انكمشت رابِيانا وهي تضغط بكلتا يديها على صدرها الذي كان يخفق بعنف. كانت الكلمات التي سمعتها للتوّ تتردد في رأسها مرارًا وتكرارًا.
“لقد قتلته.”
“ربما كان عليّ أن أُحدث بعض الضجيج. فقط امنح أحدهم لقب دوق، وسيفترض أنه يملك الحق في التدخل في كل شيء…”
لم تستطع أن تنسى الصوت المنخفض الجاف الذي نطق بتلك الكلمات. شعرت وكأنها قد لمحت وجهًا آخر لألبرتو، وجهًا لم تكن لتتخيله حتى في أسوأ كوابيسها.
قبل ساعات فقط، كان الرجل اللطيف الذي وقف يدافع عنها. أما الآن، فقد بدا كحاصد أرواحٍ مظلمٍ انتزع حياة إنسان.
خطوات… خطوات متتابعة.
اقتربت الأصوات شيئًا فشيئًا.
حبست رابِيانا أنفاسها. فوق رأسها كان الحرير الناعم يتدلّى، لقد كانت داخل الخزانة. ولسببٍ ما، كانت غرائزها تصرخ فيها أن تختبئ.
تلمّست الأرض بيديها وزحفت على ركبتيها حتى دخلت الخزانة تمامًا، ثم أغلقت الباب خلفها بإحكام. كان قلبها يخفق بقوةٍ حتى كادت أن تصم أذنيها.
“سيدتي.”
تردّد صوت ألبرتو الهادئ في أرجاء الغرفة الفارغة.
وضعت رابِيانا يدًا مرتجفة على فمها، وحبست أنفاسها بكل ما أوتيت من جهد كي لا تُصدر أدنى صوت.
“هاه.”
ضحكة فارغة خرجت منه. لقد أدرك أنها سمعت كل شيء، لكنه لم يتوقع منها أن تختبئ فعلاً.
جال ببصره في الغرفة الباردة التي لفّها الهواء. تحت الطاولة. مزهرية محطمة. كرسي مقلوب، لا بدّ أنها كانت تجلس عليه قبل قليل. عصاها تستند إلى حافة النافذة.
توقّف نظره عند الخزانة، وبالتحديد عند قطعة قماشٍ كانت تبرز قليلًا من بين البابين المغلقين.
كان يعلم أن كلماته يمكن أن تُساء فهمها بسهولة، لكنه لم يتخيّل أنها ستذهب إلى هذا الحد وتختبئ.
تردّد ألبرتو للحظة. هل عليه أن يتظاهر بعدم رؤيتها؟ أن يغادر بصمت احترامًا لحيائها؟
ذلك كان الخيار الأكثر لُطفًا.
لكن لسببٍ ما، شعر بشيءٍ يلتوي في داخله.
وفي النهاية، فتح أبواب الخزانة على مصراعيها.
“سيدتي.”
اهتزّت. الصوت البارد المحمّل بالهواء الشتوي انتشر في المكان. انحنى ألبرتو والتقط اليد التي كانت تغطي فمها، مبللة بالعرق.
“هل سمعتِ كل شيء؟”
“آه، ن-نعم؟ م-ماذا… سمعت؟”
“ألا ترين أن الوقت متأخر قليلًا لتتظاهري بالجهل؟”
لو أنها اكتفت بالاستلقاء وتظاهرت بالنوم، لكان ربما تركها وشأنها.
لكن أن تختبئ بهذه الطريقة الفاضحة ثم تدّعي البراءة؟ لم يكن لديها أدنى موهبة في التمثيل.
ارتجفت يد رابِيانا التي قبض عليها بشدّة. تنهد ألبرتو تنهيدة قصيرة.
“هل أخيفكِ؟”
“…”
“لماذا؟ أأنتِ خائفة أن أقتلكِ أيضًا؟”
في الحقيقة، لم يخطر هذا ببال رابِيانا، لكن بعد أن قالها، بدأ الشكّ يتسلل إليها.
قلوب البشر متقلّبة؛ لقد نسيت أنه دافع عنها، ولم تشعر سوى بالرعب منه. ربما حين قال إنه سيُطلق سراحها بعد إنجابها طفلاً، كان يقصد أنه سيرسلها إلى العالم الآخر.
زفرت رابِيانا ببطء. لقد كانت حياةً قد قرّرت إنهاءها يومًا ما على أية حال.
لقد أخافها، لكنها لم تستطع أن تكرهه.
