اكتملت جميع الاستعدادات خلال ثلاثة أيام قصيرة لا غير.
ثماني عربات محمّلة بالمؤن كانت جاهزة، كما جرى حشد القوّة العسكرية المكلّفة بمرافقة الأميرة أوفيليا، ولم يبقَ سوى انتظار لحظة الانطلاق.
الوحيدة التي لم تكن مستعدّة حقًا، كانت إيفلين.
“إذًا، سترحلين قريبًا.”
قالت جلينا بنبرة يغلُب عليها الحماس، وهي تراقب الخادمات وهنّ يساعدن إيفلين على ارتداء ثيابها.
ورغم أن أحدًا لا يعلم ما الأخطار أو المصائب التي تنتظرها، لم يكن في صوتها أي أثر للقلق أو الشفقة.
“يبدو أنكِ مرتاحة للتخلّص من ذلك العبء الثقيل أخيرًا، أليس كذلكِ يا أمّاه؟.”
تحقّقت إيفلين من الابتسامة المنعكسة في المرآة على وجه جلينا، ثم شدّت ملامحها ببرود.
“وكيف يكون ذلك؟ قلبي يتألّم أيضًا لأن ابنتي العزيزة ستعبر إلى بييت. لكن ما باليد حيلة، فكلّ هذا من أجل مصلحة المملكة.”
كان تقاذفها لتلك الأكاذيب دون أن يرفّ لها جفن أمرًا مقززًا بحق.
وفي كثير من الأحيان، كانت إيفلين ترى أن الهرب من العاصمة أهون من العيش في خوفٍ دائم، تجهل فيه متى يأتيها الموت.
لكن ذلك لم يكن سوى وهم.
فالحرس المتمركزون خارج جناح الخادمات، الذي صار في حكم غرفتها، جعلوا الفرار مستحيلًا.
وكانت إيفلين تشكّ في أن جلينا نفسها هي من أوكلت إليهم تلك المهمة.
“على أي حال، وأنتِ بهذه الهيئة، تبدين لائقة تمامًا.”
شبكت جلينا ذراعيها وألقت نظرة فاحصة على إيفلين. لم ترَ إيفلين داعيًا للرد، فاكتفت بإدارة نظرها جانبًا، تاركة الخادمات يُكملن عملهن.
انعكاسها في المرآة كان، كما قالت جلينا، حسنًا على نحوٍ غير متوقّع.
خُصِل من شعرها الفضي، المشابه تمامًا لشعر الأميرة أوفيليا، جُدلت بعناية وزُيّنت، فيما أبرزت لمسات خفيفة من الزينة لون عينيها الزمردي.
أما الفستان الفخم، الذي لم تتخيّل يومًا أن ترتديه أو أن يليق بها، فقد بدا مناسبًا لها على نحوٍ أدهشها.
كل ما أحاط بإيفلين صُمّم وفق ذوق الأميرة أوفيليا.
ولو رآها أحد المقرّبين من الأميرة من بعيد، لظنّها بلا شك الأميرة الحقيقية.
حتى إمبراطور بييت، الذي لم تلتقِ به قط، لن يتمكّن من كشف زيفها من مظهرها وحده.
لكن مع مرور الوقت، لو أطال النظر، فسيكتشف الحقيقة.
سيُدرك أن هذه ليست الأميرة أوفيليا، بل مزيّفة.
فامرأة قضت حياتها كلّها خادمة، كيف لها أن تُحاكي طريقة حديث الأميرة أو سلوكها؟.
كان ذلك أقرب إلى المستحيل.
وحينها، ستُزهق حياتها دون تردّد.
حين بلغت أفكارها هذا الحدّ، تنفّست إيفلين زفرةً خافتة.
خوفٌ غريب، لم تألفه من قبل، بدأ يطبق على صدرها.
“حسنًا إذن، لقد أصبحتِ جاهزة. لننطلق.”
مع اللمسات الأخيرة، ابتعدت الخادمات عنها. ومن دون أن تلقي عليهنّ نظرة، استدارت إيفلين ولاحظت أنهنّ بدأن بالفعل بترتيب الغرفة.
وحين وصلت جلينا إلى الباب، أسرعت الخادمات بفتحه باحترام.
تبعتها إيفلين بخطواتٍ بطيئة.
العزاء الوحيد لها كان إتقانها لآداب القصر.
وخارج البوابات، اصطفّ الجنود المكلّفون بمرافقة الأميرة أوفيليا، لكنّ أحدًا منهم لم ينحنِ احترامًا للأميرة المزيّفة.
“احذري في رحلتك الطويلة. آمل ألّا نضطرّ إلى اللقاء مجددًا.”
كانت كلمات جلينا عند الوداع مبهمة، لا يُدرى أخرجت من حرصٍ أم من برود.
رحيلٌ بلا ندم، مشوبٌ بمسحةٍ باهتة من الأسى.
ما إن صعدت إيفلين إلى العربة، حتى انطلق الموكب. وفي داخل العربة المتمايلة، راحت تسترجع حياتها في العاصمة.
حياةٌ خلت من الفرح. أمّ باردة، وقصر لا يعرف سوى القسوة. لم يكن لها سند، ولم يعترف بها أحد.
