وضعَ روشان يدَه على كتفِ ييرينا وضغطَ بقوّة.
فالتصق ظهرُ ييرينا بالسرير تمامًا.
وكان الحبلُ الملفوفُ حول معصمِها قد تراخى قليلًا.
عندها فقط تابع الرجلُ كلامَه.
“……ألا ينبغي لكِ أن تنتقمي أيضًا؟”
“…….”
“عدوّكِ الذي ذبحَ عائلتَكِ يقف أمامكِ الآن،
أتنوي التخلّي عن ذلك؟
هاه؟”
كان استفزازًا صريحًا.
ولم يكن بوسعها أن تصمد من دون أن تنجرّ إليه.
فكرةُ غرسِ السيف في عنقِ العدوّ وحدَها
كانت كفيلةً بإشعالِ مشاعرِها.
حين لاحَ بريقُ إرادةِ الحياة في عيني ييرينا،
أطلق روشان ضحكةً منخفضة، ثمّ نهض من مكانِه.
وانحنى بانضباطٍ عميق،
بأدبٍ يفوقُ الوصف.
“سيّدتي ييرينا.”
اختفى الغازي في لحظة.
وعاد الرجلُ من عدوٍّ
إلى فارسٍ حارسٍ وحبيب.
انحنى مُحيّيًا،
وقبّل يدَي ييرينا المقيّدتين
كما لو كان يقسِم بالولاءِ لسيدةٍ نذر لها عمرَه.
“أرى أنّ من الأفضل أن تستريحي اليوم.”
استدار وخرج.
وحين استند إلى الباب، أطلق زفرةً طويلة.
لقد قال ما لا ينبغي قولُه،
وذلك وحدَه كان كفيلًا بأن يمنحَه طمأنينةً مؤقّتة.
فالعينان اللتان تلألأتا عند ذكرِ الانتقام
لم تكونا كاذبتين.
غير أنّه،
وقبل أن ينقضي يومٌ كامل،
اضطرّ إلى مواجهةِ سيّدةِ الوصيفات
وهي شاحبةُ الوجه، ترتجفُ ارتجافًا.
“جلالتك.”
ركعت المرأةُ متوسّطةُ العمر أمامه،
وبصعوبةٍ جمعت أنفاسَها
لتروي ما حدث قبل نحوِ ثلاثين دقيقة.
“خشيتُ أن يتقرّح جلدُها من كثرةِ الرقود،
ففككتُ القيود قليلًا……
وفجأةً، اندفعت نحوَ الجدار.”
“…….”
“قالت إنّ الأمور لن تسير كما تشاء،
ثمّ……
ثمّ ضربت رأسَها بالجدار…….”
“…….”
تعذّر على سيّدةِ الوصيفات أن تُكمِل.
وتعثّر صوتُها.
أمّا روشان،
فقد صرفَ نظرَه عنها،
ونظرَ إلى عمقِ القصر حيث تكون ييرينا،
وسأل بصوتٍ منخفض:
“……وما حالُها؟”
تحرّكت شفتا المرأة.
كان الأطبّاء والكاهنات قد دخلوا فورًا،
لكنّ الوضع بدا بالغَ الخطورة.
ومع ذلك،
لم يُبلَّغ بموتِها بعد…….
“ابتعدي.”
لم يستطع الانتظارَ لحظةً واحدة.
تجاوزَها بخطوةٍ واحدة
ودخلَ إلى الداخل مسرعًا.
ما إن بلغَ غرفةَ النوم
حتّى رأى الجميعَ يتحرّكون في فوضى.
كان الطبيبُ يضغط بقطعةِ قماشٍ على أنفِ الأميرة
حيث يتدفّق الدم،
بينما تمسّكت الكاهناتُ بيدَيها
وتمتمْنَ بتعاويذَ غامضة.
والدمُ المنسابُ من رأسِها المصاب
كان يُغرق شعرَها الأشقر
ويتساقطُ قطرةً قطرة.
عند ذلك، شحبَ وجهُ روشان.
كان الضوءُ الذهبيّ المتسرّبُ من يدِ الكاهنة
يحجبُ نظرَه بين حينٍ وآخر،
لكنّ عينَيه ظلّتا معلّقتين بييرينا،
المتكئةِ بصعوبة،
غير القادرةِ حتّى على الاستلقاء،
ورأسُها منكسٌ تحت وطأةِ النزف.
