ففي أسوأ توقيت ممكن، تفجّرت بكلّ شيء داخل فيلّا شخص آخر، وفي خضمّ عاصفة ثلجية، من دون أن تفكّر حتى في طريق للتراجع. شعرت كأنّها حمقاء تمامًا.
لم تكن تعرف لماذا فعلت ذلك، لكنها—في تلك اللحظة—كانت كمن استولت عليه مشاعره بالكامل.
باختصار… لم تستطع رؤية أي شيء آخر.
خشفة.
حتى مجرّد صوت قلبِ صفحة جعلها تتوتر، وكانت ممتنّة فقط لأن جسدها لم يرتجف بشكل ظاهر.
كانت تجلس على الأريكة، وتحاول بكل ما تستطيع الابتعاد عنه.
ببطء شديد، حرّكت جسدها قليلًا إلى الجانب، حتى انتهى بها الأمر ملتصقة بحافة المقعد.
ورغم أنّ ألبيرتو كان يعرف جيدًا أنها تحاول الهروب منه… جلس عمدًا إلى جانبها.
كان يقرأ بصمت، لكن رابيانا كانت تختنق برغبة في قول الكثير.
بعد أن هدأت وذرفت كل دموعها وسط الثلج، أدركت أن ألبيرتو… لم يعد إلى الداخل كما ظنّت.
في البداية، لم تدرك ذلك.
حين حاولت، بلمسات مرتبكة، فتح الباب، لم تشعر بوجود أحد قريب، وكذلك حين دخلت.
لكن عندما سمعت خطوات خفيفة خلفها… فهمت فجأة أنه كان يقف هناك كل الوقت، يشاهدها وهي تبكي أمام الباب.
م… ما الذي…؟!
ظنّت لوهلة أنّه أحد الخدم الذين يقفون دائمًا خارج القصر. لكن حين أوشكت على إغلاق الباب، وصل إليها العطر المألوف… وفهمت أنّه هو.
بعد ذلك، صعدت رابيانا لتبديل ملابسها—ولعلّه فعل الشيء نفسه.
لم ترغب في النزول مجددًا. كانت تشعر بالخزي لأنه رأى انهيارها، لكن خوفها كان أقوى من خجلها.
كانت ترتعب من فكرة أن يقرر ألبيرتو أخيرًا أنه ضاق بها… أو أن يتركها دون اهتمام.
لذا، رغم كل شيء… أجبرت نفسها على الجلوس قربه.
لحسن الحظ، بدا وكأنه منشغل بالقراءة.
خشفة.
لكن، على عكس ما ظنّت، لم يكن ألبيرتو يقرأ حقًا.
كان يقلب الصفحات بعادة قديمة، مثلما يفعل عندما يراجع المستندات، بينما كان ذهنه في مكان آخر تمامًا.
يفكر، مثلًا، في كلام رابيانا.
وفي ابتسامتها.
وفي اللحظات التي كانت تلتفت فيها نحوه، وفي ما فعلته حتى الآن.
“… آ-آتتشو!”
ما إن عطست رابيانا حتى أخرج ألبيرتو منديلًا بسرعة غريزية.
يده التي كانت تتجه نحو أنفها بشكل طبيعي… توقّفت في منتصف الطريق.
تذكّر كلماتها—تلك الجملة الغريبة التي سألت فيها ما إذا كان سيطردها حتى لو أحبّها يومًا.
هذا السؤال… جمد معصمه تمامًا.
“لـ-لماذا؟”
كان صوتها المرتجف يفضح شعورها.
أسقط ألبيرتو المنديل فوق ركبتيها كما لو أنّه يتخلّص منه.
بالنسبة له… لم يكن إعطاء المنديل يعني شيئًا.
كان فقط يقدّمه لأن الشخص الجالس قربه قد عطس.
لا أكثر، ولا أقل.
ولم يخطر بباله إطلاقًا أنها قد ترى الأمر بطريقة مختلفة.
“امسحي نفسك. أنفك يسيل.”
حاول أن يجعل صوته أكثر جفافًا.
كان يقنع نفسه بأن امرأة لم تعرف قرب أحد من قبل قد تسيء فهم أي تصرف بسيط.
لكن هناك فكرة أخرى شقّت طريقها:
حتى مع ذلك… هل نسيت حقًا كلّ ما فعله بها من قسوة؟
كان ألبيرتو رجلًا يعترف بحقيقته دون تجميل.
