“الأميرة… لا، هل جلالة الإمبراطورة أيضًا فقدت ذاكرتها، مثلَك يا سيّدي؟”
لم يستطع فريدريك إخفاء دهشته للحظة أمام سؤال المرأة التي تُدعى جين.
فحقيقة ماضي الإمبراطورة وذكرياتها المفقودة كانت من أعمق أسرار القصر، ولا يكاد يعرفها أحد. فكيف لامرأة عاميّة تقف أمامه أن تعلم بها؟
“أنتِ… ما حقيقتك؟”
“آه… بما أنّك فقدت ذاكرتك، فلا بدّ أنّك نسيتَ أيضًا ما كنتُ أفعله.”
حين رأت فريدريك يشدّ حذره ويصقل نبرته، تردّدت المرأة لحظة وهمست بصوتٍ خافت، ثمّ شرعت تشرح بتفصيلٍ مَن كانت في ذاكرته المنسيّة، وما الدور الذي أدّته في الماضي.
وعندما ذكرت أنّها كانت إحدى وصيفات الإمبراطورة في السابق، قبِل فريدريك كلامها إلى حدٍّ ما. غير أنّ الشكّ لم يزل عالقًا.
“كان يُشاع أنّ الأميرة ماتت، أليس كذلك؟ بعد خروجكِ من القصر الإمبراطوريّ.”
“لم أستطع تصديق ذلك. فقد رأيتُ، من قربٍ لا يقلّ عن قربك، كيف كان جلالة الإمبراطور ينظر إلى جلالة الإمبراطورة. لذلك، حين سمعتُ أنّه بعد اعتلائه العرش استقبلها قرينةً له، توقّعتُ الأمر. قلتُ في نفسي إنّ السيّدة التي خدمتها… ييرينا، قد صارت الإمبراطورة.”
“وماذا عن ذاكرتها؟ تظاهرتِ بالسؤال، لكنّ ملامحكِ كانت واثقة.”
“… لأنّ ييرينا، لأنّ صاحبة السموّ، لو كانت تملك ذاكرتها، لما بقيت في ذلك المكان أصلًا.”
قالت المرأة ذلك بصوتٍ مرّ، وهي تواجه ضغط نظرات فريدريك الباردة. لم يجد فريدريك ما يردّ به.
كان عقله لا يزال يهمس بأنّها مريبة، غير أنّ وجهها، كما تراه عيناه، بدا صادقًا على نحوٍ مزعج.
“لا يهمّني كيف عرفتِ ذلك. هذه المسألة بالغة السرّيّة. فالأفضل لكِ أن تلزمي الصمت، إن كانت حياتكِ عزيزة عليكِ.”
قالها بلهجة تهديد، وقد عزم في داخله على إخضاعها للمراقبة والتحقيق.
رفعت المرأة نظرها إليه، وتمتمت:
“حتّى بعد فقدان الذاكرة… ما زلتَ كما أنت.”
“ماذا؟ وما معنى هذا؟”
“قلتَ الشيءَ نفسه حين أخرجتني من القصر الإمبراطوريّ. قلتَ لي إنّ عليّ أن أصمت إن أردتُ النجاة.”
ذاكرةٌ لا يملكها. عضّ فريدريك على شفتيه. أن يسمع عن ذاته ممّا لا يعرفه، كان أمرًا يبعث على الضيق دائمًا.
وبينما كان يقطّب حاجبيه صامتًا، هبّت نسمة البحر، فالتفتت المرأة نحو المياه وقالت:
“مع ذلك، أنا مرتاحة. على أيّ حال، ييرينا… لا، جلالة الإمبراطورة تبدو سعيدة.”
“… وكيف تجزمين بسعادة جلالة الإمبراطورة؟”
خرج السؤال من فريدريك دون وعي.
فتحت المرأة عينيها دهشةً لبرهة، ثمّ نظرت إلى طفلها الذي كان يقف بعيدًا مع مرؤوسيه، وأجابت:
“حتّى أمثالي من العامّة يسمعون الأخبار. يُقال إنّ جلالة الإمبراطور يحبّ جلالة الإمبراطورة كثيرًا، أليس كذلك؟ وفوق ذلك، بعد الأميرين، يُقال إنّ مولودًا آخر في الطريق.”
“…”
“الإمبراطورة التي عرفتها كانت تقدّس الأسرة. ولو لم تكن سعيدة، لما فكّرت في إنجاب الأطفال من الأساس. لذلك… هي الآن سعيدة.”