—
لم يتبقَّ على مراسمِ تتويجِ الإمبراطورِ الجديد سوى القليل.
وامتلأت العاصمةُ بالناس،
من أبناءِ الإمبراطوريّة
ومن القادمين من الدولِ الأخرى.
ابتهجَ التّجّار بازدهارٍ
قد لا يشهدونه سوى مرّةٍ واحدةٍ في العمر.
“لكن، لماذا يُقامُ التتويجُ في القصرِ الأزرق؟
ألن يقيمَ جلالةُ الإمبراطور في القصرِ المركزيّ؟”
“يقال إنّ ما فعله الإمبراطورُ المخلوع
جعل أقبيةَ القصرِ المركزيّ غيرَ آمنةٍ بعد،
ويحتاجون إلى مزيدٍ من الترميم.”
“مع ذلك،
فإنّ قاعةَ السافير في القصرِ الأزرق
ليست سيّئة.
المسافةُ بعيدةٌ بعض الشيء،
لكنّها مقبولة.”
ومع نقصِ الأيدي العاملة
ودخولِ عمّالٍ كُثُر من الخارج،
ازدادَ القصرُ الإمبراطوريّ صخبًا.
كان الجميعُ منشغلين بالتحضيرات.
غير أنّ قصرَ العاج،
بجدرانه الرخاميّة البيضاء
وزنابقِه المتفتّحة،
ظلّ استثناءً.
فبينما يعجّ القصرُ كلّه بالحركة،
خيّم الصمتُ على قصرِ العاج
كأنّه قبر.
‘الجميعُ الذين دخلوا معي بدَوا متحمّسين……
فما لي أنا؟’
تمتمت ديزي،
الخادمةُ الجديدة في قصرِ العاج،
وهي تمشي بحذرٍ في الممرّات.
تمنّت لو أُلحقت بالقصرِ الأزرق،
أو قصرِ الأسد،
أو حتّى بحدائقِ القصرِ المركزيّ.
رغم هدوءِ طبعِها،
كان هذا الصمتُ خانقًا أحيانًا.
‘لا،
الهدوءُ أفضل.’
هزّت رأسَها ببطء.
فهي تعلم أنّها،
لو وُضِعت في مكانٍ صاخب،
لما كفّت عن الشكوى.
استأنفت السير.
وحين همّت بالصعود من الطابقِ الثاني إلى الثالث،
ناداها صوتٌ من خلفِها.
“ديزي.”
كانت جيل،
الخادمةُ الأقدم التي تُصدر الأوامر لِديزي
منذ وصولِها.
رفعت شعرَها البنّيّ الداكن بعناية،
ورغم صِغر سنِّها،
كانت دقيقةً وسريعة،
ما أكسبها ثقةَ سيّدةِ الوصيفات.
ولذا،
كان على الخادماتِ الجُدُد اتباعُ تعليماتِها.
عادت ديزي أدراجَها وانحنت.
فسألتها جيل:
“إلى أين تذهبين؟”
“كنتُ ذاهبةً لتنظيفِ نوافذِ الطابقِ العلويّ.”
ابتسمت جيل بخفّة،
وأشارت إليها أن تتبعَها.
“احملي هذا
واذهبي به إلى غرفةِ تلك السيدة.”
سلّمتها جيل مزهريّةً ثقيلةً نسبيًّا،
مزيّنةً بورودٍ ورديّةٍ كبيرة،
تفوحُ بعطرٍ زكيّ.
“أنا؟”
بدت المزهريّة ثمينةً من النظرةِ الأولى،
وغرفةُ صاحبةِ القصر.
تملّك الخوفُ ديزي.
“رينا التوت قدمَها،
ولا تستطيع المشي جيّدًا.”
“لكن…….”
“إنّها مزهريّة فقط.
هيا، اذهبي.”
كان صوتُ جيل حاسمًا.
فأومأت ديزي،
وسارت ببطءٍ شديد،
خشيةَ أن تُسقطَها أو تُتلفَ الزهور.
ولحسن الحظّ،
لم تكن الغرفةُ بعيدة.
وحين رأت بابَها من بعيد،
ابتلعت ريقَها.
ما إن لمحها أحدُ الفرسان الواقفين للحراسة
حتّى دخل ليُبلِغ.
ثمّ خرجت خادمةٌ
سبق لِديزي أن رأتها.