“ل-لا، ليس… هيك!”
لماذا يجب أن تأتي الحازوقة الآن؟
“هيك—لستُ—هيك—خائفة—هيك—”
“أنتِ كاذبة سيئة.”
“حقًا—هيك! آه!”
وضعت رابِيانا يدها على فمها بقوة، لكن الحازوقة لم تتوقف.
سكب ألبرتو الماء من الإبريق الموضوع على الطاولة بجانب السرير، وكان صوت انسيابه مرتفعًا على نحوٍ غريب.
وكما فعل عندما كان يعتني بها، رفع الكأس إلى شفتيها. شربت رابِيانا في رشفاتٍ صغيرة كطائرٍ صغير، وارتعشت يداها بخفة.
رؤيتها بهذه الحال المذعورة حرّكت شيئًا في داخله.
قبل لحظات فقط كانت تبتسم له بامتنانٍ صادق.
بدلاً من أن يشرح لها، طرح سؤالاً آخر.
“هل ترغبين في العيش؟”
“…”
“هل ترغبين في العيش؟”
وقع السؤال الجاد كصخرةٍ على قلب رابِيانا. عضّت شفتيها المرتجفتين بقوة وأومأت، بينما دموعها بدأت تتجمع في عينيها.
“ك-كيف… كيف يمكنني أن أعيش؟”
انتزع ألبرتو شبه ابتسامةٍ من شفتيه، وكأنها سخرية من الموقف. كان مسليًا بالنسبة له أنها تستطيع طرح سؤال كهذا وهي ترتجف خوفًا. لم يكن الأمر مضحكًا، ومع ذلك وجد نفسه يبتسم.
كان لديها كل الحق لتكون مرعوبة، ومع هذا بدت في نظره كوميدية إلى حدٍ ما.
“بحسب سلوككِ، سيدتي… سأدعكِ تعيشين.”
“…”
“لو أنكِ لم تعرفي، لكنتِ قد عشتِ بسلام.”
شعرت رابِيانا بدوارٍ يجتاحها.
لو أنها لم تفتح النافذة.
لو أنها نامت في الوقت المحدد.
لما حدث أيّ من هذا.
غمرها حزنٌ ثقيل عند هذا التفكير.
✦✦✦
منذ اليوم التالي، بدأت رابِيانا تتجنّب ألبرتو.
كانت كلماته السابقة – حين قال لها أن تبقى في غرفتها إن لم ترد أن يزعجها أحد – تحمل الآن معنى مختلفًا، أكثر ظلامًا.
إن بقيت في مكانها، فقد تختفي ذات يومٍ من دون أثر.
لكن كانت هناك أيام لا تستطيع فيها تجنّبه.
مثل هذا اليوم، حين كان عليها أن تودّع بيانكا.
لم تكن بيانكا قادرة على مواجهة النهار وهي بكامل وعيها.
حينما ألقت لومنها الحاقد على ألبيرتو، كانت تتحدث بثقة تامة، مقتنعة تمامًا بأنه لم يكن هو الجاني.
فكري بالأمر، من الذي يصرخ في وجه قاتل حقيقي قائلًا «أيها القاتل!» إن لم يكن متأكدًا أنه بريء؟
لكن في ذلك اليوم…
ذلك التعب الممزوج بالضجر في ملامح ألبيرتو حين اعترف بالقتل، وصوته المنخفض الرتيب…
إن كان ذلك مجرد كذبة، فمكانه على خشبة المسرح لا في الدوقية، كان سيمثّل دورًا رائعًا حقًا.
الآن، بدأت بيانكا تقلق.
ظل وجه ابنها الأكبر يخطر ببالها.
لماذا بالتحديد ذكر ألبيرتو ابنها ذاك؟
كان عليها أن تتأكد من سلامة ابنها… حالًا.
ولم تكن تنوي أن تطأ عتبة قصر روين ثانية ما حييت.
ومهما كانت مرارة الخزي في أن تؤول أملاك عائلتها إلى عدوها، فإن أبناءها كانوا الأهم.
لم تستطع أن تخسر حتى واحدًا منهم.
“أتريدين أن تحملي بذرة ابن حقير ووضيع؟”
تفوهت بيانكا بسمّها وهي تحدق في رابيانا التي جاءت لتودعها.
ربما هذه المرأة لم تدرك بعد حقيقة ألبيرتو.
لكن بالنسبة لبيانكا، فإن أي امرأة ترضى بحمل طفل من ذلك الرجل لا تقل عداوة عنه.
