“أبي.”
حين وقعت عينا روشان على زوجته على حين غِرّة، أسرع بخفض بصره إلى الأسفل.
وهكذا، دخلت إلى ناظريه وجوهُ الأطفال الصغار.
كان التوأمان، ورثةُ عينيه الحمراوين، يثرثران بوجوهٍ صافية.
“لماذا لم تأتِ لتتناول الطعام معنا؟”
“قلقنا عليك، يا أبي.”
في عيون الأطفال امتلأ الإيمانُ به والحبّ.
وكذلك كانت أمّهم، زوجته.
لكن ماذا لو اختفى كلّ هذا الآن…؟
مدّ روشان يديه وقرص خدَّي التوأم قرصةً خفيفة.
“……كان لديّ أمرٌ طارئ.”
صاغ صوته بمرحٍ مصطنع، غير أنّ الوهنَ لم يكن ممّا يُخفى.
لاحظ التوأمان اختلاف حال أبيهما، فتبادلا نظرةً خاطفة، ثمّ رمقا أمّهما.
قالت ييرينا بصوتٍ حنون.
“كايرو.
لويس.
عانقا أباكما مرّةً واحدة ثمّ اخرجا، أليس وقتُ الدراسة قد اقترب؟”
بمجرّد سماعهما كلام الأم، فتح التوأمان ذراعيهما واندفعا إلى حضن الأب.
ضمّهما روشان إلى صدره الواسع معًا.
اعتاد الطفلان التعلّق بصدر أبيهما، لكنّهما شعرا هذه المرّة بقوّةٍ أشدّ من المعتاد، فأجهدهما الأمر.
انتبه روشان لذلك، فأرخى ذراعيه على الفور.
“أمّي.
تعالي لرؤيتي لاحقًا.
هيا يا أخي.”
“نعم.
إلى اللقاء لاحقًا، يا أبي.
يا أمّي.”
وقد أدرك لويس غرابة الأجواء، فبدل أن يُلحّ، أدار عينيه ومدّ يده إلى أخيه.
أومأ كايرو برأسه، وأمسك بيد أخيه، وخرجا.
حتّى بعد اختفاء الأطفال، لم يستطع روشان رفع رأسه.
كان النظر إلى زوجته مُفزعًا حدَّ الرعب.
ماذا لو استعادت ذاكرتها الآن، كما فعل فريدريك؟
جفّ فمه.
“روشان.”
كم من الوقت مضى على هذا الحال؟
اقتربت ييرينا منه.
لكنّها، بسبب حملها، وجدت صعوبة في الانحناء، فتردّدت لحظة، ثمّ جلست جلوسًا أقرب إلى الركوع، ووضعت يدها على رأسه.
عند لمس اليد الصغيرة لشعره، رفع روشان رأسه أخيرًا ونظر إلى زوجته.
كانت في عينيه حرارةُ مَن اقترف ذنبًا، ويتوسّل الغفران والخلاص.
وحين انتقل بصره من وجه ييرينا إلى بطنها المنتفخ، نهض من فوره، وأرشدها مباشرةً إلى الكنب.
اتبعتْه بلا اعتراض.
جلس بجوارها بعد تردّد، ثمّ التصق بها وهمس.
“ييرينا.
أرجوكِ، عانقيني.”
لم يكن طلبًا صعبًا، بل كان ممّا اعتادت عليه، فاحتضنته ييرينا بهدوء.
أحاطت خصره بذراعيها، ومرّرت يدها على خدّه.
أغمض روشان عينيه، وأطلق أنينًا مكتومًا تحت لمستها.
كانت مشاعر الذنب والقلق تغلي في داخله وتحرقه، لكنّ مجرّد إدراكه أنّها إلى جانبه جعله يحتمل.
“روشان.
حقًّا، لا شيء خطير، أليس كذلك؟
قلقتُ حين خرجت فجأة.
إلى أين ذهبت؟”
انتظرت ييرينا حتّى فتح عينيه، ثمّ سألت بحذر.
نظر روشان إلى عيني زوجته الممتلئتين بالقلق عليه، ولعن نفسه في صمت.
غير أنّه أخفى ذلك، وأجابها.
“ذهبتُ قليلًا إلى المعبد….”
“المعبد؟”
“غفوتُ قليلًا، ورأيتُ كابوسًا.”
ما إن كذب على زوجته، حتّى شعر كأنّ شوكًا يغرس في فمه وحلقه.
لكنّه لم يستطع قول الحقيقة، فواصل الكذب بسلاسة.
