نادِرًا ما سنحت فرصةٌ كهذه، وفي أحد الفجرات تمكّنت ييرينا بالكاد من تعليق نفسها.
أغمضت عينيها متظاهرةً بالنوم، ثمّ نهضت، وأرخت قماشًا طويلًا على عمود السرير.
لكنّ ذلك أيضًا فشل، ففتحت عينيها مجدّدًا لتجد نفسها ترى العالم مرّةً أخرى.
لم يُؤاخذها أحد على فعلتها.
غير أنّه منذ ذلك اليوم، ظلّ ثلاثةٌ على الأقلّ يراقبونها طوال النهار دون أن يغمض لهم جفن.
وحين لم تعد تحتمل، صرخت ييرينا واندفعت نحو الوصيفات.
ثمّ انتزعت دبوس شعرٍ من إحداهنّ، وطعنت به نحو عنقها.
غير أنّ تردّدها لحظةً قبل أن تطعن كان المشكلة.
إذ سارعت وصيفةٌ سريعة اليد، وضربت يد ييرينا بقوّة.
انحرف الدبوس عن مساره، وغاص في كتفها بدلًا من عنقها.
ومنذ ذلك الحين، لم يعد أحدٌ يدخل الغرفة مرتديًا أيّ زينةٍ حادّة، ولو كانت بسيطة.
وفوق ذلك، كانت خارج الغرفة تنتظر راهباتٌ قادراتٌ على استخدام قوى الشفاء،
كما أنّ راهباتٍ وكهنة خُصّصوا لها وحدها، كانوا يُستقدَمون من شتّى أنحاء البلاد.
وبفضل معالجة عدّة أطبّاء وقوى الإيمان، استعادت ييرينا عافيتها سريعًا.
في أحد المرّات، حين فتحت عينيها مجدّدًا، لم تحتمل رؤية جسدها وقد عاد سليمًا، فصرخت صرخةً حادّة.
أفلتت شعرها، وراحت تخنق عنقها بيديها.
عندها، قيّدها الناس هذه المرّة.
اعتذروا وهم يربطون يديها إلى عمود السرير، لكنّ وجوههم كانت مفعمةً باليأس.
وبرغم أنّ عقلها لم يكن في كامل وعيه، توقّفت ييرينا لحظةً عند وجوه الوصيفات.
غير أنّها ما لبثت أن عادت تصرخ، وقد سال الدم من عنقها.
والوصيفات المرتبكات تلقّين أمرًا ما، فجئن ووضعن في فمها قطعة قماشٍ ناعمة.
لم يكن لرفضها الماء والطعام أيّ جدوى.
مهما استغرق الأمر من ساعات، كانت الخادمات المأمورات يُجبرنها على تناول الماء والطعام.
كما أنّ الأطبّاء أجبروها على ابتلاع عشرات الأدوية التي تحفظ الصحّة.
وللتقيّؤ حدٌّ لا يُتجاوَز.
وهكذا عاشت ييرينا.
أو بالأحرى، أُجبرت على أن تعيش.
حين أصبحت عاجزةً عن الحركة كفراشةٍ مُحنَّطة، ازداد اضطراب عقلها.
كلّما ازداد جسدها راحة، تعالت في أذنيها أصوات عائلتها.
ومعها، صارت الهلاوس أوضح من ذي قبل.
كانت ترى أفراد عائلتها وأهل مملكة سيداس ماثلين بوضوحٍ على شبكيّتها،
حتى إنّها فكّرت أنّها ربّما ماتت وسقطت في الجحيم،
وأنّ كلّ ما تمرّ به الآن ليس سوى عقابٍ جحيميّ.
‘سيّدتي ييرينا.’
المدهش أنّ الصوت الذي كان يقطع تلك الهلاوس والهلوسات السمعيّة التي لا تُحتمل،
كان صوت ذلك الرجل.
حين يلتصق صوت العدوّ بأذنها، كان كلّ شيءٍ آخر يتلاشى.
لكنّ ذلك لم يكن يمنحها الراحة.
بل إنّ وجوده كان، بالنسبة إلى ييرينا الآن، هو الأشدّ رعبًا.
ذلك الرجل، العدوّ الذي ظنّته يومًا حبيبًا، كان من ألقاها بعنفٍ في صميم الواقع.
‘سيّدتي ييرينا.’
كلّما سمعت الأميرة الميتة صوته، أدركت أنّها لا تعيش في الجحيم،
بل في واقعٍ أقسى منه، وهي حيّةٌ بوعيٍ كامل.
ولذلك، كي تمحو صوته، كانت تصرخ وتصرخ،
حتى والقماش لا يزال محشوًّا في فمها.