كانت أيّامها خشنة، كالتشققات السميكة التي حفرتها الأعمال الشاقة في يديها. ومع ذلك، لم تتخيّل يومًا أن تُلقى في الخطر على هذا النحو.
—
استغرق الوصول إلى الحدود أسبوعًا كاملًا من السفر بالعربة.
ولحسن الحظ، كانت الطرق حتى هناك ممهدة، فلم تعانِ كثيرًا. لكن ما إن عبروا الحدود، حتى تحوّلت الطرق إلى مسالك وعرة غير ممهدة.
ومع مرور الوقت، ازداد شحوب إيفلين.
فهي التي وُلدت ونشأت داخل العاصمة، لم تحتمل رحلاتٍ طويلة كهذه. الاهتزاز المستمر جعل معدتها تضطرب.
ثم، حدث الأمر.
حين فتحت النافذة لتخفف من غثيانها، لمحت ومضة ضوء.
مسحت وجهها بيدها، وضيّقت عينيها تنظر.
كان انعكاس الشمس على نصل سيف.
“كمين!.”
صرخ أحدهم في الخارج، وتعالت الصيحات، ودوّى اصطدام الأسلحة في الهواء.
—طنّ!
وفي تلك اللحظة، اخترق سهمٌ النافذة المفتوحة.
مرّ بمحاذاة خدّ إيفلين، وارتطم بباب العربة، وظلّ يرتجف قبل أن يستقر.
نظرت إيفلين إليه بذهول، عاجزة عن استيعاب ما يحدث، حتى بدأ الألم اللاذع في خدّها الأيمن، فأدركت حقيقة الموقف.
كان كمينًا حقيقيًا.
أغلقت النافذة على عجل وأحكمت إقفالها.
على الأقل، مع إغلاقها، ستقلّ احتمالية دخول سهم آخر.
لم تستطع ترتيب أفكارها المتناثرة، فيما كان قلبها يخفق بعنف. ارتجفت يداها من الصدمة والخوف.
‘قطاع طرق؟.’
كانت تعلم أن الفوضى بعد الحرب أفرزت عصابات كثيرة، لكنها لم تتخيّل أن يتعرّض الموكب لهجومٍ كهذا.
انكمشت داخل العربة، تحبس أنفاسها.
حتى وإن كانت أميرة مزيفة، فإن من يرافقها جنودٌ ملكيون. طالما هم هناك، يفترض أن تكون آمنة.
‘لكن، هل يجرؤ قطاع طرق على مهاجمة جنودٍ ملكيين؟.’
وصل هذا السؤال متأخرًا إلى ذهنها، فوضعت يدها على فمها.
لقد بدت وجوه المهاجمين مألوفة. لكن كيف لها، وهي التي لم تغادر العاصمة قط، أن تعرف وجوه قطاع طرق خلف الحدود؟.
كانت ساذجة.
العربة لم تكن آمنة على الإطلاق. فهي أميرة مزيّفة. ولو كُشفت حقيقتها، فستقع هيستا في خطرٍ جسيم.
‘وهل يمكن أن تسمح هيستا بحدوث ذلك؟.’
صرخت إيفلين في داخلها. زحف إحساس مرعب على عمودها الفقري.
حاولت إقناع نفسها أن الأمر مستحيل، عبثي، لكن كل طريقٍ سلكه عقلها انتهى بالمستقبل ذاته.
نبضها المتسارع كان يقرع أذنيها.
إن بقيت هنا، ستموت.
فتحت باب العربة بحذر، والسهم لا يزال مغروسًا فيه، ونظرت إلى الخارج.
كان المشهد فوضى مطلقة. سيوف تشقّ اللحم، ودماء تتناثر في الهواء. من سقطوا لم ينهضوا مجددًا، والناجون كانوا يبحثون عن ضحاياهم التالية.
مشهد مرعب لم ترَ له مثيلًا.
راودها خاطر البقاء مختبئة، لكن صورة موتها داخل العربة ارتسمت بوضوح في ذهنها، فهزّت رأسها بقوة.
الخوف كان ينهشها.
سواء ماتت لاكتشاف زيفها، أو ماتت مختبئة، أو وهي تحاول الفرار، النهاية واحدة. ولا خيار من هذه الخيارات كان مقبولًا.
وإن هربت؟.
إمّا يطاردها جنود هيستا، أو تقتلها عصابات الطرق، أو تُؤسر حيّة في بييت وتُمزّق.
فما البديل؟.
انحدرت الدموع من عينيها أمام هذا المصير القاتم. هي لن تنجو على أي حال، لكنها لم ترد انتظار الموت.
من دون تفكير، فتحت الباب وخرجت.
وحين أدركت أنها لا تستطيع الركض بالكعبين، نزلت حافية واندفعت نحو جهةٍ خالية من الناس.
“الأميرة المزيّفة تهرب!.”
صرخ أحد المهاجمين، وكان يرتدي ثيابًا رثّة.
تجمّدت إيفلين. تلاشى ندمها فجأة.
لو كانوا قطاع طرق حقًا، لما عرفوا أن من في العربة ليست الأميرة أوفيليا.
لقد كانوا يعلمون.
وهذا يعني أمرًا واحدًا فقط:
‘هؤلاء، ليسوا قطاع طرق. إنهم جنود هيستا.’
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 2"