“أنتَ أيضًا استيقظتَ؟
تعالَ إلى هنا.”
قالت ييرينا وهي تحمل لويس بين ذراعيها.
كايـرو، مثل شقيقه التوأم، كاد يندفع فورًا نحو أمّه، لكنّه توقّف.
وقعت عينا الطفل على ذراعَي أمّه النحيلتين.
“أبي.
احملني أنتَ.”
لم يُخفِ الطفلُ ملامحَ الخيبة، ومع ذلك مدّ ذراعيه على اتّساعهما نحو أبيه.
ربتَ روشان على شعره بعطف، ثمّ رفعه دفعةً واحدة وأجلسه على ذراعه.
“لقد كبرتَ مرّةً أخرى.
أصبحتَ أثقل وزنًا.”
وبينما كان روشان يحدّث كايـرو بنبرةٍ حانية، كان لويس، المتعلّق بأمّه كزيزٍ على جذع شجرة، يمدّ لسانه طويلًا نحو أخيه، ثمّ قبّل خدّ أمّه.
قطّب كايـرو حاجبيه لحظةً، ثمّ رفع رأسه بملامح رزينة.
“لويس.
لا يصحّ أن تفعل هذا بأخيك.”
قالت ييرينا بنبرةٍ صارمة للطفل في حضنها.
تغيّر وجه لويس وكأنّ الدنيا انهارت عليه، وسرعان ما اغرورقت عيناه.
ومع أنّها رأت ابنها على وشك البكاء، لم تُلِن ييرينا ملامحها.
بل أنزلته من بين ذراعيها.
ولمّا اعتذر لويس من كايـرو بصوتٍ خافت، سُمح له عندها فقط بالعودة إلى حضن أمّه.
“حسنًا.
الآن اخرجا أنتما الاثنان.
لدى أبيكما وأمّكما ما يتحدّثان به.”
لكنّ لويس اضطرّ للنزول مرّةً أخرى.
فقد نظر روشان إلى كايـرو، ثمّ أنزله من ذراعه، وقال للأطفال بنبرةٍ دافئة ولكن حازمة:
“لا!”
هزّ لويس رأسه رافضًا، ودفن وجهه في عنق أمّه.
لم تستطع ييرينا إنزاله إلّا بعد أن هدّأته طويلًا.
“لويس.
تعالَ هنا.
أمّي، أبي.
سأذهب الآن.
أراكم عند العشاء.”
مدّ كايـرو يده نحو أخيه.
وبينما كان لويس يبكي بخفوت، أمسك يد أخيه مطيعًا.
استدعى الإمبراطور مرضعات الأميرين اللواتي كنّ ينتظرن في الخارج.
وسرعان ما خرجت مجموعةٌ من المرضعات والخدم، آخذين الأميرين معهم.
“يجب أن نُعِدَّ لهما مقرًّا مستقلًّا.
لا يمكنهما البقاء هنا إلى الأبد.
عليهما متابعة الدراسة، وحان وقت تعلّم السيف أيضًا.”
قال روشان وهو يقود ييرينا نحو الأريكة الطويلة.
كان يرى أنّ الطفلين، اللذين يكبران يومًا بعد يوم، لم يعودا مناسبين للبقاء في حضن أمّهما.
“ما زال الوقت مبكّرًا.
إنّهما في الخامسة فقط.
ثمّ يا صاحب الجلالة،
أنتَ نفسك ما زلتَ تمكث هنا.”
لكنّ رأي ييرينا كان مختلفًا.
ففي نظرها، لم يكن الطفلان سوى أقرب إلى رضيعين.
وفوق ذلك، أليس رجلٌ ناضج، أطول منها بكثير، قد ترك قصره ويقيم في القصر العاجي؟
قالت ذلك وهي تجلس على الأريكة بنبرةٍ مازحة، فجلس الرجل إلى جانبها وقال بثقة:
“من الطبيعيّ أن يتشارك الزوجان المكان ذاته.”
