الفصل العاشر: الحقيقة.
كان الموتُ، على خلافِ ما يُتَصوَّر، هادئًا.
تلاشت جميعُ الحواسّ، وخفَّ الجسدُ حتى بدا كأنّه يطفو مع الهواء.
غير أنّ البرودة كانت حاضرةً في الوقت نفسه.
فبينما كان الجسدُ يبدو وكأنّه قد يرتفع مع نسمةٍ خفيفة، كان الوعي على النقيض تمامًا.
إحساسٌ بالسقوط المتواصل في مياهٍ باردةٍ لا نهايةَ لها.
شعرت ييرينا أنّها تغرق.
‘بارد….’
تحت وطأةِ بردٍ يكادُ يجمّد العظام، نسيت ييرينا كلَّ شيءٍ وانكمش جسدُها.
هل ستظلّ تسقط هكذا حتى تتجمّد؟
وحين تأمّلت ما يهبطُ بجوارها، رأت أنّها بلّوراتُ جليدٍ صغيرة.
تألّقت البلّوراتُ وهي تهبط معها إلى الأسفل، إلى الأسفل، وتكبر شيئًا فشيئًا.
وفوق تلك الكتلِ المتنامية، راحت ذكرياتُها تُنقَشُ بنقرٍ خافت.
رأت ييرينا يومًا سعيدًا، ووقتًا حزينًا، ولحظةً مروّعة، ثمّ أغمضت عينيها.
إذ رأت أنّ استعادةَ الماضي لم تَعُد ذاتَ معنى.
ظلّت ييرينا تهوي بلا نهاية.
وما إن صغر سطحُ الماءِ في الأعلى حتى صار كنقطةٍ باهتةٍ توشك أن تختفي، حتّى انبثق نورٌ ذهبيٌّ من الأسفل، كيدٍ ممدودة، كزهرةٍ متفتّحة، وحملها صعودًا.
وفي لحظةٍ، ارتفعت ييرينا إلى الأعلى.
وبينما كانت تتردّد في فتح عينيها، سمعت صوتًا مألوفًا يناديها مرارًا.
“ييرينا.”
لم يكن سوى نداءِ اسمها، لكنّ صداه فاقَ أيَّ سحر.
وانتُشِلت ييرينا من خارج الوعي دفعةً واحدة.
‘كيان.’
رفعت جفونها الثقيلة، ونادت صاحبَ الصوت بلا صوت.
سواءٌ أكان ذلك لحظةَ زفيرِها الأخير، أم وهمًا بعد الموت، لم يَهُمّ.
حتّى لو كان محضَ نورٍ ذهبيّ، أرادت أن تراه مرّةً أخرى.
وأن تقول له مرّةً أخرى:
أُحِبُّكَ.
دخلَ الضوءُ خافتًا إلى عينيها مع انفتاح جفنيها.
ورأت عالمًا ذا أشكالٍ وألوانٍ واضحة، لا عالمَ نورٍ ذهبيّ.
عندها فقط فتحت عينيها تمامًا.
من دون أن تدري أنّ العالمَ الذي عادت إليه قد يكون الجحيم.
—
أوّلُ ما فاض بين جفني الأميرة كان نشوةَ رؤيةِ مَن تُحِبّ.
لكن ما إن انقشع الظلام، حتى اتّسعت عيناها فجأة.
التضليلُ الذي سمحت به اللعنة تلاشى كضباب.
وكالشمس التي تخرج فجأةً من خلف الغيوم، انكشفت الحقيقة.
‘إنّه الجحيم.’
مع عودةِ بصرها كاملًا، وظهورِ وجهِ الرجل أمامها، أيقنت ييرينا أنّها ماتت وسقطت في الجحيم.
فلا تفسيرَ آخر.
أن ترى وجهَ عدوّها أمامها مباشرةً.
ارتجف جسدُها وهي تفكّر أنّ ذنبَ حبّها لفارسٍ إمبراطوريّ يُعاقَب هكذا.
‘عَيناي….’
كما تجمّدت ييرينا، تجمّد روشان أيضًا.
كان يكفي أن يرى عينيها.
زُرقةٌ صافية لا عتامةَ فيها.
كاليومِ الأوّل الذي رآها فيه.
تدافعت الأفكارُ في رأسه بعنف.
كيف يتصرّف؟
ارتعشت يداه، ولم يستطع حتى أن يتنفّس جيّدًا.
