“الآن فقط صار وجهُك يليق بك.”
“أُه…….”
“أن أفكّر أنّني طوال تلك السنين كنتُ أُجاملك، من دون أن أدرك أنّ وجودك بحدِّ ذاته خطيئة، أمرٌ مقزِّز.
الغثيان يصعد إلى حلقي فلا أستطيع النوم كما ينبغي.”
بصقَ الدوقُ عبر القضبان الحديديّة بصقةً جافّة.
لم تُصِب وجهَ الإمبراطورِ المخلوع كما حدث سابقًا مع الإمبراطور كيدريك، غير أنّ وجهَ الإمبراطورِ المخلوع كان مشوَّهًا أصلًا، كأنّه تلقّى مئاتٍ، بل آلافَ البصقات.
“يا من لم تَصِر إنسانًا قطّ.
كما تشاء، ستواصل الحياة قليلًا بعد.”
راح الدوقُ يتأمّل وجهَ الإمبراطورِ المخلوع المتآكل، ويتحدّث عن نهايتِه.
اهتزّت أركانُ الحقيقة أمام الإمبراطورِ المخلوع، فصُدِم، غير أنّ عينيه لمعتا لمّا سمع أنّه سيبقى حيًّا.
“لكن لا تظنّ أنّ ذلك شفقة. إنّما أُبقيك حيًّا لأنّ دودةً قذرةً يجب أن تُحاسَب على جريمة إيذائها البشر.”
وباشمئزازٍ يتصاعد في صدره، بدأ الدوقُ يسحق أملَ الإمبراطورِ المخلوع.
سيعيش الإمبراطورُ المخلوع مئةَ يومٍ بالضبط.
لكنّه لن يحيا حقًّا.
ثمّ أخرج الدوقُ من ردائه كتابًا صغيرًا، وعلى خلاف رُزَم الأوراق، قذف بالكتاب عبر القضبان إلى حيث يُحتجز الإمبراطور.
“عليك أن تُفرِج عن أحقادِ الذين قتلتَهم وعذّبتَهم. أن تُعاد إليك أقصى درجات الألم التي ذاقوها. هذه هي العقوبة التي فُرِضت عليك.”
كان الكتابُ يحوي أسماء عددٍ لا يُحصى من الناس الذين قتلهم الإمبراطورُ المخلوع.
وبجانب بعض الأسماء، دُوِّن كيف كانت نهايتُهم.
راح الدوقُ يذكر، من بين ما في الكتاب، حالاتٍ يتذكّرها، ويتحدّث عن تجهيز خبراءَ مختصّين، وأطبّاء، ورجالِ دينٍ، ليبقوا الإمبراطورَ على قيد الحياة.
“لا تنتظر منهم رحمة. فهم جميعًا عائلاتُ أولئك الذين قتلتَهم.”
عندها فقط، نظر الإمبراطورُ المخلوع إلى الكتاب الساقط بقربه بوجهٍ يملؤه الرعب.
راقب الدوقُ الخوفَ وهو يزحف إليه، ثمّ استدار وصاح بصوتٍ عالٍ:
“انتهى التعريفُ بالضيف. أحضِروا الجميع!”
—
تغيّرَ صاحبُ قصرِ العاج.
ومُحِيَت آثارُ الإمبراطورة السابقة ليليانا، التي عُزِلَت مع الإمبراطورِ المخلوع، في لمحِ البصر.
أراد روشان أن يملأ القصرَ الخالي بأثمنِ الأشياء فقط.
وبأمرِه، وهو الذي سيعتلي العرش قريبًا، تحرّك الناسُ بسرعة.
ولا سيّما عشراتُ الأنواع من الزنابق البيضاء التي اختارها بنفسه، إذ ملأت جزءًا من حدائق القصر الخلفيّة خلال ثلاثة أيّام.
ومن بين أمواجِ الزهور البيضاء، بدا قصرُ العاج أكثرَ أناقةً ورصانة.
“آآه!”
غير أنّ أجملَ غرفةٍ في القصر، حيث لا نقصَ في شيءٍ من ورق الجدران حتّى أدقّ الزينة، كانت تشهد كلَّ يومٍ صرخاتِ امرأةٍ عالية وبكاءها.
ومع أنّ الأصوات خفّت بمرور الوقت، إلّا أنّ الخَدَم كانوا يسمعونها حين تُفتَح النوافذ.
عند سماع صرخاتٍ كأنّها تعصرُ الأحشاء، كان الخَدَمُ يرتجفون، ثمّ يديرون وجوههم متظاهرين بعدم السمع.
لم يكن بوسعهم غير ذلك.
فالمرأة التي تصرخ هي سيّدةُ القصر الجديدة، والإمبراطورةُ المقبلة.
‘لا نعرف عنها شيئًا سوى أنّ جلالتَه جاء بها…….’
‘من الصعب تحمّل رؤية ذلك كلَّ يوم. يكفي السمع ليقشعرّ البدن.’
‘يُقال إنّها امرأةٌ متزوّجة، وإنّ جلالتَه افتُتِن بها من النظرة الأولى…….’
تكاثرت الشائعات حول المرأة يومًا بعد يوم.
كانت هويّتُها مغطّاةً بالغموض، ولا يُعرَف عنها سوى جمالِها.
وهمس بعضهم بأنّها الأسيرة التي قُدِّمت للإمبراطورِ المخلوع، أميرةُ مملكةِ سيداس، ييرينا.
‘لا، سمعتُ أنّها أسيرةٌ من البرج قرب المعبد، ذاك الذي كانوا يحبسون فيه المجرمين من العائلة المالكة قديمًا.’
‘إن كانت من هناك، فهي تلك الأميرة؟ لكنّ الأميرة ماتت، وقد رآها الناس تُخرَج في صندوق.’
