رغم أن طرف فستانها، الذي كان يومًا غزيرًا، قد تمزّق تمامًا واتّسخ بالغبار، كانت إيفلين تركض إلى الأمام بذهولٍ تام.
ساقاها، اللتان كانتا بيضاوين ناعمتين، امتلأتا بجروحٍ صغيرة خلّفتها الأغصان والكروم الشائكة، وتلطّختا بلونٍ أحمر داكن.
أما قدماها، اللتان لم تتوقّفا عن ضرب الأرض، فقد غطّتهما طبقة كثيفة من الدم والتراب.
مع كل خطوة، كان ألمٌ حادّ يخز قدميها، لكن لم يكن لديها متّسع للتفكير في الوجع.
أصوات جنود هيستا خلفها كانت تقترب أكثر فأكثر. ومع كل صوت تكسّر أغصانٍ تحت أقدامهم، كان عقل إيفلين يزداد فراغًا.
كانت تركض بلا وعي، لا تعرف إلى أين تتجه ولا كيف تتحرّك.
لم يكن أمامها خيار آخر.
إن توقّفت الآن، فسيُقبَض عليها وتُقتل على يد جنود هيستا الذين يطاردونها.
تلك الحقيقة القاسية كانت تنهش عقلها ببطء، قطعةً بعد قطعة.
كظمت أنينها، وشدّت على أسنانها تقاوم الألم الحارق الذي يمزّق صدرها، ثم انحرفت نحو منطقة أكثر كثافةً بالأدغال.
وفي تلك اللحظة، تعثّرت قدمها بصخرةٍ بارزة، فسقطت أرضًا سقوطًا فوضويًا.
كان الارتطام عنيفًا لدرجة أنها عضّت لسانها.
سال دمٌ لم يُبتلع من زاوية فمها.
ومع ذلك، لم يشغل عقلها سوى أمرٍ واحد.
عليها أن تركض. عليها أن تهرب. وإلا، فستموت.
حاولت إيفلين، بيأس، أن تدفع جسدها للوقوف بساقين مرتجفتين، لكن جسدها كان ينهار في كل مرة.
يبدو أنها استنفدت آخر ذرةٍ من قوّتها، فلم تعد قادرة على الحركة.
لم يكن شيء يسير كما ينبغي.
انهمرت الدموع على وجهها وهي تقبض على يديها الملطختين بالتراب بقوة.
وفوق ذلك، تدفّق إليها فجأة كل الألم الذي لم تجد وقتًا للشعور به من قبل.
وفي الأثناء، كانت أصوات الجنود تقترب أكثر، لحظةً بعد أخرى.
بدأت يد إيفلين الضاغطة على الأرض ترتجف بخفّة.
لم تعرف السعادة يومًا في حياتها. لم يُحبّها أحد، ولم تحبّ أحدًا.
كانت لها أم، أقرب الناس إليها، لكن حتى تلك الأم أدارت ظهرها لها.
العمل كان شاقًا، وكل من حولها عاملوها ببرود. ولأن الكثيرين كانوا يكرهون جلينا، صُبّت قسوتهم كلّها على إيفلين بدلًا عنها.
الوقت الوحيد الذي شعرت فيه بشيء من الراحة كان حين تنام دون تفكير.
كانت تؤمن أن الحياة بلا معنى. لكن ذلك لم يعنِ يومًا أنها أرادت الموت. لم تُرِد إيفلين أن تموت بهذه الطريقة.
“لقد ركضتِ مسافةً لا بأس بها.”
دوّى صوتٌ منخفض، كأنه إعلانٌ عن موتها. وكان صوت أنفاسٍ خشنة يأتي مباشرةً من خلفها.
“مزعجة، تتصرّفين هكذا وأنتِ ستموتين على أي حال.”
بعينين غشّاهما اليأس، استدارت إيفلين إلى الخلف.
كان جندي من هيستا، متنكرًا بثيابٍ رثّة كقطاع الطرق، يتقدّم ببطء رافعًا سيفه.
وقد بدا عليه الضيق الشديد من المطاردة غير المتوقّعة، فزمّ شفتيه ولوّح بسيفه مرةً واحدة.
رغم أنه لم يكن قد بلغها بعد، إلا أن إيفلين، المذعورة، ارتعشت وتراجعت.
تبع ذلك ضحكٌ ساخر.
ثم ظهر أمام عينيها سبعة جنود آخرين من هيستا.
“أ-أرجوكم… ارحموني.”
توسّلت إيفلين بصوتٍ واهن بالكاد يُسمع.
“أتوسّل إليكم…”
شبكت يديها الضعيفتين معًا، تتضرّع من أجل حياتها. لم يكن لديها ما تفعله سوى ذلك.
فهي ليست سوى خادمةٍ وضيعة من القصر الملكي.
ظنّت أنها ستعيش حياتها تؤدّي الأعمال المنزلية كغيرها من الخادمات، تكبر وتموت دون أن يلحظها أحد.
من كان ليتخيّل أن الخادمة إيفلين ستُؤخذ كأميرةٍ مزيفة، وتواجه الموت على يد جنود وطنها؟.
وفي تلك اللحظة—
دوّى صوت حفيفٍ من بعيد، وفي الوقت نفسه سقط الجندي الأقرب إليها إلى الخلف فجأة.
ارتطم بالأرض بصوتٍ مكتوم، والتفتت الأنظار جميعها نحوه.
كان سهمٌ مغروسًا في جبهته. لم يتنفّس، ولم يرمش. مات في الحال.
“من هناك؟!.”