“قيل لي إنني عاقر…”
قهقهت بيانكا بسخرية.
فالطبيب الذي جاء لتشخيص حالتها كان يعمل بأمرها — وقد أعطاها تشخيصًا مزيفًا.
لقد كانت كذبة.
شعرت بيانكا بالاشمئزاز من وجه رابيانا الساذج إلى حدّ أنها رغبت في صفعها.
“إن كنت تملكين ذرة عقل، فاهربي.”
“…”
“أنا لا أكره ألبيرتو نفسه، رغم أنني لا أطيق النظر إلى ذلك الطفل. ما أكرهه هو أنتِ. أنتِ التي تجلسين هنا، مستعدة لحمل طفل من ذلك الرجل.”
“…”
“لو كنتِ عاقرًا حقًا، فلمَ كنت سأطاردك لأبعدك عن القصر؟”
كان مجرد التفكير في أن يكون لألبيرتو طفلًا كافيًا لجعل بيانكا تشعر بالغثيان.
كانت تأمل أن يرث ابنها الثاني أملاك آل روين، لكن ذلك الحلم قد تبخر منذ زمن.
وإن مدّ ذلك الشيطان يده يومًا إلى ابنها الغالي… لم تستطع حتى أن تتخيل ما قد يحدث.
لم يكن بوسعها السماح بأن يُضحّى بابنها.
لهذا السبب نسجت كذبة عقم رابيانا لتُبطل الزواج — كي تضع بدلًا منها امرأة من اختيارها.
النساء العقيمات كثيرات، وتحت نفس الظروف كانت امرأة تدين بالولاء لبيانكا خيارًا أفضل بكثير.
لكن خططها تبدلت بين ليلة وضحاها.
فتخلّت عن طمعها واختارت الطريق الأكثر حكمة — الحفاظ على حياتها.
“ابن الوضيع…”
كانت رابيانا قد سمعت كل ما دار بين بيانكا وألبيرتو.
أما هي، فقد أرادت الهرب لمجرد سماعها همسات الخدم — فكيف به وقد عاش يسمع كل ذلك؟
“لا يوجد في هذا العالم من يمكنك الوثوق به، تذكري ذلك دائمًا يا سيدتي.”
حتى لو كانت تحذيرات بيانكا القلقة صحيحة، وحتى لو كان ألبيرتو قد وُلد في ظروف ملعونة، فهو لا يتحمل الذنب.
“أرجوكِ، لا تقولي أشياء كهذه.”
فالميلاد ليس خيارًا.
“على الأقل، الدوق… ألبيرتو لم يرتكب أي خطأ.”
“ها!”
ضحكت بيانكا ضحكة خاوية.
“أنتِ تدافعين عنه فقط لأنه زوجك. يا لولائك الأعمى المؤثر…لكن ستندمين. حتماً. دون أدنى شك.”
ارتجفت وجنتاها، وغادرت القصر مسرعة.
ارتعشت رابيانا في التيار البارد الذي خلفته وراءها.
“سيدتي، هل ندخل؟”
أومأت رابيانا — لكن فجأة شعرت بحركة خلفها.
“سيدتي.”
حمل النسيم صوته، فارتجف ظهرها. كان ذلك الصوت الذي جعل قلبها يهبط هو صوت ألبيرتو.
قبل لحظات فقط كانت تدافع عنه، لكنها الآن تجمدت تمامًا.
طقطقة.
“…؟”
شعرت بشيء ثقيل يلتف حول كتفيها — ناعم، كثيف، دافئ، كان فرو حيوان.
ما… ما هذا؟
تقدم ألبيرتو أمامها وأحكم أزرار المعطف.
“يلائمك جيدًا.”
“م… ما هذا؟”
قال بنبرة هادئة: “تسعدين بالهدايا العملية.”
دقّ قلبها بعنف — دقة تلو أخرى.
“سلخت جلد وحش وصنعت لكِ منه معطفًا.”
لم تستطع تخيل المشهد، لكن كلماته كانت كإعلان مبطن: إن تجاوزتِ الحدود، قد يسلخ جلدك أنتِ أيضًا.
“هيك—”
شهقت متفاجئة، لتتبعها بفواق صغير، فضحك ألبيرتو عاليًا، كاشفًا عن أسنان بيضاء وسط ابتسامة صادقة للمرة الأولى.
لقد وجد ألبيرتو تسليته الجديدة: مداعبة رابيانا، تلك الفتاة العمياء المسكينة التي لا حول لها ولا قوة.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 33"