بعد فقدانه الذاكرة، لم يرَ ييرينا مدّة من الزمن. ثمّ رآها لأوّل مرّة في مراسم تتويجها إمبراطورة.
‘ليست سوى امرأة جميلة.’
تفاجأ بجمالها لحظة، ثمّ عقد ذراعيه ونظر إليها بوجهٍ خالٍ من التعبير.
كانت امرأة يليق بها وصف الإشراق، لكنّه ظنّ أنّ الأمر لا يتجاوز ذلك.
غير أنّ تلك الليلة، ظهرت المرأة التي غدت رفيقة سيّده الشرعيّة في حلمه، ثمّ عادت في اليوم التالي، والذي يليه، لتعذّبه بلا انقطاع.
اشمأزّ فريدريك من فجوره حتّى جرّب تناول المنوّمات، لكن دون جدوى. صار يستحضر صورتها حتّى في اليقظة، ومنذ لحظة ما، باتت عيناه تتبعان الإمبراطورة حيثما ذهبت.
‘سأعود إلى إقطاعيّتي. أرجو الإذن.’
‘فريدريك. بخلاف أختك، نجوت بحياتك.’
‘…….’
‘مأذون لك. انطلق غدًا حالًا.’
حين أدرك فريدريك إلى أين تتّجه نظراته، سارع إلى طلب الإذن من سيّده بالعودة إلى الإقطاعيّة.
فوافق الإمبراطور، مرفقًا الإذن بكلماتٍ باردة باعثة على القشعريرة.
لكن، حتّى بعد عودته، لم يستطع فريدريك أن ينساها. لذا صبّ تركيزه في العمل تركيزًا خارقًا.
أنهى الأعمال المتراكمة في أشهر قليلة، وقاد بنفسه حملات تطهير القراصنة.
‘لا بدّ لي أنا أيضًا من الزواج، أليس كذلك؟’
‘بالطبع، مولاي!’
فكّر في الزواج لبعض الوقت بعد عودته، لكن لم تستوقفه أيّ امرأة.
‘شَعرها الأشقر يشبه…’
ومضى الزمن. ثمّ أدرك فريدريك أنّه بات، من دون وعي، يجزّئ ملامح النساء الغريبات ويفحصها.
ومنذ ذلك الحين، كفّ تمامًا عن البحث عن زوجة.
“… من حسن الحظّ أنّ الذاكرة زالت.”
ردّد فريدريك الجملة التي تمتم بها مرارًا في السنوات الماضية. وفي تلك اللحظة، ظهرت اليابسة. نظر إلى الأسوار العالية الممتدّة على طول الشاطئ، ثمّ نهض من مكانه.
“مولاي!”
كان ذلك حين همّ بالنزول من السفينة. جاءه أحد المرؤوسين، الذي كان قد توجّه إلى قرية أخرى على متن سفينة مختلفة، مسرعًا بوجهٍ متجهّم.
“ما الأمر؟”
“انظر إلى هذا، من فضلك. ظهر واحد آخر كهذا بين القراصنة.”
قاد المرؤوس فريدريك، وسرعان ما وقعت عيناه على جثّة قرصانٍ ممدّدة.
للوهلة الأولى، بدا القرصان عاديًّا: ثياب غير مغسولة، وبشرة مسفوعة بلون النحاس، وجسد صلب صقلته أعمال البحر—كلّها سمات رآها مرارًا.
غير أنّ فريدريك قطّب جبينه حين رأى يدي القرصان وقدميه، وقد انخلع أحد نعليه. بين أصابعهما أغشية مائلة إلى الزرقة، وعلى مؤخرة عنقه، حيث انكشف الجلد قليلًا، برزت قشور ثلاث أو أربع.
‘هذا العِرق انقرض منذ زمن بعيد. فكيف…؟’
كان القرصان يحمل سمات السايرن الذين أُبيدوا في الماضي على يد البشر، أو بالأحرى سمات الهجين بين السايرن والبشر.
