لكن،
ومهما فكّرت ديزي على هذا النحو،
فلن يتغيّرَ حالُ تلك السيدة فجأة.
في نظرِ ديزي،
كانت المرأةُ قد ماتت فعلًا.
عينان زرقاوان بلا حياة،
تشبهان تمامًا عيني طائرٍ ميتٍ
تيبّستا يومًا ما ورأتهما من قبل.
‘هل يمكن حقًّا أن يُسمّى هذا عيشًا؟’
تمتمت ديزي في سرّها.
تقضي اليومَ كلَّه في التحديق خارج النافذة،
تتناول الطعامَ بيدَي الخادمات،
ثمّ تأوي إلى فراشِها باكرًا.
لا تفعل شيئًا بإرادتِها
سوى النظر إلى الخارج والنوم.
وبينما كانت ديزي واقفةً تنظر إليها
وقد تكدّست الأفكارُ في رأسِها،
وبّختها إحدى الخادمات
بنظرةٍ من بعيد.
عندها فقط خفضت ديزي رأسَها
وعادت تتحرّك.
لكن لم يمرّ وقتٌ طويل
حتّى انساب صوتٌ قريب.
“هناك…….”
كان صوتًا ضعيفًا جدًّا،
لكنّ ديزي والخادمات الواقفات على مقربة
سمعنه جميعًا.
أسرعت إحدى الخادمات،
ونادت ديزي بصوتٍ منخفض
وقد تصلّبت مكانَها.
رمشت ديزي،
واستقامت،
ثمّ تقدّمت نحو المرأة.
“نعم، نعم.
تفضّلي بالكلام.”
انعكست ديزي في العينين الزرقاوين.
حدّقت بها المرأة طويلًا
بعينين ميّتتين،
ثمّ مدّت يدَها،
وقالت بصوتٍ متشقّق:
“هل……
تُسندينني قليلًا؟”
—
‘إن استمرّت على هذا الحال…….’
‘نحن نزيّن الأمر ونقول إنّ صحّتَها سيّئة،
لكنّنا جميعًا نعلم.
هذا يُسمّى فقدانَ العقل.
حالةَ بَلَه.’
‘حتّى بين الخدم يدور الكلام.
يقولون إنّ مَن ستصيرُ إمبراطورة
لها عيونُ سمكةٍ معروضةٍ على بسطة.’
كانت مثلُ هذه الأحاديث تُسمَع أحيانًا.
لكنّ ييرينا
لم تكن تبالي بما يُقال عنها.
ربّما، كما يقول الناس،
كانت قد فقدت عقلَها حقًّا.
وإلّا،
فكيف لها أن تظلّ صامتةً
تحدّق إلى الخارج طوال اليوم
ثمّ تنام،
وتكرّر ذلك؟
‘الرّبيع…….’
لم تكن تعرف كم من الوقت مضى.
لكنّها أدركت أنّ الرّبيع قد عاد.
من رائحة الأزهار،
ومن دفءِ النسيم،
ومن طولِ النهار قليلًا.
‘ما أعجبَ الحياة.
كم هي عنيدة.’
لعلّ الجوّ المفعم بالحياة
هو ما جعلها تفكّر في حياتِها.
بعد أن ضربت رأسَها بالحائط،
ومع تشوّشِ وعيِها
ورؤيةِ الدم،
ظنّت أنّها ستموت حتمًا.
لكنّ الرجل،
وكأنّه يسخر منها،
أنقذها مرّةً أخرى.
ومنذ ذلك اليوم،
غرقت في العجز.
‘أنا متعبة.
لا أريد أن أفكّر في شيء.’
كانت تريد فقط أن ترتاح.
قبل أن تضرب رأسَها،
فكّرت بالانتقام للحظة،
لكنّ الحماسة خمدت سريعًا.
حتى لو غرست سيفًا في عنقِه،
فلن يتغيّر شيء.
هل سيعود أهلُها الموتى؟
هل ستُمحى سنواتُ الخداع؟
لا شيء ذا معنى.
وهكذا،
بقيت ييرينا ساكنة.
بلا تفكير،
تترك وعيَها يطفو بلا وجهة.
‘……سيّدتي ييرينا.’
مرّ الزمن،
قصيرًا كان أم طويلًا.
وكان الرجل يأتيها كلّ يوم.
في البداية،
كان يركع شاحبًا
ولا يكاد ينطق سوى باسمِها.
لعلّها فكّرت يومًا
أنّ منظره كان بائسًا.
