‘……اليومُ هو الحدّ الأخير. لا يجوز أن أظلّ على هذه الحال بعد الآن.’
الشيءُ المُطمئِن، أنّ العقلَ لم يَفْنَ تمامًا بعد.
كان فريدريك، كما فعل في الماضي، يعتزمُ أن يلتقط مشاعره المتناثرة مع شروق الشمس، ويُرتّبها وحده، ثم يُحكِم طيَّها في أعماقه.
لقد جرّب ذلك من قبل، فلا سبب يجعله يعجز عنه الآن.
لكنّها كانت مشاعرَ ذاتَ مُهلةٍ محدّدة، ولذلك عَسُرَ عليه ضبطُها في هذه اللحظة.
في هذه اللحظة تحديدًا، أراد أن يكون صادقًا.
رفع فريدريك بصره إلى هايدِن، وأفرغ ما في صدره بلا مواربة.
“هايدِن.
أنا أغارُ منك.”
“…….”
“تزوّجتَ منذ زمن، ولديك طفلٌ أيضًا، أليس كذلك؟”
لم يكن هايدِن ليجهل ما يرمي إليه صديقُه.
فنظر إلى فريدريك بوجهٍ متصلّب، كأنّه يأمره بالكفّ.
“لقد فقدتَ صوابك.”
“أتذكّر كم كنتُ متذمّرًا حين كُلِّفتُ بحراسة الأميرة ، أليس كذلك؟
لكنّ ذلك كان حظَّك.
لو لم يكن الأمر كذلك، لَكان هذا المصيرُ من نصيبك أنت.”
“كفى.”
لم يَعُد في وسعه الإصغاء أكثر.
نهض هايدِن من مكانه.
ثمّ، بعد لحظة تردّد، أبلغ فريدريك بقراره.
“سأُخطر جلالةَ الإمبراطور أوّلًا برسالةٍ بأنّك استعَدتَ ذاكرتك.
ومع بزوغ الصباح، سأتوجّه فورًا إلى العاصمة.”
“حسنًا.
إذًا علينا الاستمرار في الإخفاء.”
ضحك فريدريك ضحكةً مائلة، وارتفع طرفُ فمه.
اشتدّت حدّةُ نظرات هايدِن.
غير أنّ فريدريك، بلا أدنى خوف، هزّ كتفيه.
“لماذا؟
لم أقلْ ما هو خطأ، أليس كذلك؟
يجب أن تذهب بسرعة وتجد طريقةً ما.
طريقةً لمواصلة خداع الأميرة .”
“هذا الـ…!”
طَخ.
عاد لفظُ “الأميرة ” يتردّد مرّةً أخرى.
لم يستطع هايدِن الاحتمال أكثر.
انحنى بجسده، وأمسك بياقة فريدريك بقوّة، ثمّ وجّه إليه لكمةً.
كانت نصيحةً قاسية كي يفيق.
“فريدريك.”
“……هذا مؤلمٌ بحقّ.
اللعنة.”
هل كان للكمة أثرها؟
بدا صوتُ فريدريك أكثر وضوحًا بقليل.
أدار هايدِن صديقَه من ياقة ثوبه ليجبره على النظر إليه، ثم قال بتمهّلٍ وحزم.
“الأميرة ماتت.
جلالةُ الإمبراطورة هي ابنةُ ماركيز روكزينتا.
أميرةُ سيداس التي حَرَستَها لم تَعُد موجودةً في هذا العالم.
هل فهمت؟”
“لا تُبدِ هذا الوجه، يا هايدِن.”
“…….”
“ما دام الأمرُ قد بلغ هذا الحدّ، فأنا أيضًا أتمنّى إيجادَ حلّ.
أتمنّى ألّا تستعيدَ جلالةُ الإمبراطورة ذاكرتَها.”
كان ذلك صادقًا.
لم يُرِد فريدريك للأميرة، بل للإمبراطورة، أن تستعيد ذاكرتَها كما فعل هو.
فهو نفسه، أمام ذكرياتٍ تافهة، كان يتخبّط في ارتباكٍ ويبدو كمجنون.
“لو استعادت ذاكرتَها الآن…”
ولو أنّ الأميرة استعادت ذاكرتَها فعلًا، وتذكّرت كلّ ما مرّت به خطوةً خطوة.
“ألن يكون ذلك قاسيًا عليها إلى حدٍّ لا يُحتَمَل؟”
لن تَقدِر على الصمود.
“أليس كذلك؟”
كان فريدريك واثقًا من ذلك.
—
كان التنفّسُ عسيرًا.
الإمبراطورُ السامي صرف الجميع، وراح يقرأ رسالة هايدِن مرّةً بعد مرّة.
وحين كاد يحفظها عن ظهر قلب، استند بالكاد إلى حافة المكتب، واقفًا.