استلّ الجنود الآخرون سيوفهم وراحوا يمسحون المكان بنظراتٍ متأهبة.
وفي اللحظة نفسها، اخترق سهمٌ آخر جبهة جندي ثانٍ.
ثم الثالث، فالرابع، حتى الثامن.
سهام متتابعة، دقيقة ونظيفة، لا تخطئ هدفها.
رمشت إيفلين ببطء وهي تنظر إلى جنود هيستا الممدّدين على الأرض.
لم يتحرّك أحد، ولم يعلُ صدرٌ أو يهبط.
الجنود الذين أغرقوها في اليأس والعجز، لقوا حتفهم بلا حولٍ ولا قوة.
حتى مع الجثث أمامها، لم تستوعب إيفلين ما جرى. لم يكن هناك أحدٌ يمكنه مساعدتها، أو هكذا ظنّت.
‘فمن إذًا…؟.’
وبينما كانت واقفة في حيرتها، اقتربت منها مجموعة من الرجال. كانوا جنودًا، يختلفون بوضوح عن جنود هيستا.
“لا يبدون كقطاع طرق.”
تمتم رجلٌ يرتدي درعًا أبيض لامعًا، ممسكًا بقوسٍ بين يديه.
كان شعره الأرجواني الزاهي لافتًا، وعيناه الكهرمانيتان واثقتين، وبشرته السمراء الخفيفة تزيد وسامته حضورًا.
كان ذلك الرجل هو رينارد ثيودور، إمبراطور بييت، وحاكم القارة الغربية.
مال رينارد برأسه قليلًا وهو يتفحّص جثث جنود هيستا. من وجهة نظره، بدت فيهم تفاصيل كثيرة مريبة لا تنسجم مع كونهم مجرد قطاع طرق.
“حسنًا، لا يهم.”
“جلالتك، تلك المرأة…”
نظر رينارد إلى إيفلين عند سماعه كلمات نائبه، ثم هزّ كتفيه بخفّة.
تفحّصها من رأسها حتى قدميها.
شعرها المتشابك، خدّاها المبتلّان بالدموع، والدم الذي سال من زاوية فمها. لم يكن من الصعب تخمين أنها وصلت إلى هذه الحال بسبب ما جرى.
بعد صمتٍ قصير، ناول رينارد القوس الذي بيده إلى نائبه، فتسلّمه الأخير ووضعه بعناية.
“…إذًا، أنتِ الأميرة أوفيليا.”
تمتم رينارد وكأنه يتأكد، وقد عقد حاجبيه بعدم رضا وهو يتأمل فستانها الممزّق.
“مَن… تكون أنت؟.”
سألت إيفلين بذهول، تحدّق فيه كأنها فقدت رشدها.
رغم أنها سمعت نائبه يناديه بـ’جلالتك’، إلا أن الواقع أمامها بدا عصيًّا على التصديق.
الدولة الوحيدة المجاورة لهيستا هي بييت.
والشخص الوحيد الذي يُنادى بـ’جلالتك’ هنا لا بد أن يكون إمبراطور بييت.
لكن الرجل أمامها لم يُشبه في شيء ما سمعته عنه.
“ليس من عادتي أن أقدّم نفسي أولًا.”
ابتسم رينارد ابتسامةً خفيفة بعد لحظة صمت.
في لقاءٍ كهذا، وسط هذا الاضطراب، وأمام امرأةٍ تبدو نصف فاقدة للوعي، لم يجد داعيًا لأن يطالبها بالتعريف بنفسها أولًا.
“رينارد ثيودور، إمبراطور بييت.”
مدّ يده نحو إيفلين وهو يتحدّث.
حدّقت به إيفلين في صمت.
يده، رغم ما فيها من خشونة، كانت يد إنسان. ومظهره المرتّب جعلها في حالة ذهول.
“هل تنوين البقاء جالسة هكذا؟ قد يظهر قطاع طرق آخرون في أي لحظة.”
وحين ظلّت تحدّق في يده الممدودة، حثّها مجددًا.
وهي لا تزال بعيدة عن وعيها الكامل، رفعت يدها المرتجفة ببطء ووضعتها في يده.
على الأقل، لا يبدو أنه ينوي قتلها.
شدّ رينارد يدها وساعدها على الوقوف، لكن التوتّر الذي استنزفها جعل ساقيها تخونانها.
فأمسك خصرها سريعًا لئلا تسقط.
“يبدو أن المشي وحدكِ يفوق قدرتكِ الآن.”
“…أنا آسفة.”
“لا ألومكِ، فلا تقلقي. سامحيني على ما سأفعله.”
وفي لحظة، حملها رينارد بين ذراعيه.
كان سريعًا لدرجة أنها لم تستطع حتى الصراخ، ثم أمر من معه بالعودة.
وبين ذراعيه، رفعت إيفلين عينيها تنظر إلى رأسه.
لم يكن جسده مكسوًا بالفرو، ولا كانت له الملامح البشعة التي تناقلتها الشائعات.
ومع ذلك، لأنها صدّقت تلك القصص طويلًا، اضطرت للتأكّد، هل له قرنان؟.
لحسن الحظ، لم يكن هناك شيء.
وحين عادا إلى المعسكر، أجلسها رينارد على صندوقٍ خشبي مناسب. تنفّست الصعداء قليلًا، فقد بدأ حمله لها يثير حرجها.
ومع عودة رينارد وجنوده، التفّ حوله الآخرون الذين كانوا بانتظاره.
“إنها الأميرة أوفيليا من هيستا. رغم أنها انضمّت إلينا اضطرارًا، تأكّدوا من ألا ينقصها شيء في المعاملة.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 3"