“لم يكن كابوسًا عظيمًا، لكنّي أقلقتني أنتِ والطفل الذي في بطنكِ…
لم أتحمّل، فذهبتُ لمقابلة المرسلّ قليلًا.”
“أنت حقًّا…”
كانت كذبةً سوداء، لكنّ ييرينا صدّقته بلا أدنى شكّ.
ربتت على كتفه مرّتين، وابتسمت ابتسامةً جميلة.
كانت اليد البيضاء التي لامست خدّه طاهرةً إلى حدٍّ مؤلم.
لذلك لم يجرؤ روشان على لمسها.
“أنا آسف.”
اعتذر لها بلا جدوى، وهي تبتسم ابتسامةً ناعمة.
مالت ييرينا برأسها باستغراب.
ابتسم روشان بمرارة، وأضاف كذبةً أخرى.
“……لأنّي أقلقتكِ.
كان يجب أن أخبركِ قبل أن أخرج.”
عندها فقط فهمت ييرينا قصده، فأومأت برأسها.
ثمّ رفعت يديها كلتيهما وأمسكت وجهه بلطف.
“يا لك من إنسانٍ محبوب.”
همست بذلك، وأغمضت عينيها، ورفعت رأسها قليلًا.
وأمام تلك القوّة التي لا تُقاوَم، انحنى روشان.
التصقت شفاههما بلا فراغ.
وعلى خلاف روشان الذي ظلّ ينظر إلى زوجته طوال الوقت، لم تفتح ييرينا عينيها إلّا بعد انتهاء القبلة.
احمرّ خدّاها خجلًا، ومع ذلك اعترفت بصدق.
“أحبّك، روشان.”
تلاقَت أعينهما تمامًا.
وعندها فقط وجد روشان الجواب.
سواء دُفِنَت الحقيقة إلى الأبد، أم كُشِفَت يومًا، لم يكن عليه أن يفعل شيئًا.
كان القلق الذي ينهشه، والمصير الذي قد ينهار مستقبلًا، كلّها أعباءٌ عليه وحده.
ولم يكن ليستطيع، هربًا من ذلك، أن يُلحق الأذى بها مرّةً أخرى.
طوال السنوات الماضية، عانت زوجته لياليَ كثيرة بسبب ذكرياتٍ لا تعود.
كم مرّةً رآها تبكي خفيةً وهي تكتم صوتها؟
لقد قتل الأميرة مرّةً واحدة من أجل شهوته.
محاها من هذا العالم، وحوّلها إلى امرأةٍ تخصّه وحده.
‘مهما كان مآلُ الأمر، فليكن كما تريد هي.
دعها تفعل ما تشاء.’
قد يكون قادرًا على ذلك مع الأميرة، لكن ليس مع زوجته الآن.
تلك العينان المليئتان بالثقة، وتلك الابتسامة المشبعة بالمحبّة.
إن محا زوجته، ستختفي كلّها.
ثمّ إنّ معها طفلين، وقريبًا ثلاثة.
كانت زوجته تحبّ الأطفال بعمق.
تمامًا كما أحبّت الأميرة القديمة عائلتها التي فقدتها.
ولذلك لم يكن ليستطيع أن يسلبها عائلتها مرّةً أخرى.
ظلّ قلبه يؤلمه خوفُ افتضاح الذنب.
لكنّه اعترف بأنّ ذلك نصيبه، ونظر في عيني زوجته.
أمسك يدها الموضوعة على وجهه، وهمس.
“……وأنا أيضًا.”
“…….”
“وأنا أيضًا أحبّكِ، ييرينا.”
—
“افرحوا بميلاد صاحبة السموّ الأميرة!”
حلّت البشرى على الإمبراطوريّة.
بعد ستّ سنوات من ولادة التوأمين، وُلدت أميرة.
كان اهتمام الناس بالمولودة عظيمًا.
تساءل العامّة عن الأميرة التي يُقال إنّ جمال الإمبراطورة بدأ يظهر عليها،
وأبدى النبلاء غبطتهم بالعائلات التي لديها أطفالٌ في العمر نفسه.
نُثِرَت العملات التذكاريّة في الشوارع،
وبأمرٍ خاصّ من الإمبراطور، استمرّ الاحتفال عشرة أيّام متتالية.
وامتلأ القصر بجوٍّ دافئ، فعمل الجميع وهم يبتسمون.
غير أنّ أكثر الناس فرحًا كان الإمبراطور نفسه.
نظر إلى ابنته الصغيرة، التي ورثت شعر أمّها الأشقر وعيونها الزرقاء، وارتسمت على وجهه ابتسامةٌ مشرقة.