‘ذاكرتُها… ستعود؟’
كان احتمالًا تخيّله دائمًا.
أيامٌ لا ينام فيها، يرتجف من القلق، ويحدّق في وجهها.
لكنّه لم يظنّ يومًا أنّه سيغدو واقعًا.
أو لعلّه فكّر به، ثمّ تجاهله عامدًا، وأدار له ظهره.
فهو أثرٌ مشبعٌ بقوّة الإلهة، أقنع نفسه بأنّه لن يخطئ.
لكنّ الأمرَ وقع.
قبض روشان على رسالة هايدِن بإحكام، ثمّ اتّجه بها إلى الموقد.
وبحركةٍ مرتجفة، قذفها في النار.
لم تكن سوى ورقةٍ واحدة، لكنّها احترقت واختفت في ثوانٍ.
حدّق روشان في ألسنة اللهب، ثمّ استدار.
كان الغروبُ قد حلّ.
وخارج النافذة، كانت الثلوجُ تتساقط بغزارة.
ومع ذلك، خرج الإمبراطور، ولم يُرافِقه سوى تابعٍ واحد، وسلك طريقًا غطّاه الثلج.
—
“جلالةُ الإمبراطور خرج؟”
“نعم.
هل نتحقّق من السبب؟”
بلغ خبرُ خروج الإمبراطور قصرَ العاج.
كانت ييرينا تقرأ كتابَ حكاياتٍ للتوأم من الأمراء، لكنّها سلّمت الأطفال إلى المرضعة عند سماع الخبر المفاجئ، وأمسكت ببطنها ونظرت إلى الخارج.
كان الثلجُ الأبيض المنهمر يُقلقها على زوجها.
غير أنّها تظاهرت بالثبات، وقالت للخادمة.
“……يبدو أنّ أمرًا عاجلًا استدعاه.”
“…….”
“لا بأس.
عندما يعود، أخبريني.
حتّى لو تأخّر كثيرًا، فلا يهمّ.”
“نعم، يا جلالةَ الإمبراطورة.”
أشارت ييرينا بيدها لتنصرف الخادمة.
ثمّ وضعت يدًا على إطار النافذة، والأخرى على بطنها، وهمست لنفسها.
“ما الذي يُخفيه عنّي، يا تُرى؟”
كانت قد قالت له سابقًا إنّها ستنتظر، لكنّ فضولها تجاه سرّ روشان لم يَخْمُد.
خشيت أن يكون يعاني وحده من أمرٍ سيّئ.
اشتدّ تساقط الثلج.
ومع استمرارها في النظر، تسلّل القلق إلى قلبها.
ابتعدت ييرينا بضع خطوات عن النافذة، ومسحت بطنها الذي بدا انتفاخُه واضحًا الآن، وهمست بشكٍّ كتمته لسنوات.
‘هل يمكن أن يكون سرُّه متعلّقًا بماضيَّ أنا؟’
—
‘الماءُ الأبيضُ الخالص لم يَعُد موجودًا في هذا العالم.
ولا يمكن صنعه من جديد.
لذلك، لا أملك جوابًا أقدّمه، يا جلالةَ الإمبراطور.’
غادر الإمبراطور مع بزوغ الفجر، حين بدأ الضوءُ الأزرق الخافت يُنير الدنيا.
كان منظره وهو يعود عبر الثلج المتراكم يبدو واهنًا قَلِقًا، لا يليق بمَن يعلو الجميع.
“ليبلغْه نورُ الحاكم.”
رفع الكاهنُ العجوز دعاءه وهو ينظر إلى ظهر الإمبراطور.
ثمّ، وقد تذكّر صديقًا قديمًا نسيه طويلًا، سرح بخياله.
كان ذلك الصديق كاهنًا واعدًا، ثمّ صار في لحظةٍ ما عنصرَ خطر.
انتهى به الأمر مُدانًا بالهرطقة، مُلقىً في الماء حتّى الموت.
اسمُه مُحيَ، ولم يَعُد أحدٌ يذكره، ولا حتّى صديقُه الذي لم ينطق باسمه لعقود.
كان اسمه سكا.
‘أرجين.
أَتثق حقًّا بما كنّا ندرسه ونؤمن به؟’
كان سكا كاهنًا لامعَ الذكاء، وسلك طريقَ العلماء داخل المعبد.
لكنّ كلّما كَثُرت الكتبُ المحرّمة التي سُمح له بقراءتها، زاد ضيقُ المعبد به.
وكلّ مَن كان إلى جانبه ناله الشكّ، فابتعد عنه الجميع.
‘كلّما قرأتُ أكثر، وكلّما اقتربتُ من الحاكم، ازداد شكي.
هل صار الحاكم شبيهًا بآلهةٍ قديمة، انسحبت من العالم وتركته لمصيره؟’
‘سكا، كفَّ عن هذا.