لكنّها،
العاجزة حتّى عن محاولةِ الموت،
لم تستطع السخرية.
ولا الغضب أيضًا.
هل رآها وقد فقدت عقلَها؟
فهي لا تفتح فمًا ولا أذنًا،
وتكتفي بفتح عينيها
للنظر إلى الخارج.
ظلّ الرجل،
راكعًا بوجهٍ شاحب،
ينادي اسمَها.
ثمّ بدأ يهمهم باعتذاراتٍ لا معنى لها،
ومع تغيّر الفصول،
صار يقول كلامًا لا طائل منه.
‘لؤلؤةٌ جُلبت من أعمق بحرٍ في أقصى شرقِ القارّة.’
‘لا أحد،
حتّى لو كان الإمبراطور،
سيجرؤ على إهانتكِ بعد اليوم.’
‘زهرةٌ لا تتفتّح
إلّا في جبالٍ ثلجيّةٍ في عزّ الشتاء.
مَن يملكها
يُقال إنّ صحّتَه تتحسّن.’
كم ستملك؟
كم ستصير نبيلة؟
لم تحتفظ ييرينا بتلك الكلمات.
كانت فقط تحدّق إلى الخارج
مسترخيةً بلا قوّة.
‘أيًّا كان شكلُكِ،
لا يهمّ.
ابقَي إلى جانبي فقط.’
‘…….’
‘أحبّكِ.
أحبّكِ حقًّا،
سيّدتي ييرينا.’
لكن،
عندما صار إمبراطورًا
وألبسها خاتمًا
وقال إنّه سيُبقيها إلى جانبِه،
وفي اللحظة التي صرخ فيها بالحبّ مرارًا،
تغيّر شيءٌ في داخلِها.
تشقّقت اللامبالاة
التي كانت تلتهمها منذ أشهر،
واهتزّت.
كان كلّ شيءٍ محطّمًا،
ومع ذلك،
ظلّت تكرهه كرهًا لا يُطاق.
ولم تفهم
لماذا يتعلّق بها إلى هذا الحدّ.
وهكذا،
بدأت تتحرّك من جديد،
ببطء.
حرّكت أصابعَها،
ثمّ حرّكت أصابعَ قدميها
تحت الفستان.
أدارت عينيها
بعد أن كانت لا ترى سوى النافذة.
وعندما لاحظت
أنّ خادمةً تشبه جين
تتحرّك أمامها،
وقعت عيناها على رفوفِ الكتب.
بل،
على كتابٍ واحدٍ بعينه.
‘ذاك…….’
لم تتوقّع أن تجد
في هذه الغرفة الغريبة
أشياءَ جلبتها من مملكةِ سيداس.
لم تحمل معها شيئًا من البرج،
ومع ذلك،
كان الأمر حقيقيًّا.
ما إن انتبهت،
حتّى بدا الكتاب
وكأنّه يناديها.
بل،
شيءٌ مدسوسٌ بين صفحاته
داعب سمعَها.
‘لعلّ هذا
سيمنحني راحة.’
تذكّرت ييرينا أسطورةً قديمة،
ونطقت:
“هل……
تُسندينني قليلًا؟”
تعالت أنفاسٌ محبوسة من كلّ جانب.
لكنّها لم تعبأ،
وتلقّت دعمَ الخادمة
التي تشبه جين،
ونهضت.
ارتجفت ساقاها،
ربّما لأنّها لم تمشِ منذ زمن.
ومع ذلك،
خطت ببطء،
خطوةً تلو الأخرى،
حتّى لامست يدُها رفَّ الكتب.
مدّت يدَها
نحو كتابٍ أعلى قليلًا من طولِها.
وفي تلك اللحظة،
دوّى من خلفِ القوس صوتُ الناس:
“جلالةَ الإمبراطور!”
‘لقد جاء.’
تسارع قلبُها.
أمسكت الكتاب بسرعة.
تقلبت الصفحات
بصوتِ رياحٍ حادّة،
وحين بلغت منتصفه،
ظهر ما كانت تبحث عنه.
‘آه…….’
آخر مرّة رأته،
كانت ورقةُ الشجرة الإلهيّة
لا تتجاوز ورقةً قشريّة.
أمّا الآن،
فكانت تشعّ نورًا غريبًا.
أو،
هكذا بدا لعيني ييرينا وحدَها.
سقطت دمعةٌ على الصفحة،
وأصابت الورقة.
وما إن امتصّت الملوحة،
حتّى لانَت،
واهتزّت
كأنّها حيّة.