“لستُ متأكّدة.
فقد قالت كونتيسة شانـتوس سابقًا إنّ هذا ينطبق على عامّة الناس فقط.”
“إذًا يجب طرد الكونتيسة.
تعلّمكِ ما لا فائدة فيه.”
في بداية عهدها، وعلى الرغم من اتّزانها الحاليّ، كانت ييرينا تفتقر إلى كثيرٍ من متطلّبات دور الإمبراطورة.
ولا سيّما أنّها فقدت الكثير من ذكرياتها بسبب حادث العربة، فنسيت أشياءَ أساسيّة كان ينبغي على كلّ نبيلةٍ معرفتها.
لكن لحسن الحظّ، لم تعانِ من عائقٍ لغويّ، كما أنّ جسدها بدا وكأنّه يتذكّر قواعد الإتيكيت، فتعلّمتها بسرعة.
وكان روشان يقول إنّها مثاليّة حتّى لو لم تعرف شيئًا.
ومع ذلك، أرادت ييرينا أن تكون إمبراطورةً كاملة بقدر ما هو زوجها إمبراطورٌ كامل، ولذلك ما زالت تتلقّى الدروس مرّةً في الأسبوع.
“بالمناسبة، روشان.
ما رأيك هذه المرّة؟”
“بِمَ تقصدين؟”
“أتظنّه فتاة أم ولدًا؟”
“بنت.”
أجاب روشان بلا تردّد.
لم يكن يملك قدرةً على معرفة جنس الجنين، لكن حدسه قال ذلك.
“حقًّا؟
إذًا أنتَ سعيد.
قلتَ إنّك تريد ابنة.”
وكان قد أصاب في توقّعه سابقًا أيضًا حين تعلّق الأمر بالتوأمين، لذا تحمّست ييرينا لكلامه.
راقبها روشان وهي تبتسم بصفاء، ثمّ تمتم:
“… سواء كانت فتاةً أم ولدًا، لا يهمّ.
المهمّ أن تكوني بخير.”
في الحقيقة، لم يكن روشان يتوق كثيرًا إلى الأطفال.
صحيح أنّ أبناءه منها كانوا أغلى من روحه، لكنّه رأى بعينيه كم كان الحمل والولادة خطرين على المرأة، ولم يحتمل فكرة تعرّض زوجته لأيّ خطر.
“روشان.
ماذا قلتُ لك سابقًا؟”
شدّدت ييرينا ملامحها كما فعلت مع لويس قبل قليل.
وعلى عكس ابنه، اعترف روشان بخطئه فورًا.
“سأصحّح.
المهمّ أن تكوني أنتِ والأطفال بخير.”
“أحسنتَ.”
“…”
“ولا تقلق كثيرًا.
سنكون نحن الاثنان بخير.”
ابتسمت ييرينا ابتسامةً مشرقة، فمدّ روشان يده إليها ببطء.
“همم…
سيولد في الشتاء.
هل سيكون الأمر على ما يرام؟”
“لا تشغل بالك.
الخدم سيتولّون كلّ شيء.
ثمّ من الأفضل أن تقلّلي من حمل الأطفال.
أليس هذا وقت الحذر؟”
قال روشان واضعًا يده على بطنها.
لم يكن الحمل ظاهرًا بعد، لكنّه سيبرز بعد أشهر قليلة.
“لكن عندما يولد هذا الطفل، لن أستطيع حملهما أكثر…”
“سيتفهّمان.
أطفالنا ناضجون.”
أومأت ييرينا موافقة، لكنّ كتفيها انخفضا قليلًا اعتذارًا في قلبها للتوأمين.
راقبها روشان، ثمّ جذبها إلى حضنه وأمالها نحوه، فوجدت نفسها تستلقي على الأريكة، ورأسها على فخذيه.
نظر روشان إلى وجه زوجته من أعلى.
عينان زرقاوان خاليتان من الهمّ.
وحين يرى انعكاسه فيهما، يشعر بسعادةٍ لا تُوصَف.
