كانت الأريكة في مكتب زوجها وثيرة. وكان الهواء في الغرفة التي يعمل فيها لطيفًا وهادئًا—بيئة بدت مناسبة تمامًا للتركيز. لم يكن يُسمع حتى زقزقة الطيور. هذا كل ما استطاعت رابيانا استيعابه.
رغم أنها جلست بظهر مستقيم، إلا أنها شعرت وكأنها جالسة على إبر ودبابيس. من دون وعي، حرّكت جسدها قليلًا.
“هل هو غير مريح؟”
“…أنا بخير.”
“تصرفي وكأنك في بيتك.”
فكّرت رابيانا: كيف يمكنني الشعور بالراحة في مكان عمل يخص غيري؟
خصوصًا في مكان يُعد رسميًا. لكنها لم تملك الجرأة لتقول ذلك بصوت عالٍ.
كانت تفضل البقاء في غرفة النوم، لكنها شكّت أن ألبرتو سيسمح بذلك إن طلبت.
أي نوع من المشاكل يظن أنني سأتسبب بها في غرفة، على أي حال…؟
تمتمت لنفسها، مستاءة من بروده.
حين رآها تضغط على صدرها وكأنها غير مرتاحة، ضيّق ألبرتو عينيه.
“هل تشعرين بتوعك؟”
“آه، لا. أظن أنني فقط أكلت كثيرًا…”
“أكلت كثيرًا؟”
خشية أن يوبّخها، أسرعت رابيانا بالتوضيح.
“فقط أكلت أكثر من اللازم، هذا كل شيء.”
“إذا كان ذلك كافيًا ليجعلك تشعرين بالغثيان، فكم هو صغير حجم معدتك؟”
ورغم أنه يتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية، قررت رابيانا أن تلوم جهازها الهضمي الخجول فحسب.
خشخشة، خشخشة.
سمعت صوت قلم، ثم احتكاك كرسي.
شعرت به يجلس بجانبها. ومن دون وعي، ابتعدت قليلًا.
“لماذا تبتعدين؟”
“أ… لم أفعل.”
“حقًا؟”
لكنها في الحقيقة كانت قد ابتعدت. عضّت شفتها بصمت.
رؤية ذلك جعلت ألبرتو يقترب أكثر.
كان الأمر مربكًا للغاية. لكنه لم يتوقف عند ذلك—بل ربت على كتفها بلطف.
“استديري هذه الجهة.”
“نعم؟ آه، حاضر.”
عندما أدارت رابيانا ظهرها له، بدأ ألبرتو يطرق على عمودها الفقري بقبضته.
وبضغطه الدقيق على فقراتها، بدأت تشعر بتحسن ملحوظ.
وعندما بدأ يضغط على كل فقرة كما لو كان يحفظ مكانها، تدفقت التوترات وانتشرت في جسدها أحاسيس غريبة. كان الأمر يسبب لها دغدغة خفيفة، وحاولت ألا تحرك خصرها.
كلما نزلت يده إلى أسفل، أصبح الإحساس أغرب، وعضّت رابيانا شفتها.
وفي اللحظة التي ضغط فيها على نقطة معينة—
“همممغ…”
خرج صوت من شفتيها قبل أن تتمكن من كتمانه.
توقفت يد ألبرتو.
امتد الصمت حتى أصبح واضحًا، وبدأ التوتر يتملّك رابيانا.
ماذا يجب أن تقول؟ بحثت في ذهنها عن أعذار، لكن قبل أن تنطق، جاء صوت ألبرتو من قرب أذنها مباشرة.
تشنّجت رابيانا فورًا وسحبت رقبتها.
قريب جدًا…
“هل تشعرين بتحسن الآن؟”
على عكس رابيانا، التي كانت متوترة لدرجة أنها لم تستطع حتى البلع، سحب ألبرتو يده بهدوء.
لم تستطع أن تلتفت لتنظر إليه، واكتفت بهز رأسها.