الأقاويلُ حولك كثيرة، والمحقّقون يربطونك بالهرطقة.’
‘هرطقة؟
إن كان البحثُ عن الحقيقة يُسمّى كذلك، فأنا أقبل أن أكون مهرطقًا.’
ومع ذلك، ظلّ الكاهنُ العجوز يلتقيه أحيانًا.
لكنّ في ليلةٍ كتلك، حين تساقط الثلج حتّى الفجر، انتهت آخرُ لقاءاتهما.
‘الخمرُ دافئة.
يا أرجين، هل أُخبرك بسرٍّ آخر؟
أتتذكّر ذاك السائس الذي رأيناه في طفولتنا؟
نعم، ذاك العجوز البائس الذي كان يومًا ملكَ الوثنيّين، تحته عشرات الآلاف.’
‘…….’
‘حفيدتُه شُنِقت قبل خمسة عشر عامًا.
بتهمةِ الهرطقة الكاذبة.’
‘سكا!’
في تلك الليلة، أخذ سكا، ثملًا وهو يحدّق في الثلج، يتفوّه بكلامٍ بالغ الخطورة.
وكان الكاهنُ العجوز، يومها فتى، قد نهض بوجهٍ شاحبٍ من شدّة الخوف.
‘لم أفشِ يومًا أيًّا من أسرار تلك الطفلة.
منذ البداية، كان وجودُنا سرًّا.
لكنّي أظنّ أنّني سألحق بها قريبًا.
لذا، سأقول لك واحدًا منها.’
‘كفى.
لن أسمع ترّهاتك.
سأنصرف.’
كان هروبًا.
فلو سمع المزيد، لما استطاع الرجوع.
لكنّ صوتَ سكا لحق به وهو يغادر الغرفة.
‘هل خضع ملكُ الوثنيّين فعلًا لقوّة مقدسة الكاملة؟
هل نسي كلّ شيء، وأُعيد مولده عبدًا للنور؟’
بعد أيّام، اقتيد سكا إلى المحقّقين، وأُغرق حيًّا.
تعمّد الكاهنُ العجوز نسيانه.
فذلك كان السبيل الوحيد للبقاء.
لكنّ أحد مقرّبي الإمبراطور، بعد شربه الماء الأبيض الخالص، استعاد ذاكرتَه.
وتذكّر أيضًا آخرَ هيئةٍ للنبيّ السابق، التي ظنّوها معجزة.
عندها، لم يَعُد الكاهنُ قادرًا على تجاهل كلمات سكا المدفونة.
فهو أوّل مَن بدأ يشكّ في الماء الأبيض.
‘يا سكا.
حتّى لو كان كلامك صحيحًا، فما جدواه الآن؟
بل، سواء أكان الماءُ كاملًا أم ناقصًا، فما الفرق؟
أليس كلّ ذلك مشيئةَ الإلهة؟’
أثقلت الأفكارُ قلبَ الكاهن العجوز.
لكنّه سرعان ما شبك يديه، وصلّى للإلهة ليهدّئ نفسه.
“ؤا إلهي.”
استدار وهو ينطق باسمها.
ومن خلفه، كان الشّمسُ تشرق بلونٍ ذهبيّ، وتبدّد الظلام رويدًا.
—
لم يَعُد روشان إلى القصر إلّا مع الصباح.
أمرَ بألّا يُحضَّر له فطور، وانزوى في غرفته، قابضًا على رأسه من شدّة العذاب.
هل تجاوز خوفُه حدَّ ما يستطيع احتماله؟
كان كلّ شيءٍ أمامه أسود، سواء أغمض عينيه أم فتحهما.
‘لا.’
ظلّ يرتجف شاحبًا، ولم يستطع النهوض إلّا قبيل أن تبلغ الشمسُ كبدَ السماء.
‘لا يجوز أن يستمرّ هذا.’
لم يكن ليستطيع خسارة زوجته.
كما أخفى الأمرَ حتّى الآن، كان يكفي أن يجد حلًّا.
حدّق روشان من النافذة بعينين باردتين، وردّد في داخله.
‘يجب أن أجد طريقة.
الجلوسُ هنا لن يحلّ شيئًا.’
بشقّ الأنفس أمسك بها.
لذا، لم يكن ليستسلم.
بدأ يفكّر في جمع الكهنة والعلماء، ثمّ استغرق في هاجسٍ آخر: كيف سيواجه الأمر إن استعادت زوجته ذاكرتَها؟
ارتجفت يداه لمجرّد تخيّل ذلك.
وعضّ شفته، حين طُرِق الباب.
“قلتُ لا تُقاطعوني.”
“روشان.”
لمّا انتهى صوته البارد، ارتفع صوتُ ييرينا.
ثمّ فُتح الباب بلا إذن، ودخل التوأمان مندفعَين.
التعليقات لهذا الفصل " 96"