكنه كان بالنسبة لإيفلين نعمة لا تُقدَّر.
اغتنمت اللحظة التي لم يكن أحد يوجّه نظره نحو خيمتها، وخرجت بسرعة.
كانت تتلفّت حولها بعصبية، وتكتم صوت خطواتها.
كان ذيل فستانها المتطاير مزعجًا. وخشية أن تُرى، قبضت عليه بإحكام وهي تمشي.
بدأ أخمصا قدميها يؤلمانها، كأنها تسير فوق زجاجٍ مهشّم. فقد كانت قدماها، اللتان عولجتا حديثًا، غير مستعدّتين لهذا الجهد. كادت تصرخ، لكنها حبست الصوت بصعوبة.
ومن دون أن يلحظها أحد، تسلّلت إيفلين إلى الشجيرات. تنفّست الصعداء وقد هدأ قلبها القلق قليلًا.
لكن لا يمكنها البقاء هنا. خائفةً من أن يكون أحد قد رآها، التفتت إلى الخلف ثم اندفعت تجري نحو الغابة. كان العرق البارد يتصبّب من جبينها وهي تتحمّل الألم.
كلّما تعمّقت في الغابة، اشتدّ الظلام. ولم يعد ضوء القمر الخافت كافيًا لمساعدتها على المضيّ قدمًا.
بعد أن ركضت بعض الوقت، مدت يدها تتحسّس شجرة، فلامست لحاؤها الرطب.
“أين أنا؟ وإلى أين أذهب؟.”
لم تكن قد خرجت يومًا حتى إلى مدينة هيستا نفسها، فكيف لها أن تعرف شيئًا عن هذه الأنحاء؟.
أصوات الحشرات الليلية، التي كانت خافتة في المعسكر، صارت الآن تحيط بها من كل صوب، حتى بات من الصعب تحديد موقعها. غطّت تلك الأصوات على أنفاسها المتقطّعة.
وهي جالسة في الغابة، بدأت مشكلات غامضة كانت قد تجاهلتها في المعسكر تطفو على سطح ذهنها واحدة تلو الأخرى.
اجتاحها ندمٌ مفاجئ لهروبها الطائش. مهما كان السبب، فقد فرّت من بييت.
لكنها الآن، بعد خروجها، لا تملك مكانًا تقصده. صحيح أن أي مكان أهون من مواجهة الموت، غير أن موقعها الحالي كان بين حدود هيستا وبييت.
إن عادت إلى هيستا، فلن يكون للأمر معنى مع اقتراب الحرب. وإن حاولت الرجوع إلى بييت، فهويتها موضع شكّ، ولا تدري أصلًا إن كانوا سيسمحون لها بالدخول مجددًا.
فإلى أين تُرى يجب أن تذهب الآن؟.
وبينما كان الارتباك يطغى عليها، صدر حفيف من الشجيرات. لم يكن صوت الريح وهي تهزّ الأوراق.
زاد الصوت من صعوبة تحديد مصدره، فتوتّرت إيفلين. كانت قد سمعت من قبل أن حيوانات برية، كالكلاب الضالّة، تجوب ليلًا بحثًا عن الطعام، وأنها قد تكون شرسة إلى حدّ قتل الإنسان في لحظة.
‘هل كنتُ متهوّرة أكثر مما ينبغي؟.’
ابتلعت إيفلين ريقها الجاف. كان الصوت يقترب.
لم يكن متعجّلًا، ولا بطيئًا، بل خطوات محسوبة. وبالإنصات جيدًا، أدركت أخيرًا أنه يأتي من خلفها.
تردّدت قليلًا ثم استدارت لتتأكّد.
“ما الذي كنتِ تفكّرين فيه، وأنتِ هنا وحدكِ في مثل هذا الوقت؟.”
وقبل أن تتمكّن من الالتفات تمامًا، مرّ الصوت بمحاذاة أذنها، فارتعدت فزعًا، شهقت، وخارت ساقاها وسقطت في مكانها.
وعلى خلاف مخاوفها، لم يكن مصدر الحفيف وحشًا بريًا. لكن ذلك لم يكن باعثًا على الطمأنينة.
لأن الصوت كان يعود لإمبراطور بييت.
“إلى أين كنتِ ذاهبة، يا أميرة أوفيليا؟.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"