اقتربت أنفاس ألبيرتو حتى لامست أذنها.
ولو غيّر زاوية وجهه قليلًا لالتقت شفاههما، فأرادت أن تُرجع رأسها إلى الخلف، لكنها لم تستطع لأن ذقنها كان محبوسًا في قبضته.
كانت تدرك أنّ عليها أن تقول شيئًا، أي شيء، لكن الكلمات خانتها.
فـلورنس لم يكن سوى شخص بمقام العائلة بالنسبة لها، أما ذلك الهدية فلم تكن إلا شيئًا يُعينها على تذكّره في هذا المكان الغريب، كما كُتب في رسالته.
لكن ردّة فعله جعلتها تشكّ، كأنّ لورنس ارتكب خطأً فادحًا بإهدائها ذلك، وكأنّ للأمر معنى آخر خفيّ لم تكن تعلمه.
“هُت…”
ارتفعت يد ألبيرتو أكثر، ولامست خشونة أصابعه لحم فخذها. اشتعل جسدها بحرارة، فقبضت على معصمه قبل أن يتجاوز الحدّ.
كان بينهما واجب كزوجين أن يقيمَا علاقة، لكن الوقت كان نهارًا.
ورغم جهلها الكبير بعالم الأزواج، إلا أنّ رابيانا كانت تدرك أنّ مثل هذا لا يحدث عادة في وضح النهار.
ومع ذلك، خجلت من ارتجافها أمام يده الممسكة بفخذها.
فبينما بدا لمسة مقصودة، راودها خاطر آخر: لعلّه لم يكن إلا غضبًا منه، وهي من أساءت الفهم.
“لا يهمّني من تلتقين.”
قطع ألبيرتو كلماتها قبل أن تخرج من فمها، وانتقل فجأة إلى موضوع آخر.
“سواء رأيتِ فيّ صورة حبيبك الأول، أو التصقتِ بخادم في قصر لوين، أو حتى تورطتِ مع ذلك الرجل الذي آواك… فما شأني أنا؟”
نبرته الباردة منحتها هدوءًا غريبًا، لكنها في الوقت نفسه وخزتها بمرارة.
إن كان لا يبالي حقًا، فلماذا بدا كمَن أُصيب بغيرةٍ مجنونة؟
كلمات لم تستطع أن تقولها تجمعت في صدرها.
“لكن على الأقل… عليكِ أن تحفظي الأدب.”
“…”
“ارتداءك قلادة من رجل آخر داخل قصري… هل هي حيلة لإغاظتي؟”
لو كانت تلك نيتها، لشعرت بالانتصار وهي تراه غاضبًا، لكن قلب رابيانا انقبض وتجمّد ببرودة قاسية.
كل كلمة تخرج من فمه بدت كسيف مُسنّن.
“إن شاع حديث بين الناس…”
خفض ألبيرتو بصره نحو يدها التي تمنعه، فارتجفت أصابعها قليلًا، وأثار ذلك سخريته.
“فالذي سيتضرر… هو أنا و—”
عينا ألبيرتو انزلقتا نحو الفتحة الضيّقة بين ثنايا ثوبها، فبدت كهاوية لا تُقاوم.
ابتلع ريقه بصعوبة.
“طفلي أنا.”
“…”
“أنتِ إن غادرتِ بعد أن تحملي بطفل منّي فذلك يكفيكِ، لكن الباقين سيعيشون وهم يسمعون القيل والقال القذر.”
رغم قُرب جسدهما الشديد، شعرت وكأن جدارًا غير مرئي يفصل بينهما.
جدار يقول لها إنهما من عالَمين مختلفين تمامًا.
جدارٌ صلب لا يمكن كسره.
وكأنّ الذي يدفعها إلى الخارج هو نفسه…
بينما هي لم تفكر أصلًا في الهروب.
شعرت بالظلم.
فكلمات ألبيرتو، إن سمعها غريب، لاعتقد أنّ رابيانا هي من خانت مع رجل آخر وطالبت بالانفصال.
تلك البلاغة الماكرة تركت جرحًا في أعماقها، فارتعشت عضلات فمها رغماً عنها.
أرادت الردّ، لكن الخوف من إجابته كبحها.
فماذا يمكن لامرأة مثلها، تعتمد على الآخرين كي تعيش، أن تقول أمام رجل قرر أن يستخدمها؟
“سأحرص على ألّا تنتشر شائعات عني…”
هل كان بوسعها أن تجيب بأكثر من وعدٍ كهذا، ألّا تسبّب له أذى؟
“أما عن لورنس، فهو فقط…”
لكنها لم تُكمل، إذ انقضّ ألبيرتو على عنقها وقبّلها بقسوة.
وخزٌ ساخن اجتاح جسدها كله مع المصّ، فارتعشت وأمسكت كتفه غريزيًا.
“هـه… لِمَ… ماذا…”
بينما كان يعضّ جلدها الرقيق، توغلت يده أكثر.
ترك أثرًا ظاهرًا على رقبتها، ثم رفع رأسه أخيرًا.
“الواجب.”
تنفّسه الخشن انسكب على عظام صدرها.
“ألا يجب أن نقوم به؟”
“…”
“طفل. يجب أن نُنجب طفلاً.”
فك أزرار أكمامه، وصوت ساعته وهي تُفكّ دوّى في المكان.
رابيانا، المحاصرة فوق الطاولة، لم تجد مهربًا.
رجلاها لم تلمسا الأرض، فارتعدت خوفًا من السقوط للخلف.
وأمامها ألبيرتو يغلق الطريق.
لم تكن تدري أين ينتهي طرف هذه الطاولة، وما إن حاولت التراجع ستسقط.
