“ليس الأمرُ كذلك!”
لم يستطع روشان أن يقف متفرّجًا على جلد زوجته لذاتها، فرفع رأسه وصاح بها.
لكنّه لم يقدر أن يقول أكثر من ذلك.
سواءٌ كانت لديه نيّةُ خداعٍ أم لا، فالحقيقة أنّه تظاهر بجهله بسرّها طوال تلك السنين.
“وما الذي ليس كذلك؟
صحيح، لا داعيَ للومك.
فالخطأ كان خطئي أنا، حينها والآن.
أنا الغبيّة، فمن ألوم غير نفسي؟”
توسّل روشان بعينيه ألّا تقول ذلك.
منذ أن أدرك أنّ ييرينا استعادت ذاكرتها، كان قد هيّأ نفسه كلَّ يوم.
إن قطعت عنقه، أو دسّت له السُّم، فسيتقبّل ذلك بطيب نفس.
وإن حاولت، كما في السابق، أن تنهي حياتها، فسيتوسّلها—وإن بدا ذلك وضيعًا—أن تفكّر في الأطفال.
وإن لم يُجدِ ذلك، فسيختار أن يموت معها.
فكّر في هذا مرارًا.
لكنّ ييرينا لم تُقِرّ باستعادة ذاكرتها إلّا اليوم.
اليوم فقط، وهي على شفا الموت.
كان روشان يظنّ أنّ تجاهل الأمر ومجاراة زوجته هو الصواب.
لكن حين نظر إلى وجهها الآن، تساءل إن كان قراره صائبًا حقًّا.
فالنتيجة أنّه جرحها مرّةً أخرى.
وجعلها تشعر، مرّةً ثانية، بالإحساس نفسه الذي ذاقته من خداعه.
كان ذلك مؤلمًا حدّ الفظاعة.
وتساءل روشان إن كان طعنُ عنقه الآن قد يخفّف ألمها ولو قليلًا.
“لا تُفكّر بتفاهات.”
قرأَت ييرينا أفكاره فورًا، وزجرته.
ارتجفت يداه بعنف.
نظرت إليه ببرود، ثم صرفت نظرها عنه وقالت:
“… يمكنك أن تتذكّر ما تشاء كما يحلو لك.
لكن من الآن فصاعدًا، اسمع ما سأقوله جيّدًا.”
“….”
“أنا أموت بسببك.
لا تُلقِ اللوم على الأطبّاء، ولا على الكهنة أو الكاهنات.
موتي سببه أنت، روشان ڤيستيوس.”
اهتزّ جسد الرجل كلّه.
كان وجهه الشاحب، المتناقض مع شعره الأسود، مبلّلًا بعرقٍ بارد.
“ارفع وجهك.”
استدارَت إليه وأمرتْه.
وبارتجافٍ شديد، رفع روشان رأسه.
نظرت ييرينا إلى عينيه الحمراوين المحطّمتين تمامًا، وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ معوجّة.
ثم بدأت تقذف إليه بالكلمات التي ستؤلمه أكثر من أيّ شيء، الكلمات التي لم تستطع قولها طوال تلك السنوات.
“كنتُ أشعر بالاشمئزاز.
كلّما رأيتُك، كنتُ أكاد أتقيّأ، ولا تتصوّر كم عانيتُ وأنا أقاوم ذلك.”
“….”
“لاحقًا، صار مجرّد وجودك في المكان نفسه يخنقني حتّى أكاد أُغمى عليّ.
ومع ذلك، كنتَ تهمس في أذني بكلّ وقاحة: إنّك تحبّني.”
“….”
“في كلّ مرّة قلتَ لي إنّك تحبّني، راودتني رغبةٌ في قطع أذنيّ.
أتدري كيف كان شعوري حين تلمسني؟
كأنّ جلدي يتعفّن.
لذلك اغتسلتُ مرارًا وتكرارًا.”
“….”
“ومع ذلك، ما زلتَ تطمع.”
“….”
“… تطمع أن أقول لك إنّي أحبّك.”
تحوّلت الكلمات المكبوتة إلى خناجر مزّقت قلبه.
كان روشان يلهث بصعوبة، محاولًا أن يتفوّه بأيّ تبرير.
“ل، لا.
ييرينا.
كيف لي أن أجرؤ….”
كان يعرف قدره جيّدًا.
وكان يردّد في داخله أنّه لا يحقّ له أن يطمع بحبّها.
لكن، إن فكّر بصدق، فقد كان يكذب على نفسه.
ففي أعماقه، كان يتمنّى حبّها، حتّى بعد أن انكشف كلّ شيء.
“كاذب.”
كانت ييرينا تعرف ذلك.
لذلك قذفته بتلك الكلمة القصيرة.
ثمّ صرخت، وقد فاض غضبها:
“ها أنت ذا تكذبٌ حتّى النهاية!
خدعتَني طوال هذا الوقت، وحتّى هذه اللحظة لا تنطق إلّا بالكذب؟”
صفعة.
جمعت ييرينا ما تبقّى لها من قوّة وضربت خدّه بقسوة.
لكنّ روشان لم يشعر بالألم.
بل تشوّه وجهه عذابًا.
