لم يأتِ جوابٌ.
ورغم أنّ يِيرينا أقنعت نفسها بأنّها توهّمت، إلّا أنّ الشكّ لم يفارقها، فاستدارت فجأةً ومدّت ذراعها إلى الأمام بسرعة.
لكنّ ما لامسته لم يكن سوى الهواء، فاختلّ توازنها وكادت تسقط.
استعادت يِيرينا توازنها بشقّ الأنفس، وبدا على وجهها شرودٌ قصير، ثمّ استدارت من جديد.
ورفعت يدها إلى الموضع الذي قدّرت أنّ التابوت فيه.
“بارد.”
كان الغطاء الزجاجيّ لا يزال باردًا قارسًا.
بل لعلّه ازداد برودةً عمّا كان عليه قبل قليل.
تخيّلت يِيرينا وجهي والديها تحتها للحظة، ثمّ رفعت يدها ونزعت الحجاب.
“أمّي، أبي، يبدو أنّني سأرحل قريبًا في طريقٍ بعيد.”
انسدل حجابُ الدانتيل الأسود الطويل على الأرض وهو يجرّ أطرافه قليلًا، مصحوبًا بصوتها الحزين.
قَدّرت يِيرينا طول الحجاب، وبسطته بيديها على أوسع ما تستطيع.
ثمّ فردته فوق التابوت، وأمالت جسدها العلويّ حتّى لامس السطح.
كان ملمسُ الدانتيل الخشن الخفيف واضحًا تحت كفّيها.
“حتّى إن لم أكن هنا، يجب أن تبقيا دافئَين.
أرجوكما، حتمًا.”
اشتدّ قبضُ أصابعها حتّى ازرقّت، لكنّها لم تشعر ببرودة يديها.
إن ذهبت إلى الإمبراطوريّة، فلن يُتاح لها حتّى مثل هذه اللحظات.
الدموع التي كانت قد توقّفت قليلًا عادت لتنساب على خدّيها.
“س-سأشتاق إليكما.”
ابتلع اهتزازُ كتفيها صوتَها، ولم يبقَ في النهاية سوى نشيجٍ مكتوم.
كان روشان يقف خلفها مباشرة، وقد أخفى وجوده، فثبّت نظره على ظهرها النحيل البادي تحت الفستان الأسود.
ثمّ أنزل عينيه إلى جسد ملكِ سِيداس الذي قطع عنقه بيده.
كان رأسُ ملكِ سِيداس قد أُعيد وصله بعنايةٍ على يد مُحنّطٍ ماهر.
لكنّ آثار الخياطة والخيط الظاهر بين طيّات الياقة، والخطّ الأحمر الذي يطوّق العنق، لم يكن بالإمكان إخفاؤها.
لسببٍ ما، كان كلّ ذلك يزعج روشان.
كاد يأمر في الحال بإعادة وصل الرأس بالجسد دون أن يظهر أيّ أثرٍ للخياطة.
وكاد يقول للأميرة الباكية إنّ جثّتَي الملك والملكة لم تتعرّضا لأيّ تشويه.
لكنّه في هذه اللحظة كان موجودًا وغير موجود.
لم يكن سوى رجلٍ مختلّ يتجسّس على أميرةٍ عمياء، ويخدعها.
شعر روشان بعجزٍ لم يختبره منذ زمنٍ طويل، فقبض على يده بقوّة.
صدر عن حركته صوتٌ خافت.
لكنّ يِيرينا ، التي كانت قد شكّت بوجوده حتّى في الصمت، لم تلتفت هذه المرّة.
“أشتاق إليكما كثيرًا…… هق.”
وهكذا، بكت الأميرة وحدها حتّى ابتلّت.
كانت قد ألقت بجسدها فوق التابوت حيث يرقد والداها، تودّعهما، وتُظهر آخر دلعٍ طفوليّ لها.
وبدا المشهد موحشًا، ومثيرًا للشفقة.
الفصل الثاني: الغنيمة.
طَخ.
انهار آخرُ زائرٍ على الأرض غير بعيدٍ عن السرير الذي كان روشان يجلس عليه.
قطّب نوكس حاجبيه وهو ينظر إلى الدم الذي أخذ يلطّخ الأرض، ثمّ لوّح بسيفه بخفّة ليتخلّص من الدم العالق بنصله.
“يحملون شارةَ جيشِ مملكةِ سِيداس، لكنّ أسلوب استخدام السيف أقرب إلى أسلوب الإمبراطوريّة.”
قال هايدِن، الذي كان يقف على مسافةٍ قريبة، وهو يتفقّد أحد القتلة.
وفي تلك الأثناء، كان نوكس قد انحنى يفتّش جثّة من صرعه، ثمّ رفع شيئًا بيده وقال:
“الذي واجهتُه أنا كذلك.”
كان في يد نوكس لوحٌ معدنيّ يُمنَح لجنود مملكةِ سِيداس.
غزالٌ مرسوم فوق ثلاث شجراتٍ صَنوبريّة، وتحتها سهمٌ حادّ.
كان نقشٌ رآه مرارًا خلال الأشهر الماضية من القتال.
لكنّ القتلى لم يكونوا من جيشِ سِيداس.
منذ وصولهم إلى القصر، لم يتوقّف المتسلّلون عن الظهور.
بعضهم بدا من سِيداس فعلًا، لكنّ الغالبيّة كانوا، كما اليوم، متنكرين في زيّهم.
“يبدو أنّهم استعجلوا مع اقتراب موعد عودة سموّه.”