“جئتُ لتسليمِ المزهريّة.”
“ما أجملَ الزهور.
اتبِعيني.”
بدت الخادمةُ وكأنّها كانت تنتظرها.
ومع دورانِها،
انفتح البابُ الثقيل.
‘واو!’
اتّسعت عينا ديزي.
كان قصرُ العاج جميلًا في كلّ زاوية،
لكنّ هذه الغرفة
فاقت حتّى توقّعاتِها.
كانت أوسع ممّا تخيّلت.
عبرت مع الخادمة صالونًا،
ثمّ قوسًا بعد آخر،
وحين بلغتا أعمقَ مكان،
عدّلت الخادمةُ هيئتَها
وقالت بأدب:
“سيّدتي ييرينا،
سندخل للحظة.”
انزاح الستار،
وانكشفَت غرفةُ نومٍ مشمسة.
كانت خادمتان تقفان قربَ النافذة.
خفضت ديزي بصرَها
وشدّت قبضتَها على المزهريّة.
“ضعيها هنا.”
اقتربت من النافذة قليلًا
ووضعت المزهريّة.
وحين همّت بالانصراف،
وقع بصرُها على امرأةٍ
تجلس محاطةً بالخادمات.
توقّفت بلا وعي.
كانت المرأةُ مبهرةَ الجمال.
شعرُها البلاتينيّ الطويل
كخيوطِ ذهبٍ نسجتْها الآلهة،
وبشرتُها البيضاء
كأنّها خزفٌ مصقول.
‘ما أروعَها.’
فهمت ديزي الآن همسَ زميلاتِها.
أيّ رجلٍ لا يمكنه أن يعشقَ امرأةً كهذه؟
حين طال تحديقُها،
تنبهت الخادمات.
اقتربت منها إحداهنّ
ووبّختها هامسة:
“هذا تصرّفٌ وقح.”
انتبهت ديزي فجأة،
واحمرّ وجهُها،
وانحنت معتذرة.
“سأ…… سأذهب…… آه!”
داست طرفَ تنورتِها،
فسقطت.
تحطّمت المزهريّة
بصوتٍ حادّ.
وشحبَ وجهُ ديزي.
لم يكن الألمُ في ركبتَيها هو المشكلة،
بل ما كُسِر بين يديها.
تبدّلت وجوهُ الخادمات،
لكنّ اهتمامَهُنّ
توجّه فورًا إلى المرأةِ الجالسة.
“سنتحدّث لاحقًا.”
وقفت ديزي دامعةَ العينين.
وفي تلك اللحظة،
بلغ سمعَها صوتٌ ضعيف:
“دي…… زي؟”
—
كانت ديزي محظوظة.
لم تُعاقَب،
بل عُولِجَت،
وحصلت على أجرٍ إضافيّ.
غير أنّ ذلك لم يكن بلا مقابل.
نُقِلَت من عملِها
إلى غرفةٍ جميلةٍ في قصرِ العاج.
كان تنظيفُ الغرفة المليئة بالتحف
يتطلّب تركيزًا عاليًا،
لكنّ نصيبَها اقتصر على جزءٍ صغير.
ما أثقلَها حقًّا
أنّها صارت تُؤمَر
بالمرور أمام صاحبةِ الغرفة
مرّتين أو ثلاثًا يوميًّا.
لم تفهم السبب تمامًا،
لكنّها خَمّنت
من همساتِ الخادمات.
‘هي الوحيدةُ التي استجابت لها السيّدة.’
‘لقد سمعت صوتًا،
لأوّل مرّة منذ الحادث.’
كانت صاحبةُ القصر
التي ستصيرُ إمبراطورة،
كتمثالٍ جميلٍ بلا روح.
ومنذ إصابةِ رأسِها،
لم تتكلّم،
ولم تُبدِ تعبيرًا.
غير أنّ ديزي
كسرت هذا الجمود.
‘لكنّها،
منذ ذلك اليوم،
لم تُبدِ أيّ ردّةِ فعلٍ أخرى.’
زاد ذلك العبءَ على ديزي.
وقفت قربَها ذات مساء،
وتأمّلت وجهَها المغمور بضوءِ الغروب.
‘ما أجملَها.’
‘لو ابتسمت،
لكانت أجملَ.’
تمنّت ذلك بصدق.
التعليقات لهذا الفصل " 87"