وإذا ما قورن ذلك بما كان يُشاع قبل عشر سنوات عن مرضٍ يمنعه من الابتسام، بدا الأمر معجزة.
“شكرًا لكِ، ييرينا.
وأحبّكِ.”
ظلّ الإمبراطور يشكر زوجته مرارًا وهو ينظر إلى الرضيعة التي لا تكاد تثبت رأسها.
وكانت الإمبراطورة، المستلقية في سريرها خلال فترة النقاهة، تنظر إلى زوجها، وإلى التوأمين، وإلى ابنتها الجديدة، بوجهٍ هو الأسعد في العالم.
—
“لويس.
كايرو.
حان وقتُ الذهاب.
سمعتُ كلّ شيء.
قيل إنّكما أهملتما واجباتكما، أليس كذلك؟”
“لكن يا أمّي، كنّا نعتني بآيشا….”
“لويس على حقّ، يا أمّي.
كنّا نهتمّ بأختنا، فضاق الوقت.”
“كايرو.
لويس.
لآيشا مرضعةٌ خاصّة بها، أليس كذلك؟”
منذ الصباح، كان قصر العاج يعجّ بالضجيج.
وبعد الإفطار مباشرةً، كاد الأميران يركضان إلى أختهما، لكنّهما، أمام توبيخ الأم، خفضا رأسيهما بخيبة، وتبعا الخدم إلى دروسهما.
ضحك روشان وهو يشاهد المشهد، ثمّ نهض من مكانه.
كان عليه هو أيضًا أن يذهب إلى عمله.
لكن، وكما في كلّ مرّة، ما إن همّ بالمغادرة حتّى تثاقلت قدماه.
اقترب من زوجته، مفكّرًا أنّ تأجيل العمل ساعةً لا بأس به.
“لا.”
“…….”
“أريد أن أرتاح وحدي.
لذا، يا روشان، اخرج أنت أيضًا.”
دفعته ييرينا بحزم.
ولأنّه لم يستطع مخالفة كلامها، تراجع متحسّرًا.
“آيشا.
سأراكِ بعد قليل.”
وقبيل خروجه، حيّا ابنته النائمة، ثمّ قبّل ييرينا قبلةً خفيفة.
“أحبّكِ، ييرينا.”
بدل الردّ، ابتسمت ييرينا ابتسامةً جميلة، وقبّلت خدّه.
وعندما لامست شفتاها خدّه، تردّد روشان مرّةً أخرى في الخروج،
لكنّه، أمام نظرة زوجته الصارمة، غادر الغرفة.
“خذي آيشا معكِ.”
قالت ييرينا ذلك للمُرضِعة المنتظرة.
فانحنت المرضعة، وحملت الأميرة، وخرجت مع جمعٍ من الخدم.
لم يبقَ في الغرفة سوى ييرينا وبعض الوصيفات.
نظرت الإمبراطورة حولها، ثمّ تحرّكت، ودخلت أعمق غرفها في قصر العاج.
“إلى أن يصدر أمري، لا يدخل أحد.
أريد أن أكون وحدي.”
“نعم، يا جلالةَ الإمبراطورة.”
انحنت الوصيفات وانصرفن.
كانت الإمبراطورة، منذ مدّة، تخصّص لنفسها مرّةً أو مرّتين في الشهر ساعةً أو ساعتين من العزلة.
بعد أن خلا المكان، نظرت ييرينا إلى غرفة النوم.
كانت غرفةً مهيّأة بعناية، مليئةً بآثار العائلة.
على الخزانة، إكليلُ زهورٍ صنعه التوأمان بأيديهما.
وعلى السرير، الغطاء الأبيض الذي كان يلفّ رضيعتها.
وفي أرجاء الغرفة، هدايا زوجها مصطفّةٌ بعناية.
‘قلتُ لكَ إنّ علينا تغيير السرير.
ظننتُ أنّه يزعجك.’
نظرت ييرينا إلى السرير الذي تشاركه مع روشان.
بل، أدقّ، حدّقت فيه.
تحرّكت الشمس خارج النافذة ببطءٍ شديد.
ومعها تغيّر وجه ييرينا شيئًا فشيئًا.
استدارت فجأةً،
وجثت على أبعد نقطةٍ عن السرير.
“أنا آسفة.”
تمتمت بذلك وهي تنظر إلى الفراغ.
وفي لحظة، انعكست على شبكيّتها صورةُ جمعٍ من الناس،
أناسٍ لم يَعُد أحدٌ يذكرهم.
التعليقات لهذا الفصل " 97"