قال هايدِن وهو ينظر إلى الجثث باشمئزاز.
كلّما اقترب يوم عودة روشان، تكاثرت محاولات الاغتيال.
“كان ينبغي أن يعرفوا أنّ الأمر بلا جدوى…….”
“إنّهم ينتظرون زلّةً واحدة.
يظنّون أنّ الحظّ قد يبتسم لهم إن تكرّر المحاولة.”
“حثالة!”
انفجر نوكس غضبًا، موجّهًا سخطه، على نحوٍ غير متوقّع، إلى إمبراطور بلاده.
كان نوكس فارسًا إمبراطوريًّا ووريثَ أسرةٍ عريقة.
أحبّ وطنه، لكنّه لم يحترم الإمبراطور الحاليّ، ولم يكن وفيًّا له.
كان يرى أنّه لا يستحقّ العرش، ولا يملك الكفاءة.
ومع ذلك، كان ذلك الرجل يسعى مرارًا لقتل سيّده روشان.
وبالنسبة لنوكس، الذي كان وفيًّا لروشان حدّ العبادة، لم يعد الإمبراطور سوى عدوّ.
“سموّك!
هل سنكتفي بالمشاهدة؟”
صرخ نوكس أخيرًا، وقد فاض غضبه.
لكنّ روشان أجابه ببرود:
“يبدو أنّ جلالته يشعر بالملل.”
“أليس هذا فاضحًا أكثر من اللازم؟
ينبغي على الأقلّ أن توجّهوا له تحذيرًا عند عودتكم!”
لو قُتل روشان في مملكةِ سِيداس، لأعلن الإمبراطور أنّ أخاه الحبيب اغتيل على يدهم.
ولادّعى الحزن، وأشعل حربَ انتقام.
وحينها ستُمحى سِيداس، المنهكة أصلًا، من الخريطة.
لكنّ الإمبراطور لم يكن مهتمًّا بسِيداس بحدّ ذاتها.
كان هدفه واحدًا فقط:
موتُ أخيه غير الشقيق، صاحبِ الشرعيّة الأعلى، بأيّ وسيلة.
‘أرسلوا إلى سِيداس.
قولوا إنّنا نطلب الأميرة، فقد قيل إنّها جميلة، وسأجعلها زهرةً في كنف رعايتي.’
كان افتعالُ النزاعات مع الدول الصغرى جزءًا من خطّته.
إن خضعوا، ربح.
وإن تمرّدوا، دفع بروشان إلى الحرب بذريعة العقاب.
لكنّ الإمبراطور لم ينجح بعد.
لم يمت روشان، بل انتصر في كلّ معركة.
ولهذا شاع في القصر الإمبراطوريّ أنّ أعصاب الإمبراطور باتت على شفا الانهيار.
“في ساحات القتال استخدموا قتلةً متنكرين في زيّ جنود الإمبراطوريّة،
وحتّى نعود سيظهرون الآن متنكرين كسِيداسيّين.”
تنفّس هايدِن بعمق.
لم يُظهر غضبه كنوكس، لكنّه كان مشمئزًّا بدوره.
“سأستدعي من ينظّف المكان،
لكنّ الأمر سيستغرق وقتًا،
فما رأيكم أن تناموا في غرفةٍ أخرى الليلة؟”
أومأ روشان دون جواب.
وانحنى نوكس ثمّ توجّه ليستدعي الرجال.
لمّا انتقلوا إلى الغرفة الجديدة، كان الليل قد اشتدّ ظلامه.
وبينما كان روشان يسير خلف الوصيفة، التفت فجأةً إلى هايدِن وقال:
“ألم تقل إنّ لديك ما تقوله؟”
“آه…… نعم.
هناك أمرٌ أودّ استئذان سموّكم بشأنه.”
انحنى هايدِن بإحراج.
“طلب ملكُ سِيداس، قبل وفاته، أن يُسمَح له برؤية الأميرة مرّةً واحدة.
قال إنّه يريد أن يودّع أخته.”
تجعّدت ملامحُ روشان للحظة.
ثمّ قال بعد صمت
“……لا سبب يمنع ذلك.”
“سأنقل ذلك.”
لكنّ روشان أردف:
“قل له إنّ الإذن مُعطى،
أمّا الزمان والمكان فسيُحدَّدان لاحقًا.”
“نعم.”
اقترب روشان من النافذة، واستنشق عبيرَ الزنبق المزدوج.
ثمّ قال:
“نوكس.”
“نعم.”
“غدًا صباحًا،
أحضِر المرأة التي كانت مرضعةَ الأميرة.”
—
لم يتبقَّ على رحيل جيش الإمبراطوريّة سوى أقلّ من ثلاثة أيّام.
وبإشراف فريدريك، تمكّنت يِيرينا من توديع وصيفاتها المقرّبات، وبعض من عرفتهم.
“هل ترغبين في توديع أحدٍ قبل الذهاب إلى الإمبراطوريّة؟
إن أردتِ، أستدعيهم.”
لم تكن تجرؤ على الطلب، لكنّ فريدريك سبقها.
ورغم أنّ نبرته بدت متردّدة، انتهزت الفرصة فورًا.
“سأذهب معكِ.
لا يمكننا ترك سموّ الأميرة وحدها.”
بكى الجميع حين رأوا الأميرة العمياء.
وبعض الوصيفات توسّلن أن يرافقنها إلى الإمبراطوريّة.
لكنّ يِيرينا هزّت رأسها وقالت بحزم:
“لا.”
التعليقات لهذا الفصل " 9"