“لكن… إنه نهار الآن…”
أعادت رابيانا مرة أخرى دفع اليد التي تمسكت بفخذها.
ومع شدّها لفخذها بقوة، التصقت بجسده أكثر فأكثر.
سحب ألبيرتو ربطة عنقه بعصبية.
“هل يهمكِ الليل والنهار، سيدتي؟”
ألم.
كلمة موجعة جعلتها عاجزة عن الرد للحظة.
“هل كنا من قبل على قدر من الألفة يجعلنا نفكر بمثل هذه الأمور؟”
الكلمات التي تلاها وكأنها همس داخلي، غرست نفسها في قلب رابيانا كإبرة حادة.
زواجهم كان مجرد عقد وراثة، وكلمات ألبيرتو كرّست ذلك كختم على صدرها.
لم تستطع رابيانا تحرير يد ذقنها الممسكة بها.
التقت الشفاه.
ابتلعها بسرعة مرعبة.
إحساس الطاولة الباردة على ظهرها جعل جسدها يقشعر.
الفخذ الممسوك كان يحترق من الحرارة، وعقلها تاه بعيدًا.
كانت عينا ألبيرتو مثبتتين عليها بنظرة قوية ومركّزة.
عضت رابيانا شفتيها.
حواسها، غير المرئية للآخرين، كانت أكثر حدة من أي شخص عادي.
كانت تعرف كل مكان تقع فيه عيناها بلا حركة، وكانت تسمع أنفاس الآخرين غير المنتظمة بصوت أعلى، وأحيانًا أصوات محرجة جعلت أذنيها تحمرا.
“أوه، آه!”
خشيت رابيانا أن تنكسر الطاولة تحت وقع اهتزازها المفاجئ، فأمسكت بحافتها.
الأمواج العنيفة التي لا ترحم قلبتها، شعرت بها كما لو كانت طفلة بعمر عشر سنوات تخاف من تحطم قاربها الصغير.
خطر شعور جسدها بالانكسار دبّ في داخلها.
“قليلًا فقط… آه، ببطء…”
عادة، كان ألبيرتو رجلاً مهذبًا.
حتى في المرة الأولى حين اقاما علاقة، ركّز على الفعل أكثر من رغباته.
كان هدفه واضحًا: إقامة علاقة من أجل الوراثة.
لكن اليوم كان مختلفًا.
شعرت رابيانا بحرارة جسدها واحمرار الجلد حيث لمسها، ودمعت عينها من ذلك.
“آه… ببطء؟”
تجلت الأوردة على ذراع ألبيرتو الممسكة بحوضها.
تساقط العرق من جبين الرجل الرياضي على ذراعه.
“ماذا؟ سألتِ؟”
اختنقت كلماتها في صدرها مع تنفسها المتقطع، فأعاد ألبيرتو تحريكها بقوة.
“آه، نعم، نعم.”
استجابت رابيانا بطاعة، فتوقف ألبيرتو لحظة، كما لو أنه راضٍ عن هذا التصرف.
“حسنًا، ممتاز.”
ثم أزال ألبيرتو سترته بعد أن منحها لحظة استراحة قصيرة.
الرجل الذي لم يفقد توازنه يومًا، مرّر شعره المنسدل إلى الخلف، ثم أخرج العلبة الصغيرة من جيب سترته.
‘سيد الدوق، هل تشاجرتم كزوجين؟’
الحديث عن الشجار؟ لا، هذا ليس شجارًا.
إنه مجرد انفجار غضب أحادي من ألبيرتو.
لو سأل أحدهم عن سبب غضبه، لقال بكل بساطة: رغم أن زواجهم قائم على عقد، إلا أنّه لا يعجبه تصرف رابيانا الذي يفتقر إلى الأدب والاحترام.
وبالمع ذلك، أدرك ألبيرتو بشكل غامض أنّ هذا المنطق غريب بعض الشيء.
لو كان يكرهها فعلاً، لكان تجاهلها كافياً.
لكن النار التي تشتعل في قلبه كاللهيب لا يعرف حتى مصدر غضبه.
شعر بشيء ناقص في داخله، وكأنه يجب أن يتذكر شيئًا لكنه لا يعرف ما هو، فانتهى به المطاف إلى نسيانه تمامًا.
“اهدئي.”
وضع ألبيرتو العقد حول عنق رابيانا وهي تلهث.
ارتجفت من المفاجأة، لكنها شعرت ببرودة المعدن وبدأ جسدها يرتاح تدريجيًا.
بعد تثبيت القفل ورفع يده، بدأت تلمس العقد بتردد.
بشرتها البيضاء جعلت الألماس الأبيض النقي يلمع أكثر من الياقوت الأحمر.
“ما هذا…؟”
رفعها بسرعة ونقلها إلى السرير.
وضعها على فخذه، ومد يده على جسدها.
ملمس جلدها الممتلئ كان ممتعًا جدًا هذه المرة.
هذا الشعور الممتع كان يراوده أحيانًا أثناء عمله في المكتب.
تذكر الآن كيف أن رابيانا كانت تشتت انتباهه بتركيزها على القراءة بعد أن أعطاها الكتابة بطريقة برايل.
كان يريد أحيانًا أن يفسد تركيزها بتلك النظرة المشاغبة.
باختصار، كان ألبيرتو قد صبر كثيرًا.
“أحببت أن أرى العقد على عنقك.”
في الحقيقة، لم يكن يهمه، فقد التقط أي مجوهرات ليتلاعب بها قليلًا، لكن قلبه الملتوي كان يقوده.
“…ليس كذلك. لكن هذه الهدية، آه، فاضلة جدًا…”
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 23"