اقتربت الوصيفات بوجوهٍ مصعوقة،
نزعْن القماش الملطّخ بالدم، ووضعن بدلًا منه قطعةً جديدة في فمها.
غير أنّ الأميرة المُحنَّطة لم تعبأ،
واستمرّت، في اليوم الواحد، بصناعة عدّة قطعٍ من هذا القماش،
تصرخ من خلالها بأنّها ما زالت حيّة.
—
بسبب ما ارتكبه الإمبراطور المخلوع كيدريك، عمّت الفوضى أرجاء الإمبراطوريّة،
ولا سيّما في أوساط النبلاء.
فلم يكتفِ بإدخال مرتزقة إلى القصر الإمبراطوري بصفته إمبراطورًا،
بل حاول في يوم ميلاده، وأمام النبلاء المجتمعين لتهنئته،
أن يدفنهم أحياءً، بل كبار النبلاء منهم.
ولم يتردّد النبلاء في صبّ أقذع الشتائم عليه.
أمّا العامّة، فقد نبذوا الإمبراطور منذ زمن.
ولذلك لم يُشفِ أحدٌ عليه،
بل تسابق الجميع في الدعاء بأن تُقطع رقبته.
كانت تلك نهاية طاغيةٍ اعتلى العرش بوصفه ابنًا غير شرعيّ للإمبراطور السابق.
عرشٌ لم يصمد عليه عشر سنوات.
عولج كيدريك من تهشّم رأسه بالكاد،
ثمّ أُلقي به في السجن تحت الأرض، لا يملك سوى حياته.
الجنود الذين اقتادوه إلى السجن لم يتردّدوا في البصق عليه.
فهم رأوا بأعينهم، مرارًا،
كيف كان الإمبراطور المخلوع يعذّب الضعفاء أمثالهم ويقتلهم بلا اكتراث.
ومع ذلك، لم تمت طباع كيدريك.
بل لعلّه، وهو يتوقّع الموت، صار أكثر جنونًا.
كان يهيج ويصرخ بلا توقّف.
“أتعرفون مَن أنا؟
أنا إمبراطور هذه الإمبراطوريّة!
أنا من نسل المقدس الذي يحمل اسم فيستيوس!”
كان كيدريك يصرخ ممسكًا بقضبان الزنزانة.
يشتم، ويصرّ على أنّ ما يحدث خيانة، ويكرّر الكلمة مرارًا.
أراد الجنود قتله في الحال،
غير أنّ الفرسان عضّوا على أسنانهم ومنعوهم.
مرّت أيّامٌ عديدة على هذا الحال.
في البداية، كان الإمبراطور يرمي الطعام الرديء ويشتم،
لكنّه، بعد حين، صار يلتهمه بنهم.
وعندها، أدرك الجنود المكلّفون بحراسته أمرًا واحدًا.
الإمبراطور المخلوع كان يرغب في الحياة.
كان يحمل أملًا، ولو ضئيلًا، بأن ينجو.
“هل ينوي السيد إبقاءه حيًّا؟”
“مستحيل.
ما ارتكبه أعظم من أن يُغتفَر.”
“ليت الأمر يُحسَم سريعًا،
حتى لا نرى هذا الوجه…
أوه، هل وصلتم؟”
كان ذلك حين دخل رجلٌ في منتصف العمر، يعرج في مشيته، يرافقه فارس،
إلى المكان الذي لا يدخله سوى الحراس المكلّفين بالإمبراطور المخلوع.
“إنّه دوق داي.
جاء لرؤية المجرم بإذن جلالته، فافتحوا الباب.”
ما إن صدر الأمر حتّى فُتح باب السجن بلا تردّد.
نظر الدوق عبر صفوف القضبان الممتدّة، وارتسمت على وجهه كآبةٌ قاتمة.
“من هنا فصاعدًا، سأذهب وحدي.”
قالها للفارس المرافق، ثمّ دخل.
وعرج حتّى بلغ الزنزانة الأخيرة، حيث كان كيدريك محتجزًا.
كان كيدريك يمزّق خبزًا قاسيًا لا يُمضغ بنهم،
فلمّا لمح ظلًّا خلف القضبان، رفع رأسه،
وبرقت عيناه المحتقنتان.
رمى الخبز، واندفع نحو القضبان صارخًا:
“يا دوق!”
دَوّى صوت ارتطام القضبان.
نظر دوق داي إلى الإمبراطور المخلوع بعينين حمراوين،
وعضّ على داخل فمه.
‘اقتادوه واحبسوه.
هذا الخائن سأقتله أمام الإمبراطورة.’
حينها، وأثناء جره على يد المرتزقة الذين استأجرهم الإمبراطور،
تعرّض لإصابةٍ دائمة في ساقه اليسرى.