‘ظهور عِرق اندثر خلف ثلاثة بحار… أمعقول هذا؟ والبحر الجنوبيّ للإمبراطوريّة لا نهاية له.’
لقد اختفى العِرق غير البشريّ منذ زمن بعيد من القارّة، ولم يبقَ من السايرن، ولا من أبنائهم مع البشر، سوى حكايات وأساطير.
“… ماذا نفعل؟”
سأل المرؤوس وهو يراقب تعابير فريدريك. فأصدر فريدريك أوامره كما فعل سابقًا.
“انقلوه إلى العلماء. قولوا لهم أن يحفظوه جيّدًا في كهف الجليد. أمّا العاصمة، فسأرفع التقرير بنفسي.”
“أمرك.”
“والتزموا الصمت في هذا الشأن مؤقّتًا. سيُثير الأمر اضطراب العامّة.”
بناءً على وصيّته، أُسدل قماش طويل على الجثّة. وبعد أن رأى فريدريك المرؤوسين يضعونها على العربة، تحرّك مبتعدًا.
“وصلتنا رسالة من السيّد ويليام، يقول إنّه ينتظرك. هناك ضيوف…”
“مَن الضيوف؟”
“الكونت نيمفا وابنته، السيّدة الشابّة.”
“… ها قد بدأ الأمر مجدّدًا.”
من تردّد المرؤوس، أدرك فريدريك أنّ امرأة من أسرة مناسبة قد دخلت القصر مرّة أخرى. كاد غضبه أن يثور، لكنّه كتمه، واستدار.
إذ كان المرؤوس يعرف طباعه، لزم الصمت وتبعه. ولم يلبثوا أن وصلوا إلى خلف الميناء، حيث يعجّ المكان بالتجّار، وهو أكثر بقاع الإقطاعيّة حيويّة.
تعرّف الناس إلى فريدريك، فانحنوا تحيّة. ردّ عليهم برفع يده على عجل، ثمّ توقّف عند بسطات الفاكهة. بل، توقّف عند أمّ وابنتها كانتا تتفحّصان الفاكهة.
‘… مَن تكون؟’
امرأة عاديّة جدًّا، بشَعرٍ بنيّ. والطفلة التي بدت ابنتها، في الرابعة أو الخامسة، كانت تحمل براءة تناسب سنّها.
لعلّها شعرت بنظرته، فاستدارت. وفي اللحظة التي تغيّر فيها وجهها، أدرك فريدريك الحقيقة.
‘إنّها تعرفني.’
ملامحها لم تُخفِ الارتباك، وفي عينيها المرتعشتين خوفٌ واضح.
ضمّت المرأة الطفلة إلى صدرها، وسارعت بالابتعاد. لكنّ امرأة تحمل طفلًا لا يمكنها الإفلات من فارس. فأوقفها فريدريك بسهولة.
“السير فريدريك…”
نادت باسمه. عندها تيقّن: هذه المرأة واحدة ممّن سكنوا ذاكرته المنسيّة.
فسألها:
“مَن أنتِ؟ وكيف تعرفينني؟”
لم تكن المرأة تعلم أنّ فريدريك فقد ذاكرته، فبدت حائرة أمام سؤاله.
ومع كثرة العيون، قادها إلى خلف مخزنٍ مهجور عند الرصيف. وأسند الطفلة إلى أحد مرؤوسيه، آمِرًا إيّاه بالابتعاد قليلًا.
“حقًّا… لا تتذكّر شيئًا؟ ولا تتذكّرني أنا أيضًا؟”
“نعم.”
“هكذا إذن… لم أتخيّل أمرًا كهذا.”
شرح لها فريدريك حالته بإيجاز.
بدا عليها الذهول الشديد، لكنّها ما لبثت أن تشجّعت وتكلّمت.
التعليقات لهذا الفصل " 94"