“…”
“… هذا مريح، حقًّا.”
قالت ذلك وزفرت زفرةً طويلة. لكنّ فريدريك قرأ في عينيها شيئًا أعقد من مجرّد الاطمئنان.
كان في نظرتها مرارٌ وصراع. هل يمكن لإمبراطورة فقدت ذاكرتها، وتبنّت ماضيًا مغايرًا، أن تكون سعيدة حقًّا؟ وإن كانت سعيدة، فهل تلك سعادة صادقة؟
لم يستطع فريدريك، وهو فاقدٌ لذاكرته، أن يجيب عن ذلك السؤال الكامن في أعماقه.
—
ابتعدت المرأة وطفلها. تبع مرؤوسو فريدريك سيّدهم بحذر، وقد شعروا بتبدّل مزاجه المفاجئ.
لم يعد فريدريك مباشرةً إلى القصر. راح يمشي بلا وجهة، حتّى أوشك مرؤوسوه على الإنهاك، عندها فقط عاد أدراجه. وعند الباب، اندفع كبير الخدم العجوز، الذي ظلّ ينتظر عودته بقلق، ليستقبله.
“سيّدي، أين كنت؟ تأخّرتَ كثيرًا في هذا الليل، وقلق هذا العجوز لم يفارقني.”
كان ويليام من القلّة التي تجرؤ على توبيخ فريدريك.
ربّاه منذ كان رضيعًا، وعرج بساقه حين حاول إنقاذه يوم تورّط في تمرّد شقيقته.
لذلك، كان فريدريك متسامحًا معه، وسمح له حتّى بجلب المرشّحات للزواج دون استئذان.
“ويليام، سمعتُ بالأمر. أرجوك، كفّ عن هذه الأفعال غير الضروريّة.”
لكنّ مزاج فريدريك تلك الليلة كان في أسوأ حالاته. وبنظرة حادّة، وبّخ ويليام على إدخال الكونت نيمفا وابنته.
انحنى ويليام مرّة، ثمّ تبعه، وأشار بعينيه إلى المرؤوسين متسائلًا عن حال سيّدهم. فاكتفوا بالإيماء محذّرين.
“سيّدي.”
“أريد أن أرتاح وحدي. وإن دخل أحد دون إذني، فأخرجوه. أو أعيدوه غدًا.”
“لكن…”
انسحب الجميع، وبقي ويليام وحده خلف فريدريك. أسرع فريدريك في مشيته، وقد بدا الضجر عليه واضحًا. أراد ويليام أن يتكلّم، لكنّ خطوات سيّده كانت سريعة.
وأخيرًا، خان العمر ويليام، فراح يلهث. عندها فقط التفت فريدريك. همّ ويليام بالكلام، لكنّ صوتًا سبقه من أسفل الدرج.
بوجهٍ مألوفٍ بعث السرور، بدأ فريدريك ينزل. لكن، وهو في منتصف الدرج، ضرب رأسه إحساسٌ مروّع كأنّ صاعقةً هوت عليه.
توقّف في مكانه كأنّه تعطّل. ناداه هايدن بقلق:
“فريدريك؟”
“أه…”
“ما بك؟”
شعر هايدن بأنّ الأمر غير طبيعيّ، فتحرّك نحوه. لكن قبل أن يصل، هوى فريدريك فجأة.
“سيّدي!”
“فريدريك!”
تدحرج جسده على الدرج. ركض هايدن وويليام إليه.
كان فريدريك ممدّدًا بلا حراك، لا جروح ظاهرة عليه، لكنّ أنفاسه تسارعت، وحرارته أخذت ترتفع على نحوٍ غير معقول.
حمله هايدن وهو يصرخ:
“الطبيب! أسرعوا بإحضار الطبيب!”
—
“فريدريك؟”
مع الفجر، كانت خمس أو ستّ زجاجات خمرٍ فارغة تتدحرج في غرفة السيّد. وفي وسطها، جلس فريدريك مترنّحًا. دخل هايدن، الذي استدعاه ويليام، فتجمّد من هول المنظر.
“ما هذا الذي تفعله؟ أجننت؟”
تقدّم صارخًا، ثمّ توقّف. في ضوء الفجر الأزرق، بدا وجه صديقه كما كان، لكنّه في الوقت ذاته بدا كمن تقدّم به العمر فجأة.
التعليقات لهذا الفصل " 95"