ولرجلٍ ليس فارسًا في ساحة المعركة،
كانت الإعاقة وصمةً لا تُمحى.
قمع الدوق غليان غضبه،
وتراجع خطوةً عن القضبان، محدّقًا في الإمبراطور المخلوع بنظرةٍ باردة.
“ماذا قال روشَن؟
كيف قال إنّ أخي سيعاملني؟”
كادت ضحكةٌ ساخرة تفلت من الدوق.
كيف كان كيدريك ينادي روشَن حين كان إمبراطورًا؟
في الخفاء، لم يكن يذكره إلا بألفاظٍ مهينة.
أمّا الآن، وقد انقلبت الأحوال،
فصار يتودّد إليه بالقرابة خوفًا على حياته.
“لن يقتلني، أليس كذلك؟
مهما يكن، فأنا دمه الوحيد، وكنتُ إمبراطورًا.
إن قُطعت رقبتي، فسيُذكَر الإمبراطور الجديد في التاريخ كخائنٍ آثم.
مع أنّ الأمر لا يختلف كثيرًا الآن… هه…”
تعثّر كلامه، وسعل فجأة.
ابتعد الدوق خطوةً أخرى عن الرذاذ والدم الأسود،
وتمتم دون أن يُخفي ازدراءه:
“يبدو أنّك راغبٌ في الحياة.”
تشوّه وجه الإمبراطور المخلوع.
قضى حياته مكبّلًا بعقدة النقص،
وكان حسّاسًا لأيّ نظرة ازدراء.
فكيف إذا كانت بهذا الوضوح؟
صرّ على أسنانه، وحدّق بعينين انفجرت فيهما الشعيرات،
ثمّ تذكّر وضعه، وهدأ بالكاد، وقال:
“… بقائي حيًّا سيكون في مصلحتك أيضًا.
ليليانا.
ابنتك، أليس كذلك؟
لن ترضى أن تصبح أرملتها في هذا العمر.”
وجد دوق داي الكلام مثيرًا للشفقة.
كان قد قطع وُدّه بابنته المذنبة منذ زمن.
اكتفى، بدافع آخر ما بقي من عاطفة الأب،
بمعاقبتها بإبقائها في المعبد مدى الحياة.
ولم يعد ينوي أن يمنحها شيئًا بعد ذلك.
سواء صارت أرملةً أم لا، فما شأنه؟
بل إنّ ترمّلها كان، في هذا الوضع، أفضل بكثير.
فإن بقيت زوجةً للإمبراطور المخلوع،
فستُربَط أسرة داي به، مباشرةً أو ضمنًا.
وكان الدوق يتمنّى أن يقطع هذا الرباط،
الذي بدأ بخطئه، إلى الأبد.
“ظننتُ أنّ رأسك فسد بسبب تلك القذارة الدنيئة،
لكن يبدو أنّك فاسدٌ من الأصل.
لا تُجيد التفكير أصلًا.
مع أنّه… تَش.”
لم يتردّد الدوق في السخرية.
ظنّ أنّ الأدوية التي دسّها له الكاهن الأكبر سيناكس
هي ما أفسد تفكيره،
لكنّ الحقيقة أنّ كيدريك كان أحمق منذ البداية.
“لم أنزل إلى هنا لأتبادل الكلام معك،
بل لأُريك هذا.”
اقترب الدوق من القضبان،
وأخرج من ثوبه رزمة أوراق.
كانت تلك الوثائق التي تلقّاها يومًا من روشَن،
وتحمل أسرار خطايا الإمبراطور السابق،
وحقيقة كيدريك، المولود منها.
“أتدري كم أنت كائنٌ قذر؟”
قالها وهو يفتح الأوراق ويقرّبها من القضبان.
لم ينظر كيدريك إليها،
بل صرخ بصوتٍ أجشّ:
“أأنت تقول إنّ أصل أمّي وضيع؟
لكنّي ابن الإمبراطور السابق!
مهما كان الرحم الذي حملني،
ففي عروقي دم أباطرة فيستيوس!”
اشتدّ قبضة الدوق على الأوراق،
والتوَت زاوية فمه.
عندها فقط، شعر كيدريك بشيءٍ غير طبيعي،
ومدّ بصره يقرأ السطور.
ثمّ توقّفت عيناه عند موضعٍ ما،
وبدأ جسده يرتجف بعنف.
“ما… ما هذا…؟”
سقط الإمبراطور المخلوع على الأرض جالسًا.
ارتجفت ساقاه،
ولم يبقَ على وجهه سوى الذهول الخالص.
أعاد الدوق الأوراق إلى ثوبه،
وفتح فمه بملامح قاتمة…
التعليقات لهذا الفصل " 84"