1
“إيفلين!.”
دون حتى أن تسبقها طرقة واحدة، انفتح الباب بعنف.
كانت تلك عادة غير مهذبة، لكن بالنسبة إلى إيفلين، لم تكن بالأمر المفاجئ أو الغريب.
فهذا النوع من التطفّل كان ببساطة جزءًا من حياتها اليومية.
كانت المرأة الواقفة عند العتبة في منتصف عمرها، ترتدي ثوبًا أنيقًا أكثر من ثياب الخادمات، لكنه أبسط من أزياء النبلاء.
إنها جلينّا، مربية الأميرة أوفيليا، وأمّ إيفلين.
“ما الأمر فجأة، يا أمّاه؟.”
خفضت إيفلين بصرها تلقائيًا وهي تسأل، إذ كانت تعرف جيدًا ما الذي قد يحدث لو تلاقت عيناها بعيني أمّها.
تقدّمت جلينّا نحوها بخفّةٍ راقصة تكاد تُشبه خطوات رقصٍ مدروس.
قالت بصوتٍ دافئ يفيض مودةً غير مألوفة:
“ينبغي أن تذهبي، يا إيفلين.”
كان نبرها الحنون على النقيض تمامًا من طباعها الباردة المعتادة.
ولشدّة الدهشة من سماع ذلك الصوت لأول مرة في حياتها، كادت إيفلين تومئ برأسها دون تفكير.
“…ماذا تعنين يا أمّاه؟.”
التقطت أنفاسها لتتماسك، ثم وضعت جانبًا إبرة التطريز التي كانت تعمل بها، ورفعت نظرها نحو أمّها.
اقتربت جلينّا منها ببطء، مبتسمةً ابتسامة مشرقة.
“ستذهبين بدلاً من الأميرة أوفيليا.”
جلست إلى جوارها، وأمسكت بيدها بإحكام.
كانت يد جلينّا ناعمة رقيقة، على خلاف يدي إيفلين الخشنتين المتشققتين من عناء العمل.
لكن إيفلين لم تجد وقتًا لتأمل هذا التباين المؤلم.
“أنا… سأذهب مكان الأميرة؟.”
تمتمت بشفاهٍ متيبسة، وقد ارتجف صوتها من الصدمة.
لقد نطقت جلينّا الأمر بوضوح: إيفلين ستحلّ محلّ الأميرة أوفيليا.
وفهمت إيفلين تمامًا ما يعنيه ذلك.
“لا بدّ أنكِ لا تقصدين أن أذهب إلى مملكة بييت؟!.”
كانت بييت دولةً مجاورة تفصلها حدودٌ عن هيستا، الأرض التي وُلدت ونشأت فيها إيفلين.
لطالما كانت العلاقات بين المملكتين ودّية… حتى قبل عامين فقط.
في ذلك الحين، سخر ملك هيستا من الإمبراطور الجديد لبييت، إذ عُدّ حديث العهد وضعيفًا في نظره.
وانتهز الملك الفرصة بينما كانت الإمبراطورية لا تزال مضطربة بعد تتويج إمبراطورها الجديد، فأعلن الحرب على بييت.
ذلك القرار قطع الأواصر بين البلدين إلى غير رجعة.
توهّم ملك هيستا، وقد أعمته ثقته العمياء بنفسه، أن بييت ستخرّ عند قدميه عاجلًا أم آجلًا.
لكن الأمور لم تسر كما أراد.
فالإمبراطور الجديد، الذي صعد إلى العرش بعد أن أراق دماء عائلته كلها، لم يكن خصمًا يُستهان به.
خسرت هيستا جميع معاركها تقريبًا، ولم تنتصر سوى في اثنتين فقط.
كانت تعتقد أنها على وشك إخضاع بييت، لكنها وجدت نفسها فجأة في موقع الدفاع، بعد أن فقدت سبع قلاعٍ رئيسية، قبل أن تُجبر في النهاية على الاستسلام.
ولتأكيد حسن النية، اتُّفق على أن تُرسل هيستا أميرة الملك الوحيدة، الأميرة أوفيليا، إلى بييت كرمز للمصالحة.
حين بلغ الخبر أوفيليا، بكت ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ دون انقطاع.
لكن لم يكن في الأمر ما يُمكن تغييره.
فقد شاع بين الناس أن إمبراطور بييت له قرنان، وأن جسده مغطّى بالشَّعر الخشن، وأن فمه ممزّقٌ حتى أذنيه.
لم يبدُ هذا الوصف إنسانيًّا قط، لكنهم تساءلوا: لِمَ إذًا أخفى الإمبراطور الراحل ابنه عن الأنظار طيلة حياته؟
فانتشرت الشائعات انتشار النار في الهشيم.
وزادت عليها رواياتٌ أخرى، تقول إن جيش بييت، بأمرٍ من إمبراطوره، يمزّق الناس إربًا بأسنانهم، ويأكل الأطفال الرضّع أحياءً.
ومع هذه الحكايات المفزعة، لم يكن عجبًا أن ترتجف الأميرة أوفيليا خوفًا وتبكي.
خفضت جلينّا صوتها لتهمس في أذن ابنتها:
“بعد ثلاثة أيام، ستكون كل الترتيبات جاهزة. شعركِ وعيناكِ مثل شعر الأميرة وعينيها تمامًا، لن يميّزكِ أحد في بييت. عليكِ أن تذهبي مكانها.”
تخيلت إيفلين للحظة وجه الإمبراطور، الذي وصفوه بالوحش، لكنها لم تستطع تكوين صورة واضحة له في ذهنها.
“لا…”
همست مرتجفة.
“لا أريد الذهاب.”
“إيفلين!.”
