“أفلا يمكنُكِ أن تُغمِضي عينيكِ مرّةً واحدةً فحسب؟”
“…….”
“سأتخلّى عن اسمي الأصليّ كلّيًّا.
سأعيش باسمِ كيّان.
بهذا الاسم فقط.”
أن يتخلّى رجلٌ سيصير إمبراطورَ الإمبراطوريّة عن اسمِه، لكان أمرًا يدعو إلى الذهول لو سُمِع.
غير أنّ روشان كان واثقًا.
إن أذِنَت ييرينا بذلك، وإن سامحته ولو بمقدارِ حبّةِ قمحٍ واحدة، لكان مستعدًّا لأن يُغيّر حتّى اسمَ الإمبراطوريّة.
“وسأُغيّر هاتين العينين أيضًا.
لقد وجدتُ الطريقة.
سأصير ذلك الفارسَ الحارسَ ذي العينين الزرقاوين الذي تخيّلتِه.”
كان الدواءُ الذي يُغيّر لونَ العينين شديدَ السُّمّيّة، كثيرَ الآثارِ الجانبيّة.
ومع ذلك، فكّر روشان أنّ العمى لا يهمّه إن كان الثمن.
“أعلم أنّ أمثالَ هذه الأمور لا تُكفّر عن ذنوبي.
لكن، أرجوكِ، امنحيني فرصةَ تكفيرٍ واحدة.
مرّةً واحدةً فقط.”
“…….”
“أرجوكِ……
لن أسمحَ أن يصلَ إلى أذنيكِ اسمُ ذلك الغاصبِ الآثم الذي اجتاح مملكةَ سيداس.”
كلماتٌ لا تستحقّ الإصغاء.
وبرودةٌ مفاجئةٌ أخمدت فورانَ مشاعرِ ييرينا.
‘ما الذي يهذي به هذا الآن؟’
وقد بلغت غضبُها حدًّا جعلها تنسى حتّى كيف تُعبّر عنه.
“أعتذر على تفوّهي بهذا.”
“…….”
“لقد ارتكبتُ ذنبًا لا يُغتَفَر.”
كان روشان يعلم أنّ كلامَه لا يعدو كونه لغوًا في أذنِ ييرينا.
لكنّه لم يجد سبيلًا آخر.
‘لقد تركتُ خيارًا للسير فريدريك……
دعْ جُول وتلك الطفلة وشأنَهما.’
كان يستطيع استخدامَ ما تركه في حِجرِ فريدريك،
لكن بعد انكشافِ هويّتِه، لم يشأ أن يضيفَ خداعًا جديدًا.
لذا لم يفعل سوى التوسّل، مرّةً بعد مرّة.
مرّ الوقت.
وتدحرجت الشمسُ من كبدِ السماء حتّى ابتلعتها الأفق.
وتشقّق صوتُ روشان.
أمّا السامعة، فكانت بالكاد تتنفّس، وتدفع اعتذاراتِه بعيدًا عن سمعِها.
أمام كراهيةٍ صامتةٍ لا تترك ثغرةً ولا حركة، تسلّل اليأسُ إلى روشان.
‘ماذا لو لم تنظر إليّ أبدًا؟
ماذا لو لم تَعُد ترى أمامها سوى الموت؟’
توقّف عن التوسّل.
واليأسُ الذي نما في داخله بدأ يلتهم ما تبقّى من قلبٍ متصدّع.
‘……أنا حقًّا كما كنتُ.’
ومن شقوقِ قلبِه نبتَ الظلمُ،
ثمّ أورقَ، وأزهرَ،
وألقى أخيرًا ثمرته.
“أعلم أنّ حديثي عن الحبّ، وأنا في هذا المقام، ذنبٌ آخر.
لكن…….”
التقت عيناه الحمراوان بعيني ييرينا الزرقاوين.
ورأى بوضوحٍ أنّ المودّة التي كانت تنعكس عليه، ولو باهتة، قد اختفت تمامًا.
فقبض يدَيه فوق ركبتيه بقوّة.
“كلّ ما قلته لكِ كان صادقًا.
ذلك وحده لم يكن كذبًا.
فمن أجل ذلك…….”
“يا لك من مجنون……
مجنونٌ حقير.”
قطعت ييرينا كلامَه.
لم تَعُد تحتمل المزيد.
عدوُّها هذا كان يُقلّبها في كفِّه طوال السنين.
يوسوس بالكذب، ويغرقها في الخداع.
ثمّ يتحدّث عن الصدق؟
الخداعُ والحبّ لا يجتمعان.
على الأقلّ، ليس في قلبِ ييرينا.
“هل أنت نادمٌ على ما فعلته؟”
“…….”
“أإلى هذا الحدّ تواصل السخرية منّي وأنت تنطق بتلك الكلمات؟”
التوى طرفُ فمِها.
ضحكت ضحكةً مبحوحة، ثمّ انفجرت ضحكًا عاليًا.
لكنّ الضحك بدا بكاءً،
وسالت الدموعُ من عينيها بلا توقّف.
وبعد وقتٍ طويل،
توقّفت فجأة.
ورغم أنّ ذراعيها كانتا مقيّدتين، سكنَ جسدُها.
نظرت إلى روشان بوجهٍ بارد، ثمّ صرفت نظرَها نحو السقف.
كان الفراغُ قد ابتلع مشاعرَها.
“روشان ڤيستيوس.