عاد ألبرتو إلى مكتبه بلا تردد. ولم يُسمع سوى صوت كرسيه وهو يعود إلى مكانه، فأخرجت رابيانا أنفاسها أخيرًا.
خدش، خدش.
عاد صوت القلم مجددًا يملأ الغرفة.
وسرعان ما تسللت إليها النعاس وهي تستند على الأريكة.
هبّت نسمة باردة.
الريح التي داعبت شعرها لم تكن برد الشتاء، بل كانت تشبه نسمات الربيع.
لكنه لا يمكن أن يكون ربيعًا.
فتحت رابيانا جفنيها المثقلين ببطء. وفي رؤيتها الضبابية، رأت ما بدا وكأنه يد.
يد تبتعد كما لو كانت قد أبعدت خصلة شعر عن وجهها.
تابعت اليد بعينيها ورفعت رأسها قليلًا، فرأت رجلًا يرتدي بدلة.
“جلالتك..؟”
نادته بصوت مثقل بالنعاس، بالكاد يخرج من فمها.
ربما لم يتوقع منها أن تناديه، إذ إن يد ألبرتو ارتعشت قليلًا. وبعد لحظة، سأل:
“هل ترينني، بالمناسبة؟”
“عذرًا؟”
“عرفتِ أنني أنا من دون أن أقول شيئًا.”
“آه…”
كان ألبرتو يعرف أنها عمياء، لكنه لم يكن يعلم التفاصيل. فأومأت رابيانا برأسها قليلًا.
“يصعب القول إنني أرى فعلًا… لكن الأمر ليس ظلامًا تامًا. أستطيع تمييز ظلال أو أشكال ضبابية—لكن فقط عندما تكون قريبة جدًا.”
“أفهم.”
وبعدما سأل، بدا أن اهتمامه بالأمر زال فجأة.
سكن الصمت. وبدأ الغسق يحلّ تدريجيًا.
تذكرت رابيانا اللمسة اللطيفة التي أبعدت شعرها قبل قليل.
هل كانت فعلًا يده؟
في اليوم التالي، أحضر ألبرتو رابيانا إلى مكتبه مجددًا. ورغم شعورها ببعض الانزعاج، أخفته وجلست على الأريكة.
تساءلت ما إن كانت ستغفو مرة أخرى، لكن ألبرتو وقف أمامها.
ماذا يريد الآن؟
“أود أن أُعطيك شيئًا.”
وضع شيئًا في يدها؛ أحست بأن سطحه مليء بنقاط بارزة.
ما هذا؟ لم تستطع أن تميز.
“إنه كتاب مخصص لضعاف البصر. سمعت أنهم يقرؤون بهذه الطريقة.”
“…حقًا؟ أحضرته من أجلي؟” كانت الفكرة بحد ذاتها صادمة—أمر لم يخطر ببالها قط.
“ليس بالضبط من أجلك—بل لأنني أبقيك هنا.”
“……”
“ظننت أنك ستشعرين بالملل. هل تكرهينه؟”
تجمدت رابيانا، فمها مفتوح قليلًا من الدهشة، ثم هزّت رأسها بسرعة.
أكرهه؟ إطلاقًا.
بل كانت مذهولة فقط. هذه أول مرة يعطيها أحدهم هدية—وما أعمق معناها.
قرأ لورانس لها الكتاب بصوت عالٍ. وعندها فقط علمت أن هناك كتبًا مخصصة للعميان.
“شكرًا… شكرًا جزيلًا.”
داعبت رابيانا الكتاب وكأنه كنز. هل يُسمح لي حقًا أن أملك هذا؟
شعرت وكأنها لم تتلقَّ كتابًا فقط، بل شيئًا من لطف ألبرتو.
كانت تظن أنها ضحية لعقد زواج أحادي الجانب وظالم، لكن—إذا كان هذا ممكنًا—فربما ليس سيئًا إلى هذا الحد.
الحياة هنا كانت أفضل بكثير من حياتها في قصر لورانس.
