أمرَ رينارد الخادمات المنتظراتِ أن يُحسِنَّ خدمةَ إيفلين، فانحنين لها بأقصى درجات الاحترام.
تلقّت إيفلين تحيّاتهن على مضض، محاوِلةً ألّا تُظهِر انزعاجها. فبالنسبة لشخصٍ مثلها، لم يعتد قطّ أن يُعامَل بمثل هذا التوقير، بدا حتى انحناء الخادمات لها أمرًا غريبًا وغير مألوف.
حتى هذه اللحظة، لم تعرف يومًا كيف تواجه الآخرين ورأسها مرفوع. لكن ما دامت تقف الآن في مقام الأميرة أوفيليا، فلم يعد أمامها خيار سوى أن تعتاد رفع رأسها والتحلّي بالاتزان أمام تحيّات الآخرين.
لم يكن بوسعها أن تكشف حقيقتها بسبب أمرٍ تافه كهذا.
“من الأفضل أن تغتسلي أولًا وتُعالَج جراحكِ.”
“سنُعِدّ كل شيء على الفور.”
ما إن أنهى رينارد كلامه حتى انصرف الخدم لتسخين الماء. وحين تأكّد من أنهم يتحرّكون بوجوهٍ لا تُبدي اهتمامًا، وجّه نظره إلى إيفلين.
“تبدين مصابةً بشدّة.”
“أنا بخير.”
كان الألم يبلغ حدًّا يجعلها ترغب في الصراخ فورًا، لكنها لم تستطع إظهاره. فهي الآن ليست ابنة خادمة، بل الأميرة أوفيليا. وعلى خلاف ما كانت قد سمعته، لم يكن إمبراطور بييت ولا جنوده مختلفين عن غيرهم؛ بل إنهم أنقذوها في لحظة خطر.
ومع ذلك، تبقى الحقيقة أن بييت عدوّة لهيستا. ولو انكشف أنها ليست الأميرة أوفيليا الحقيقية، لكان الأمر كارثيًا.
“نبرة صوتك تقول غير ذلك.”
“…”
“هناك طبيبة متاحة. لا تشعري بالحرج، تلقي العلاج ثم خذي قسطًا وافرًا من الراحة.”
“سأتقبّل لطفكم بامتنان.”
رأت إيفلين أن الإصرار على الرفض تصرّف غير لائق، فأعربت عن شكرها. كان إمبراطور بييت يُوليها اهتمامًا أكبر مما توقّعت، غالبًا لأنه يظنّها أوفيليا، أميرة هيستا. أومأ رينارد إيماءة خفيفة ردًّا على شكرها، ثم حوّل نظره سريعًا إلى الجنود المنشغلين من حوله.
ولعدم وجود ما يُقال، لزمت إيفلين الصمت وأخذت تتلفّت. لم يكن هناك موضوع تفتحه، غير أن الصمت المعلّق كان خانقًا.
فتحت إيفلين شفتيها، مفكّرةً أنها ينبغي أن تقول شيئًا. كان ذهنها مزدحمًا بكيفية التصرّف وما يجب فعله لتجنّب انكشاف أمرها إن كانت فعلًا الأميرة أوفيليا.
“تمّ إعداد الحمّام.”
تقدّمت إحدى الخادمات وأبلغت رينارد وإيفلين في الوقت المناسب. نهضت إيفلين، التي كانت تتصبّب عرقًا من شدّة التفكير، وقد شعرت بارتياحٍ واضح. اقتربت منها خادمة أخرى وأسندتها إذ كانت تتمايل.
“إذن، سأنصرف الآن.”
انحنت إيفلين لرينارد، ثم ابتعدت وهي تجرّ خطواتها. تابعها رينارد بنظره، ثم استدار.
“أحتاج إلى حصان.”
“لقد جُهِّز بالفعل.”
تبع مساعده، مارتن، رينارد الذي مضى بخطواتٍ واسعة. وبعد أن امتطى حصانه واختار عددًا من الرجال، بدأ يعود أدراجه. لم ينبس الرجال المرافقون له بكلمة.
انطلقوا من الموضع الذي أسعفوا فيه إيفلين أول مرة، حتى بلغوا أخيرًا مسرح المذبحة.
وأول ما وقعت عليه عينا رينارد كان كومةً من الجثث. وكان بينها من يرتدون دروعًا يعرفها، لا بد أنهم مرافِقو الأميرة أوفيليا.
“يبدو أنه لا يوجد ناجين.”
“يبدو ذلك.”
“أهؤلاء وحدهم من قضى عليهم جلالتك في وقتٍ سابق؟.”
هزّ رينارد كتفيه. كان من المستحيل الجزم؛ إذ لم يرَ هو ورجاله سوى المطاردين الثمانية الذين كانوا يلاحقون إيفلين، وهذه الكومة من الجثث أمامهم.
“هناك أمر واحد يمكننا الجزم به.”
ترجّل رينارد عن حصانه، ودفع إحدى الجثث بقدمه فقلبها، ثم داس على السيف الذي كانت تقبض عليه.
كانت السيوف التي يحملها من يُفترَض أنهم قطاع طرق مطابقة لتلك التي يستخدمها جنود هيستا. صحيح أنه من الممكن أن يكون اللصوص قد سرقوا أسلحة الجنود، لكن من الغريب أن يحملوا جميعًا السلاح نفسه، لا واحدًا أو اثنين فحسب.