تغيّر وجه جلينّا إلى قسوةٍ كالصخر، ونطقت اسمها كصفعةٍ حادّة.
ارتجفت إيفلين وتراجعت خوفًا، فهذه النبرة كانت كفيلة بإعادتها إلى طفولتها كلها.
منذ صغرها، لم تعرف من أمّها سوى القسوة.
مهما قالت أو فعلت، كانت جلينّا تردّ عليها بالصراخ واللوم.
لكنها الآن، وقد رأت الارتباك في وجه ابنتها، مدّت يدها الأخرى ومسحت شعرها الفضيّ برفقٍ غير مألوف.
“إنها فرصة جيدة لكِ أيضًا. إن بقيتِ هنا، فستظلين خادمة لا أكثر، وأنت تعلمين ذلك جيدًا. لكن إن ذهبتِ إلى بييت مكان الأميرة، فسيختلف كل شيء.”
تابعت بابتسامةٍ هادئة:
“ستذهبين إلى هناك بصفتك أميرة هيستا. سيتعاملون معكِ بالاحترام الذي لم تحظي به هنا. تخيّلي، إن نلتِ رضا إمبراطور بييت، فقد تصيرين سيّدة القارة الغربية كلها.”
كان في كلماتها إغراء يصعب تجاهله.
فإيفلين ليست سوى ابنة جلينّا، مربية الأميرة، لا نسب لها ولا أب معروف.
مصيرها الطبيعي أن تبقى خادمة طوال حياتها.
أما الآن، فقد فتحت جلينّا أمامها بابًا إلى حياةٍ لا تشبه حياتها السابقة في شيء.
ولوهلةٍ، صدّقت إيفلين أن أمّها تفكّر فعلًا في مستقبلها.
لكن ما أرعبها هو مصيرها في بيت.
“قد… أموت هناك.”
تمتمت بصوتٍ مرتجف.
فإن كُشف أمرها، لن تُعدم وحدها، بل قد تشعل حربًا جديدة بين المملكتين.
“إن خالفنا وعدنا بإرسال الأميرة، فستُباد هيستا عن بكرة أبيها.”
“وإن انكشف أمري؟! لن تتوقف الأمور عند موتي… بل ستشتعل الحرب من جديد!.”
ابتسمت جلينّا ببرود وقالت:
“وما الذي يدعو للقلق؟ لا تُكشفي وحسب.”
“أمّاه!.”
صرخت إيفلين غاضبة، ثم أدركت حماقتها وسرعان ما كمّت فمها بيدها.
لحسن الحظ، لم تُبدِ جلينّا أي انفعال.
“أنا ابنتكِ، أتُرسلينني إلى الموت بيديكِ؟!.”
كلمات كثيرة كانت تتزاحم على شفتيها لكنها لم تجرؤ على إخراجها.
“قبل أن تكوني ابنتي، أنتِ من رعايا هذه المملكة، وذهابكِ إلى بييت بدلاً من الأميرة أعظم ولاءٍ يمكن أن تقدّميه.”
عضّت إيفلين على شفتيها بقهرٍ حين سمعت تلك الكلمات الجليدية.
فالأميرة أوفيليا كانت دائمًا الأولى في قلب أمّها، ولم تكن إيفلين سوى ظلٍّ لا يُرى.
حتى عندما عادت يومًا بعد أن عانت جرحًا بالغًا، لم تلتفت إليها جلينّا، بينما كانت تبكي بحرقة لو جرحت الأميرة إصبعها أثناء التطريز.
لم تعرف إيفلين في حياتها كلها طعم الحنان من أمّها، لكنها رغم ذلك ظلّت تحتفظ ببصيص أملٍ خفيّ، لعلّ جلينّا تخفي حبّها تحت قسوتها.
لكن كلماتها الآن حطّمت ذلك الأمل الهشّ تمامًا، فلم تستطع حتى الرد.
رأت جلينّا صمتها، فابتسمت قائلة:
“في الحقيقة، نقاشكِ هذا بلا طائل، يا إيفلين الغبية.”
رفعت إيفلين نظرها إليها وقد اتّسعت عيناها حيرةً.
“سواء شئتِ أم أبيتِ، ستذهبين. لقد أخبرتُ جلالة الملك بالفعل أن هذا هو الحل الأنسب.”
“…أمّاه؟.”
“نعم. القرار قد صدر بالفعل.”
كانت إيفلين واحدة من الخادمات الكثيرات اللواتي لا مكان لهن في القصر.
ولأن الملك لم يطق فكرة إرسال ابنته الوحيدة إلى تلك الأرض الموحشة، بدا اقتراح جلينّا حينئذٍ مخرجًا مثاليًا.
“لقد ابتهج جلالته، وقال إنها فكرة لم تخطر له من قبل.”
همست جلينّا بصوتٍ رقيق على غير عادتها.
أغمضت إيفلين عينيها بقوة لتكبح ارتجاف نظرتها.
“لذا، توقّفي عن إضاعة الوقت وابدئي تجهيزاتكِ للسفر.”
ثم غادرت الغرفة بخطواتٍ بطيئة مطمئنة، تاركةً ابنتها في صمتٍ مثقلٍ بالعجز.
أُغلق الباب، وبقيت إيفلين وحدها مع سكونٍ خانق.
رفعت يدها ببطء إلى جبينها المحموم، تُحاول استيعاب ما حدث.
فما قالته جلينّا لم يكن اقتراحًا، بل أمرًا صارمًا لا رجعة فيه.
لم يُؤخذ برأيها، ولم يُحسب حسابٌ لإرادتها.
لم يكن لها الحق حتى في أن ترفض.
التعليقات لهذا الفصل " 1"