ليس نبيلاً في طبعه، ولا يملك ذرة من العطاء الحقيقي.
تلك اللحظات الصغيرة من اللطف أو اللباقة… لم تكن سوى واجبات متوقعة من رجل ينتمي إلى الطبقة النبيلة.
طبيعته كانت قاسية، بل عدوانية.
كان مذهولًا من قدرتها على تفسير أي شيء يصدر عنه على أنه حسن نية.
وفي الوقت نفسه… تذكّر ما قاله مساعده بيل قبل أيام.
‘سيدي، رجاءً عامل سيدتي بلطف أكبر. لقد رأيتها بعينيّ وهي تدافع عنك. حين تكلمت الليدي بيانكا عنك بسوء، رفعت رأسها وقالت: “لا تتحدثي عن زوجي بهذه الطريقة.” لم أعلم أنّ للسيدة هذه الشجاعة.’
يا لها من هراء.
‘رفعت رأسها وقالت ذلك بثبات. ظننتها جبانة، لكنها فاجأتني.’
إن كان صادقًا، فعندما سمع ذلك للمرة الأولى، اعتقد أن رابيانا كانت فقط تحاول ردّ الدين—
دين الموقف الذي وقف فيه إلى جانبها حين اتُهمت بالعقم.
لا يزال يتذكر ملامحها حين شكرته.
كان تعبيرًا لم يره منها من قبل.
كان صادقًا… بلا شك.
وفي تلك اللحظة… شعر تجاهها بشيء يشبه المودّة الحقيقية.
حتى لو كانت تزعجه، حتى لو كانت تتعمّد أحيانًا إثارة ضيقه، لم يكن يكره رابيانا حقًا.
ولهذا، ارتكب خطأ الاعتقاد بأنها قد تحمل مشاعر مشابهة.
نياااه.
كان ذلك في تلك اللحظة تمامًا.
ذلك الصوت الرفيع المرتجف شقَّ الصمت كأنه شيء يتمزق.
التفت ألبيرتو إلى مصدر الصوت الصغير الذي قطع أفكاره، صوت حيوان ما.
خارج النافذة الواسعة التي كانت العاصفة الثلجية تهدر خلفها، كانت قطة جالسة هناك.
«نياا. نياا…»
عند سماع الصوت، نهضت رابيانا مرتبكة.
تحسست الأرض أمامها بعصاها، ثم جثت قرب المكان الذي جاء منه الصوت.
مدّت يدها ولمست الزجاج.
ارتجفت من برودة السطح، فسحبت يدها قليلًا، ثم أعادتها إلى النافذة، ورفعت وجهها ناحية ألبيرتو.
في تلك اللحظة… بدت حقًا مثل القطة الواقفة خارج النافذة.
“يا لورد الدوق… هل هناك قطة هنا؟”
“نعم.”
“في هذا الثلج… في الخارج؟”
سألت بصدمة، كما لو أنّ الأمر مستحيل.
“نعم.”
فتحت رابيانا فمها وكأنها تريد قول شيء، ثم أطبقت شفتيها.
أصبح وجهها خاليًا من التعبير، كأنها تفكر بعمق، ثم توجّهت إلى الطابق العلوي.
راقبها ألبيرتو بصمت، حتى عادت بعد قليل تحمل بطانية.
وحين تقدّمت نحو الباب، وقف أمامها ليمنعها.
“هل ستخرجين؟”
“نعم. لا أستطيع تجاهلها.”
نظر ألبيرتو إلى القطة عبر الزجاج.
كانت مغطاة بالثلج حتى بدا كومة بيضاء، وبدا مظهرها بائسًا.
لكن رابيانا لم تكن قادرة على رؤية ذلك.
“قد تكون مريضة.”
“…”
“وأنتِ لستِ بخير أصلًا. يجب أن تبقي في الداخل. إن لمستِها والتقطتِ عدوى…”
هزّت رابيانا رأسها بقوة وكأنها ترفض سماع أي مما يقوله.
كانت امرأة لا تعبّر عادة عن رأيها، لكنها اليوم… كانت تتحدث بوضوح غير مألوف.
ولم يشعر ألبيرتو بالنفور من ذلك، بل… وجد الأمر مثيرًا للفضول. بل لطيفًا بشكل غريب.
“أنا لست خائفة.”
“….”
“الأمراض، الألم… لا أهتم بها.”
لكنها لم تُعجبه هذه الجملة.
“أنا أهتم.”