ما الذنبُ الذي ارتكبتَه بحقّي؟”
“…….”
“أيّها الوريثُ الأعظم لإمبراطوريّة ڤيستيوس.
ألم تفعل سوى ما كنتَ تفعله دائمًا؟
فلماذا الندم الآن؟
ولماذا عليّ أنا وحدي؟”
ارتجفت أكتافُ الغاصب الراكع.
كان ذلك صحيحًا.
كم شخصًا عاش المصيرَ ذاته؟
ومع ذلك، لم يشعر بالذنب تجاه أحدٍ منهم.
وحدها ييرينا.
وحدها أراد أن ينحني لها بلا نهاية،
أن يعتذر،
وأن يستعيد تلك الكلمات، وتلك العناق.
“لا تفعل ذلك.
ما العيبُ في أن تعبث بأسيرةِ دولةٍ مهزومة؟
أن تضحك وأنت ترى أسيرةً حمقاء تقع في حبّ عدوّها؟
مَن ذا الذي سيجرؤ على لومِك؟”
“سيّدتي ييرينا، أنا…….”
“كفى!”
وحين حاول التبرير، رفعت ييرينا صوتَها فجأة.
“كفى!
توقّف عن تقليدِه……
أرجوك.”
مرّ ارتباكٌ خاطف في عينيها الزرقاوين.
ولم يفُت ذلك على روشان.
امتلأ صدرُه بالأمل.
لم تمحُه تمامًا.
الفارسُ الذي حماها، والذي أحبّته،
لم يُمحَ من قلبِها بعد، رغم علمِها أنّه العدوّ ذاته.
‘……هذا يكفي.’
كان روشان قائدًا بارعًا،
يعرف كيف يُمسك بنقاطِ الضعف.
وقرّر أن يواصل التصرّف كـ”كيّان”، مهما قالت.
ولعلّ ييرينا شعرت بتغيّرٍ في نظرتِه.
ارتعشت رموشُها، وعضّت شفتها، ثمّ سألته بصوتٍ خافت:
“قُل لي……
هل تشعر حقًّا بالذنب تجاهي؟”
كان صوتُها ناعمًا، حلوًا،
يشبه ذلك الصوتَ الذي كان يقول لها يومًا: أحبّكِ.
فأومأ روشان برأسِه.
“إذًا اقتُلني.”
“…….”
“إن كنتَ نادمًا حقًّا، فأنهِي حياتي كما أنهيت حياةَ عائلتي.
دعني لا أراك بعد الآن!”
جاءت الكلماتُ قاسية.
ولأوّل مرّة منذ دخوله الغرفة، حدّق روشان فيها بعينٍ حادّة.
“لا أستطيع.
سيّدتي ييرينا.”
“…….”
“أما نسيتِ وعدَكِ لي؟
قلتِ إنّكِ ستعيشين مهما حدث.”
“ها!”
سخرت ييرينا.
“الشخصُ الذي وعدتُه لم يكن موجودًا أصلًا.
كان كلّه كذبًا.
فما قيمةُ الوعد إذًا؟”
“…….”
“لا أريد الحديثَ معك أكثر.
اقتُلني.
أو راقِبني فقط.
سأتكفّل أنا بالباقي.”
وقد سمع روشان محاولاتِ انتحارِها مرارًا.
فاشتعلت النارُ في عينيه.
نهض على ركبةٍ واحدة،
ونزع قناعَ كيّان.
“……لن يحدث ذلك.”
كان غاضبًا،
لكنّ غضبَه جعله أكثرَ برودة.
وعرف أنّه لا بدّ من التهديد.
“يا أميرة.
لا يزال لديكِ ما تحرصين عليه.”
“فلنبدأ بمملكةِ سيداس.”
ما إن نطق باسمِها، حتّى انتفضت ييرينا.
ورسم روشان ابتسامةً حزينة.
“هل تعلمين ما آلَ إليه وطنُكِ؟
لقد جرى الكثير.”
وسردَ لها ما جرى،
من خلعِ بريك وبيانكا وإعدامِهما،
إلى مَن صار الملك،
وحالِ الشعب.
اتّسعت عينا ييرينا حتّى أقصاهما.
لم تشعر بالراحة،
ولا بالحزن.
بل بالذهول فقط.
“قُتِلَ كلّ مَن يمتّ لكِ بصلة دم.
لكنّكِ كنتِ تحبّين المملكةَ كلّها، أليس كذلك؟”
“…….”
“وإن لم يكن ذلك،
فماذا عن صديقتِكِ فريا؟
وليلّي؟
وجين؟
وأبنائهنّ وبناتِهنّ؟”
تحرّكت شفتا ييرينا.
كان عليها أن تطلبَ تركَهم.
لكنّ ذلك يعني الخضوع.
“فريا……
زوجةُ الماركيز إيرزن.
كانت تكنّ لكِ الكثير.”
انكشف خداعٌ آخر.
الرسالةُ التي أرسلتها ييرينا،
والردُّ الذي لم يصلها قطّ.
انقطع نَفَسُها.
“أنتَ……!”
كان روشان قد اعترض الرسالة.
لئلّا تجد ما تتعلّق به سواه.
دافعٌ حقير.
“يا أميرة.
تمسّكي بالحياة.
لا يزال لديكِ الكثير.”
وتوقّف فجأة،
حين رأى الحبالَ المشدودة على معصمَيها،
فعقد حاجبَيه بصمت.
التعليقات لهذا الفصل " 86"