لكن في الوقت نفسه، كان القلق ينهشه.
لأنّه رأى النقيض.
يعرف تلك التي لن تنظر إليه بهذه العينين أبدًا.
‘إن كنت حقًّا نادم، فاقتلني كما قتلت عائلتي،
ولا تدعني أراك مرّةً أخرى!’
تجاور الماضي والحاضر بحدّة.
ولهذا أدرك روشان في كلّ لحظة كم أنّ سعادته الحاليّة فوق ما يستحقّ.
لقد نال حبّ من تاق إليها طويلًا، وتبادل معها خاتمي الزواج، وأنجب منها أطفالًا، وشاركها الفراش والنظرات نفسها.
ومع ذلك…
مرّت ستّ سنوات.
وكان يعلم يقينًا أنّ هذه السعادة بُنيت على خداع زوجته.
خطاياه لم تُمحَ، بل كانت تتراكم بلا توقّف.
كان خائفًا.
ماذا لو كان هناك حقًّا من يستجيب لصلاواته، فيعاقبه على خداعه، وأعاد إلى زوجته ذاكرتها؟
ماذا لو لم تنظر إليه مجدّدًا بتلك العينين؟
شعر بأنّ القلق يلتهمه من الداخل، وكأنّ آلاف الإبر تتدحرج في قلبه.
وبالكاد قال:
“… أحبّكِ، ييرينا.”
“وأنا أيضًا.
أحبّك، روشان.”
جاء ردّها فوريًّا، صادقًا، طبيعيًّا.
غمرته السعادة… واشمأزّ من نفسه في آنٍ واحد.
“… ها أنا أعود مجدّدًا.”
لم يبدُ عليه أنّه يبتسم، لكنّه كان كذلك.
مدّت ييرينا يدها إلى خدّه، وأمسكته بكلتا يديها، وسألته وهي تمسحه بإبهامها:
“ما الذي يخيفك هكذا؟”
هوى قلبه.
نظر إليها صامتًا، فضحكت وقالت:
“أوه.
ألا تعلم؟
أنتَ أحيانًا، خاصّةً عندما تكون معي،
تشبه لويس عندما يرعد الجوّ.”
كان لويس يخاف الرعد، فيلتصق بأخيه ثمّ يبكي باحثًا عن أمّه.
“لا أعرف السبب، لكن لا تقلق.
لن يحدث شيء.
حسنًا؟”
“ييرينا.”
أمسك روشان يدها بدافعٍ من مشاعر فاضت فجأة.
“… ألا تودّين معرفة سبب قلقي؟”
ندم فورًا على سؤاله.
ماذا لو طلبت الحقيقة؟
أرخَت ييرينا يدها، فشدّ هو قبضته خوفًا من فقدان دفئها.
ضحكت بخفّة، وخدشت خدّه بأطراف أصابعها بملاطفة.
“أريد أن أعرف.
لكن لو كنتَ قادرًا على القول، لكنتَ قلتَ منذ زمن.
أنا أثق بك أكثر من أيّ شخص.
سأنتظر… إلى أن تخبرني بنفسك.”
لم يجد روشان ما يقوله.
فالتزمت ييرينا الصمت لحظة، ثمّ لفّت ذراعيها حول عنقه وقبّلته.
كانت القبلة حلوةً ككلّ شيء.
دفء النهار ملأ الغرفة، والهواء صار ثقيلًا.
ابتسمت ييرينا بعينين ضاحكتين، وقبّلت جبينه.
“إذا كان رأسك مثقلًا، فخُذ قيلولة.
سأغنّي لك.”
حملها روشان برفق، كأنّها قد تنكسر.
وسرعان ما انساب لحنُ التهويدة في أقدس غرفة في الإمبراطوريّة.
كان اللحن هادئًا…
لكنّ من سمعه، كان يرتجف من قلقٍ لم يستطع إخفاءه.
التعليقات لهذا الفصل " 93"