“…”
“ينبغي أن تدركي الآن… أن جسدك لم يعد ملكك وحدك.”
كانت رابيانا تعرف جيدًا ما الذي يقصده كل مرة يقول هذا.
ولهذا… كانت تكره سماعه.
كلما حاولت أن تنسى، ذكّرها مجددًا: عليكِ إنجاب طفل.
كانت تبغض ذلك حتى تكاد تختنق.
“… مع ذلك… سأدع لها البطانية وأعود.”
لكن ما كانت تكرهه أكثر… هو كيف كانت تلك الكلمات تقلّصها دائمًا وتجعلها تشعر كالمذنبة.
لم تكن تملك حتى القوة لتقول “لا يهم.”
ربما كان ذلك أنانية.
القلق على مخلوق صغير وسط العاصفة… بينما كانت هي قد خرجت لتوها من الثلج… ربما لم يكن شيئًا يحق لها فعله أصلًا.
ثم سمعت حركة ألبيرتو.
“سأذهب أنا.”
“…”
تراجعت رابيانا عن إصرارها.
حين أخذ البطانية من يدها، لامست أصابعه يدها.
شهقت بخفوت، وانكمشت كتفاها.
توقفت أصابعه لحظة… ثم انسحبت.
سقطت البطانية من يدها.
ثم تبعت ذلك خطوات متباعدة.
وصوت الباب وهو يُفتح.
«نياا. نياا. نياااه»—علت صرخات القطة بصوت حاد.
“تحرّكي من الطريق.”
صوته وهو يخاطب القطة وصل إليها من الباب.
اقتربت رابيانا من النافذة مرة أخرى.
رسمت في ذهنها صورة ألبيرتو خلف الزجاج.
رجل بلا وجه تستطيع رؤيته.
جسد واسع يكفي ليحتوي جسدها الصغير.
أصابع باردة ومستقيمة.
بطانية دافئة.
وقطة صغيرة قابلتها ذات يوم.
“حتى لو قلت لكِ أن تتحركي…”
ماذا كان يجري هناك؟
شعرت بفضول قوي يجرّها.
“ابقي هنا.”
“نياا!”
“ها… غير معقول.”
“نيا. نيا!”
كان صوتهما يتردّد ذهابًا وإيابًا كأنهما يتحاوران.
ثم انفتح الباب بعنف.
استدارت رابيانا نحوه.
لم تستطع رؤيته، لكن الثلج كان يكسو كتفي ألبيرتو وشعره، وكان يحمل القطة بيد واحدة، وملامحه—لو استطاعت رؤيتها—كانت أكثر انكماشًا وانزعاجًا من ملامح تلك القطة الصغيرة.
“نياااه!”
“آه…”
خرج صوت حائر من رابيانا عند سماع الصرخة قريبة منها.
“كانت تحاول الدخول مرارًا، لذلك…”
“آه…”
“تبدو نظيفة بما يكفي من الخارج، و…”
“…”
“ووقوفك هناك بذلك الشكل كان يشتت تركيزي.”
أصبحت جمل ألبيرتو أطول من المعتاد.
اكتفت رابيانا بالاستماع، دون كلمة.
“… سأغسلها.”
عندها قفزت رابيانا واقفة.
الرجل نفسه الذي قال إنها قد تكون مريضة… هو الآن يدخل القطة ليحممها.
“أتعني… أنك ستسمح لها بالبقاء هنا؟”
هل حقًا…؟
“حتى يتوقف هذا الثلج اللعين.”
“حقًا؟”
“نعم. هذا فقط. لا تقتربي أكثر. قد تلتقطين شيئًا.”
حين اندفعت ناحيته بدهشة، تراجع هو بالقدر نفسه.
وعند كلماته، التي رسم بها خطًا واضحًا بينها وبينه… توقفت.
لم تفهم كيف يمكنه أن يبعدها… ثم يدخل القطة في الوقت نفسه.
لكن لا شك… أنه كان قلقًا بشأنها.
بدأ يصعد السلالم.
تلاشى صوت مواء القطة وصوت ألبيرتو وهو يأمرها أن تصمت.
فكرت رابيانا كم كان مؤسفًا ألا تستطيع رؤية تلك الصورة.
على نحو غريب… شعرت أن قلبها صار أخفّ.
اختفى كل الضيق والغضب اللذين شعرت بهما قبل قليل… بلا أثر.
التعليقات لهذا الفصل " 38"