وبما أنّ أميرةَ سيداس كانت قد ماتت بالفعل، تغيّرت الشائعة إلى أنّ روشان وجد امرأةً تُشبِه حبيبته الراحلة فجلبها.
‘نُفِّذ الأمر كما طلبت، يا دوق جيمس.’
‘أحسنت. سيكون جلالتُه راضيًا.’
كان ذلك كذبًا محضًا.
غير أنّ مَن يعرف الحقيقة التزم الصمت.
بل إنّ الشائعات الجديدة انطلقت أصلًا من أفواه العارفين بالحقيقة.
‘جلالتَه، أبلغت عائلةُ روكزينتا قبولَها بالأمر. إن سمحتم بالمضيّ، فستُسجَّل السيّدة ابنةً ثانيةً لمركيز روكزينتا.’
‘……ليكن.’
كان ذلك ما يريده روشان.
فالإمبراطورُ الجديد سيطر على كلّ ما يحيط بالمرأة التي ستكون قرينته وصاحبةَ قصرِ العاج.
طعامُها، وملبسُها، ونومُها، بل وماضيها، ووالداها، وإخوتها، وعائلتُها، كلّها اختارها بنفسه.
‘ألا ترون أنّ تغيير اسمها سيكون أفضل؟ استخدام اسم أميرةٍ ميتة قد يثير القيل والقال.’
‘……لا حاجة لذلك.’
‘…….’
‘ومن يجرؤ على الثرثرة، نقتلع لسانَه ليكون عبرة.’
وبتلك السلطة الجبّارة، طُمِسَت الحقيقة، وراحت الأكاذيب تسير بين الناس كأنّها حقائق.
تساءل الناس عن المرأة التي ظهرت فجأة، لكنّهم شيئًا فشيئًا صدّقوا الشائعات.
غير أنّ الأمور لم تَسِر كلّها كما أراد روشان.
بل إنّ أكثرَ ما أراد التحكّم به كان أصعبَ ما يُمسِكه.
“كيف حالُها؟”
“نعتذر، ما زالت عاجزةً عن تهدئة انفعالِها…….”
قالت سيّدةُ الوصيفات، وقد بدت عليها الحيرة.
تجهّم وجهُ روشان.
“جلالتَه.”
نادته بصعوبة، فالتفت إليها.
أخرجت شيئًا ملفوفًا بقماشٍ جيّد وقدّمته باحترام.
“هذا ما أسقطتْه قبل أن تمرض.
وجدته الخادمة أثناء التنظيف.”
في الحقيقة، كانت ييرينا قد نزعت العقدَ بعنفٍ من عنقها ورمته.
وبسبب الفوضى، نسي الجميع أمرَه، إلى أن عثرت عليه الخادمة اليوم.
أمسك روشان بسلسلة العقد المقطوعة وبخاتمين.
كان يعلم كم كانت الأميرةُ تعتزّ بهذين الخاتمين، وهما كأنّهما إرثُ والديها.
فأن ترميهما معًا كان أشدَّ عليه من تلف العقد نفسه.
“……انصرفي.”
أشار بيده، فوضع العقد في جيبه، وانسحبت المرأةُ بصمت.
وبعد أن اختفت، بقي روشان واقفًا طويلًا قبل أن يتحرّك.
أمام الباب، فتح الحرسُ الباب فور رؤيته.
كانت الغرفة مرتّبةً بعناية، غير أنّ الجوّ صار غريبًا كلّما توغّل إلى الداخل.
وصل أخيرًا إلى أعمق غرفة نوم.
انحنت الوصيفاتُ الخمس، فأشار إليهنّ بالانصراف.
حين ابتعدن، ظهرت المرأةُ على السرير، مغمضةَ العينين بلا حراك.
نظر روشان إلى وجهها الشاحب، ثمّ إلى معصميها المقيّدين، فارتعشت يدُه.
وبرغم القماش الناعم، بدت آثارُ العنف واضحة.
اقترب منها ببطء، وركع قرب السرير.
وفي تلك اللحظة، فتحت الأميرةُ التي ظنّها رمادًا عينيها فجأة.
—
لم تصرخ ييرينا حين رأته.
انحنى روشان برأسه، وقال:
“لن أطلب الصفح.”
“…….”
“لكن، ألا يكفي أن تبقي حيّةً إلى جانبي؟”
خرج الطلبُ الفاحش من فمِه رغم انحنائه.
حرّكت ييرينا شفتيها، فأزال القماش عنها ببطء.
شهقت، ثمّ قالت بصوتٍ مبحوح:
“كُفّ…… عن هذا.”
“…….”
“قائدُ جيشٍ يغتصب أسيرةَ دولةٍ مهزومة……
أهذا يُعقَل؟”
“…….”
“مقزِّز…… كُفّ!”
كان صوتُها كاحتكاك الحديد، يفيض كراهيةً.
ابتلع روشان ريقَه، وقد آلمه ما رآه في عينيها.
“سيّدتي ييرينا.”
“…….”
“لم أتغيّر.”
“…….”
“أنا كما كنتِ ترينني.”
ضحكت بسخرية
أيّ جنونٍ هذا؟
عامان من الخداع، ثمّ يقول إنّه لم يتغيّر؟
“أنا كيّان، الفارسُ الذي يحميكِ.”
“…….”
“وسأبقى كذلك. سأحميكِ، وسأبقى إلى جانبكِ، كما كنتِ تعرفينني.”
كانت كلماتٍ مروّعة.
ارتجفت شفتا ييرينا المتشقّقتان.
وقد بان غضبُها جليًّا، غير أنّ روشان تابع كلامه بوقاحةٍ لا تُصدَّق.
التعليقات لهذا الفصل " 85"