“هيستا حاولت عمدًا قتل الأميرة أوفيليا.”
نعم، كان من الأجدر القول إن ‘قطاع الطرق’ لم يكونوا سوى جنود هيستا. أطلق رينارد ضحكة خافتة ساخرة. بدا واضحًا أنهم قدّموا العرض أولًا، لكنهم لم يرغبوا في التخلّي عن ابنتهم الحقيقية.
لم يكن قد رغب بها من الأساس، لذا لم يكن الأمر يهمّه، لكن الإهانة لا يمكن تجاهلها.
في تلك اللحظة، توقّف مارتن فجأة، وقد ارتسم على وجهه استياء.
“ما الأمر؟.”
“جلالتك، إن سمحت…”
تردّد مارتن قبل أن يتكلّم. ومنحه رينارد الوقت الكافي ليجمع أفكاره.
وبعد أن نبش ذاكرته لحظة، قال مارتن بحذر:
“وماذا لو لم تكن المرأة في المعسكر هي الأميرة أوفيليا؟.”
بعد صمتٍ طويل، نطق مارتن أخيرًا بالشكّ الذي راوده، احتمال أن تكون مزيفة. فالظروف أمامهم تشير إلى احتمالين لا ثالث لهما:
إمّا أن الملك ضحّى فعلًا بالأميرة أوفيليا، أو أن من أنقذوها ليست سوى بديلة.
لقد رأى رينارد ورجاله كل شيء بأعينهم.
فجنود هيستا المتنكّرون في هيئة قطاع طرق ذبحوا بقية المرافقين وحاولوا قتل الأميرة أوفيليا. وكانت الأسئلة العالقة أكثر من أن تُحصى.
هذا ما أراد مارتن قوله.
“ليس الأمر احتمالًا.”
جاء صوت رينارد حازمًا، قاطعًا، مفعمًا باليقين.
“إنها ليست الأميرة أوفيليا.”
“…هل لي أن أعرف لمَ واثق إلى هذا الحد؟.”
كان مارتن قد اشتبه، لكنه لم يتيقّن. وحين رأى هذا الجزم من رينارد، أدرك أن لديه ما لا يعلمه هو.
“لقد رأيتُ الأميرة أوفيليا من قبل. وإن كانت الظروف آنذاك مختلفة تمامًا.”
سخر رينارد. فقد زار هيستا في وقتٍ سابق كمبعوث دبلوماسي من بييت.
لم يكن أحد في هيستا يعلم أن وليّ العهد كان ضمن الوفد، لكنه مع ذلك رأى الأميرة أوفيليا هناك.
ورأى أيضًا خادمةً بائسة تشترك مع الأميرة في لون الشعر والعينين.
“كانت خادمةً مثيرة للإعجاب، على أي حال.”
حضرت صورة إيفلين، مرتبكةً، عاجزةً عن نفي أنها ليست الأميرة، بوضوح في ذهن رينارد.
لم يستطع نسيان النظرة في عينيها وهي تحدّق فيه، ممتلئةً خوفًا.
فالأميرة أوفيليا التي أنقذها لم تكن، في مظهرها، إلا تلك الخادمة نفسها التي حفظها من ذاكرته.
“وما الذي ستفعله؟.”
لقد أرسلت هيستا طُعمًا بدل الأميرة أوفيليا، وحاولت تمثيل الحادثة على أنها هجوم قطاع طرق.
كان ذلك خداعًا صريحًا وإهانةً مباشرة لبييت.
“من يدري.”
كان مارتن يتوقّع أن يأمر رينارد بالانتقام من هيستا لسخريتها بـبييت بهذه الحيلة، لكن رينارد اكتفى بردٍّ غامض.
“أتنوي ترك الأمر يمرّ؟ هيستا هي من عرضت الأميرة أوفيليا أولًا كعلامة مصالحة. ثم خدعت بييت، وخدعت جلالتك، وتجرّأت على ارتكاب هذا الفعل. إن غضضنا الطرف الآن، فلن يزدادوا إلا وقاحة، كما حدث يوم تتويج جلالتك.”
كان مارتن لا يزال يغلي غضبًا تجاه هيستا.
ولم يكن وحده، فمعظم شعب بييت يكنّ لهيستا ضغينةً باردةً حادّة.
وكان ذلك طبيعيًا؛ فـهيستا، الحليف المفترض، شنّت هجومًا مباغتًا.
“دعنا نراقب قليلًا بعد.”
“نراقب؟ هلّا تفضّلت ببيان السبب، جلالتك؟.”
كانت لديهم قوة عسكرية كافية، والتوقيت مواتٍ.
فهيستا كانت بالفعل مرعوبة من جيش بييت، ومعنويات قوات بييت في أوجها.
ولو تقدّموا الآن، لما طال الوقت حتى يبلغوا العاصمة.
ومع ذلك، تردّد رينارد. ولم يستطع مارتن فهم السبب، فعبّر عن استيائه.
كان قرارًا يتجاوز فهمه تمامًا.
وبعد لحظة صمت، نظر رينارد في عيني مارتن مباشرةً وقال:
“حسنًا، لنقل، في الوقت الراهن، إنه بدافع الشفقة.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"