أفضل بما لا يُقارن. لم يكن أحد يهينها، حتى من خلف ظهرها، وكانت جوليا والخادمات طيبات معها.
والآن، بات بإمكانها القراءة.
لكن سعادتها لم تدم طويلًا. فقد أدركت أمرًا جعل حاجبيها ينخفضان.
لقد نسيت أهم شيء.
“أم… لكن… أنا لا أعرف كيف أقرأ هذا.”
✦✦✦
استأجر ألبرتو معلمة لتعليمها طريقة برايل’. وبدأ يتساءل كيف عاشت رابيانا حتى الآن.
‘هيما: طريقة برايل هي نظام كتابة وقراءة يستخدمه المكفوفون وضعاف البصر، وتعتمد على نقاط بارزة يمكن تمييزها باللمس لتمثيل الحروف والأرقام والرموز. اخترعها لويس برايل في القرن التاسع عشر، وهي تمثل وسيلة أساسية لتمكين ذوي الإعاقة البصرية من الوصول إلى التعليم والمعلومات والمشاركة في الحياة المجتمعية
هل كانت تجلس فقط بصمت طوال اليوم، كما تفعل في مكتبه؟
أصبح تجوالها في قصر روبنسون منطقيًا الآن— بدت حياتها السابقة وكأنها كانت مملة لا تطاق.
درست كطالبة مثالية، وأثار اجتهادها لينًا في قلبه.
وفي النهاية، عندما بدأت تقرأ بمفردها، بنى لها ألبرتو غرفة دراسة داخل مكتبه.
وكانت حجته أن القصر لا يتسع، لكن السبب الحقيقي كان أبسط:
أراد أن تبقى أمام ناظريه.
قرأت رابيانا بهدوء.
وكان شغفها بالكتب يدفعه للتساؤل: كيف استطاعت أن تعيش كل هذه السنوات من دونها؟
كانت تلتهم الصفحات بسرعة مدهشة.
وفي كل مرة سمع فيها صوت غلق كتاب، رفع رأسه ليراها تقف بهدوء وتتجه نحو الرف لتأخذ كتابًا جديدًا.
راقبها وهي تتسلق برفق، تمدّ جسدها إلى الأعلى.
كانت الخادمات قد وضعن الكتب على الأرفف—
لكن عدد كتب برايل زاد لدرجة أن الرفوف العليا امتلأت.
وبعدما أنهت كل ما هو في الأسفل، لم يبقَ أمام رابيانا سوى محاولة الوصول إلى الأعلى… لكن ذراعيها لم تصلا.
“كرسي.”
عرض ألبرتو الحل الأبسط.
توتر وجه رابيانا.
إخبار شخص لا يرى بأن يصعد على كرسي بدا قاسيًا. لكن ألبرتو كان، بطريقته الخاصة، يحافظ على حدود.
هو مجرد زوج بالاسم. زواجهما مجرد وسيلة لإنجاب وريث.
وإظهار الكثير من اللطف قد يربكها فحسب.
صرير.
تحرك الكرسي تحت وزنها. ارتفعت قدماه ثم استقرّ مجددًا وهي تثبّت نفسها.
لابد أن الكتاب كان بعيدًا في الداخل—
تعلّقت رابيانا بالرف، تمد جسدها بتنهيدة خفيفة.
ثم—مال الكرسي.
فقدت قدمها توازنها في الهواء، وبدأ جسدها يسقط إلى الخلف.
استعدت للارتطام، وأغلقت عينيها—
لكن قبل أن تصطدم، لفّها ذراعان بإحكام حول خصرها.
قبضة قوية. ورائحة باردة هادئة. لقد أُمسكت.
“لا أستطيع التركيز في عملي هكذا.”
“…أنا آسفة. هل أشتّت انتباهك؟”
“تظنين؟” جاء صوته جافًا. “أنتِ ترفرفين أمام ناظري باستمرار.”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 19"