كان يتمنّى أن يؤلمَه ذلك، ليشعر أنّ فيها بقايا حياة، وبصيص أمل.
لكن الصفعة كانت واهنةً للغاية.
“أن تطلب الحبّ من امرأةٍ لم تستطع حتّى أن تنتقم…
كم أنت جشِع، أليس كذلك؟”
صرخت ييرينا وهي تمسك بمعصمها المنثني.
كان صدرها يعلو ويهبط بسرعة مع أنفاسها اللاهثة.
نهض روشان.
لم يعد يحتمل.
كان الخوف عليها ينهش صدره.
“ييرينا، أرجوكِ…
اهدئي.
سأجلب السيف.
اطعنيني كما تشائين، لكن لا تصرخي هكذا.
جسدكِ…
أنا خائف أن لا يحتمل.”
كان يتلعثم كالأحمق.
لم يبدُ في تلك اللحظة كإمبراطورٍ جليل.
هدأ غضب ييرينا عند رؤية منظره البائس.
وضعت يدها على بطنها وانفجرت ضاحكة.
وبعد زمن، مسحت دموعها وتمتمت:
“حقًّا… هذا مطمئن.”
“….”
“لأنّي قبل موتي، شبعتُ من رؤية ذُلّك.”
كانت تستمتع بصدق.
كان ألمه واضحًا، ومع ذلك كانت الدموع تحجب بصرها بلا توقّف.
مسحت عينيها بخشونة، عاجزةً عن فهم جسدها.
“روشان ڤيستيوس.
سأقولها مرّةً أخيرة.
لا تجرؤ على طلب حبّي.
لن أحبّك ما دمتُ حيّة.”
قالتها بوجهٍ جامد، ثم استلقت وهي ترتجف، وأدارت ظهرها له.
“اخرج الآن.
ولا تعُد.”
“….”
“لا أريد رؤيتك حتّى بعد موتي.”
لم يكن لروشان خيار.
فتح فمه مرارًا دون صوت، ثم ترنّح وخرج.
ومنذ ذلك اليوم، لم يزر الإمبراطور غرفةَ الإمبراطورة.
وانتشرت الأقاويل عن قسوته وتركه زوجته المحتضرة.
لكن مهما قيل، لم يذهب إليها.
كان يصعد إلى البرج العالي في القصر، لا ينام، ولا يأكل، ويحدّق طوال اليوم في قصر العاج.
—
اقتربت لحظةُ أن يقطع الحاكم القدر خيطًا آخر.
هدّأت الإمبراطورة أطفالها الباكين بصعوبة، ثم انتظرت الموت، وأمرت الوصيفة:
“أحضري الإمبراطور.”
بعد قليل، سُمِعَ صوتُ ركضٍ مسرع.
فُتح الباب، ثم عمّ الصمت.
مدّت ييرينا يدها خارج السرير، مشيرةً لمن يقف هناك أن يقترب.
اقترب شخصٌ وجثا قرب السرير.
وبصعوبة، أدارَت ييرينا وجهها.
كان وجهًا مألوفًا.
أشارت إليه أن يقترب أكثر.
فعل.
شعرٌ أسود، وعينان حمراوان.
وجهُ العدوّ.
أغمضت ييرينا عينيها، ثم فتحتهما ببطءٍ شديد.
من الذي رأته حين فتحتهما؟
وعند الحدّ الفاصل بين الحياة والموت، همست:
“أحبّك…”
تجمّد الرجل.
لم تعبأ بردّة فعله، ومدّت أصابعها إلى خدّه.
“أحبّك.”
“….”
“أحبّك.”
“….”
“أحبّك.”
همست بها مرارًا، حتّى اختنق نَفَسها.
وحين همّ بالنداء، أوقفته بإشارة.
مسحت دموعه وقالت بصوتٍ متقطّع:
“لا… لا تُسيء الفهم.”
“….”
“هذا ليس لك.”
“….”
“كيان…
أنا أحبّ كيان.”
تجاهلت توسّلاته، وأكملت.
“أنا أحبّ كيان.”
كانت تعرف الحقيقة.
لكنّها أرادت أن تطعنه مرّةً أخيرة.
‘كيان’ و’روشان’ شخصٌ واحد.
ومع ذلك، لم تستطع إثبات أنّها لا تحبّه.
“… لن يُغفَر لي، أليس كذلك؟”
تمتمت وهي تتذكّر أسرتها.
“لكن… دعوني أبتسم مرّةً واحدة فقط…”
ثم نظرت إليه، وقالت باسمه للمرّة الأخيرة:
“روشان ڤيستيوس.”
ومسحت دموعه قائلةً بهدوء:
“عِدني، ولو كذبًا…
أنك ستبقى حيًا.”
كانت تعرفه جيّدًا.
ولو ماتت، لتبعها إلى الجحيم.
“الأطفال…
اعتنِ بأطفالنا.”
ثم ختمت، بصوتٍ واهن:
“إلى أن يقفوا وحدهم…
لا تمُت.”
ارتجف، وهي ابتسمت.
كان ذلك جميلًا.
كان مُرضيًا.
ولو كان وهمًا…
فقد شعرت، ولو قليلًا، أنّها انتقمت.
التعليقات لهذا الفصل " 99"