-لم يمتِ التنّينُ الأحمر.
بل عاد حيًّا في هيئةِ شجرةٍ عظيمة.
وترك كرهَه وحقدَه على الملكةِ الأولى
في أوراقِها،
لينثرَها ريحًا
على نسلِه في المملكة.
تذكّرت ييرينا النصّ القديم،
وأمسكت بورقةٍ واحدة.
وفي اللحظة ذاتِها،
اقتربت خُطى مألوفة من خلفِها.
لم تتردّد.
ابتسمت ابتسامةً يابسة،
وأدخلت الورقة في فمِها.
“سيّدتي ييرينا؟”
نادى الرجلُ من خلفِها.
لكنّها ركّزت فقط
على ما في فمِها.
كانت الورقة،
التي كانت صلبةً كالقشور،
ليّنةً كخبزٍ طريّ،
وملساءَ كالأعشاب البحريّة.
ثمّ ذابت،
كأنّها سكّر،
وانزلقت في حلقِها.
كان طعمُها
أحلى من أيّ شيء.
فاتّسعت عيناها.
“ييرينا!”
أمسك أحدهم كتفَها
وأدارها بعنف.
تبدّل المشهد،
ورأت عينين حمراوين
قبل أن يبهت كلّ شيء.
“كُهْ!”
تقيّأت دمًا داكنًا.
حقدُ التنّين الأحمر
استهدف بدقّة
نسلَ مؤسّسي سيداس.
ضُرِبَ قلبُها.
وسقط الموتُ دفعةً واحدة.
ابتسمت،
إذ بلغَت الراحةَ التي أرادت.
“الطبيب!
أحضروا الكاهنات!
حالًا!”
تعالت الأصوات،
ثمّ تلاشت.
“لا.
تحمّلي.
تحمّلي، ييرينا.”
“هـ…… هـه.”
شعرت بالبرودة تزحف.
لامس شفتيها شيءٌ بارد،
وانساب سائلٌ مُرّ في حلقِها.
‘……لا فائدة.’
كانت تعلم
أنّ هذا لن يمنع راحتَها.
رفعت جفنَيها بصعوبة.
رأت وجهَه المشوّه بوضوح.
مدّت يدَها،
وأمسكت شعرَه المرتجف،
وهمست مبتسمة:
“جـ…… هـه.
جيدٌ هذا…… التعبير.”
“…….”
“مِن…… هـه.
كلّ الوجوه التي رأيتُها،
وجهُك……
هو الأجمل.”
—
بعد خلعِ الإمبراطورِ السابق كيدريك،
تضاءل حجمُ معبدِ القصر الإمبراطوريّ
حتّى كاد يختفي.
غادر معظمُ الكهنة والكاهنات،
ولم يبقَ سوى قلّة
وُجِدوا من أجل صاحبةِ قصرِ العاج.
وبما أنّ أغلبهم أقام هناك،
غدا المعبدُ مهجورًا.
لكن لم يرحل الجميع.
بقي أقلّ من عشرة.
ومع ذلك،
نظر إليهم أهلُ القصر والنبلاء
بعينٍ سيّئة.
“أولئك الذين اغتنوا
إلى جانبِ الإمبراطورِ المخلوع…….”
“يعبدون الإلهة؟
بل عبدوا طاغية.”
لم يكن بيدِهم حيلة.
لم يستطيعوا طلبَ النقل.
فاختاروا الصمت.
وكانت أليسياواحدةً منهم.
نجت بأعجوبة،
وأُعيدت إلى مقرّها بأمرٍ ما.
“يا إلهي……
اغفر للمذنبين.”
صُدم الجميع.
كانت شابّةً،
لكنّها بدت كعجوزٍ على وشكِ الموت،
وقد فقدت قوّتَها المقدسة.
“أليست من أتباع سينكس؟
لابدّ أنّها نالت جزاءَها.”
“لا تقولوا ذلك.
لم يكن أحدٌ أنقى منها.”
انقسم الناس.
لكنّ أليسيالم تُبالِ.
حبست نفسَها،
وصلّت.
ولم يصدر عن المعبدِ الأعلى
أيّ قرارٍ بشأنِها.
لم تُنزَع رتبتُها،
ولم تُنفَ.
وهكذا،
نُسِيَت.
إلّا من خادمةٍ صغيرة.
إلى أن جاء ربيعٌ،
وحضر شخصٌ غيرُ متوقَّع.
فانحنت الرؤوس،
وتبادل الناس النظرات.
التعليقات لهذا الفصل " 88"