“ا-اغفر لي… يا إلهي.
اغفر… اغفر لي….”
سادَ صمتٌ قصير.
وكانت ييرينا أوّلَ من تحرّك.
حاولت الإفلاتَ من بين ذراعيه، وهي تتضرّعُ.
لكنّ جسدًا انتُشِلَ من الموت بالكاد لم يُطِعها.
وبوجهٍ شاحب، حاولت التحرّك بكلّ ما بقي لها من قوّة.
بدت حركاتُها الضعيفة في عينَي روشان، الغارقِ في الذعر، عنيفةً.
خُيِّل إليه أنّها ستختفي أمامه في أيّ لحظة.
فشدّ عليها بلا وعي.
تصلّبت أناملُه بعزمٍ يائس على عدم تركها.
“آه….”
غمغمت ييرينا متألّمةً، وقد رمشت عيناها تحت شدّة القبضة.
كان الألمُ واضحًا.
وأفاق عقلُها تمامًا بفعلِه.
“آه… آا….”
بدأت تدرك الواقع.
وخرج من فمها أنينٌ غريب.
“ل، لا… ذ، ذلك مستحيل.”
رغم أنّها لم تركض، انقطع نَفَسُها.
والذراعُ الصلبةُ التي تُمسك بها تشابَهت في ذهنها مع الأفعى التي رأتْها في كوابيسها.
أصدرت صوتَ اختناقٍ متقطّع.
وعندها فقط أفاق روشان، وحاول تهدئتها.
“سيّدتي ييرينا. اهدئي….”
كان خطأً فادحًا.
إذ إنّ سماعَ صوتِ مَن تُحِبّ خارج فمِ وحشٍ ذي عينين حمراوين كان فوق طاقتها.
فصرخت.
“آآآه!”
دوّى الصراخ، ووقف الرجلُ مذهولًا.
وانتهزت ييرينا الفرصة، فانفلتت من ذراعيه وسقطت على الأرض.
“آه….”
وهي تتراجع، لمست يدُها راهبةً عجوزًا معصوبةَ العينين.
وعلى مسافةٍ أبعد، رأت رجلًا ذا شعرٍ طويلٍ ممدّدًا ينزف.
من ملابسه وشَعره، أدركت أنّه الإمبراطورُ الذي ضربها.
ومن عصابةِ العينين، عرفت أنّ الكاهنة هي أليسيا.
نظرت إلى جسدها السليم، ثمّ إلى أليسيا.
وفهمت، على نحوٍ تقريبيّ، ما الذي حدث.
“لا! لا! هذا غير صحيح!”
كلّما اكتملت الصورة، ازداد الواقعُ وضوحًا وقسوة.
هزّت رأسها بعنفٍ أمام العينين الحمراوين.
قيل لها إنّ كيان ذو عينين زرقاوين.
لم يُخبِروها عن درجتِها، لكنّه قال إنّه ورثَ الزُّرقةَ عن أمّه.
“كيان… كيان… كيان….”
نادته مرارًا.
صحيحٌ أنّه فارسٌ إمبراطوريّ، ولا يجوز لها أن تُحبّه،
لكنّه ليس ذاك العدوّ.
لم يقتل والديها أمام عينيها.
حماها، وبقي إلى جانبها، واحتواها حين اعترفت بمشاعرها.
ومع تكرارِ الاسم الكاذب، بدا الألمُ على وجه الغازي.
صرخت ييرينا في وجهِ العينين الحمراوين:
“لِمَ تنظر إليّ هكذا؟
الشخصُ الذي أبحث عنه غيرُك! غيرُك!”
بدت وهي تشدّ شعرها مثيرةً للشفقة.
نظرت حولها بعينين دامعتين، ثمّ صرخت وانكمشت، ومزّقت صدرَها.
تجعّدَ فستانُها الممزّق أصلًا، وانزلق.
“أنا… ما الذي… آآه!”
ظهرت خدوشٌ حمراء على جلدها الأبيض.
جروحٌ أحدثتها بنفسها وهي ترفض الفهم.
لم يستطع روشان الاحتمال، فتقدّم.
“سيّدتي ييرينا.”
“اتركني!”
“أرجوكِ….”
“قلتُ اتركني!”
ارتعشت ذراعُها الممسوكة.
ركلته وهي تتلوّى من الألم والاشمئزاز من ذاتها.
“مستحيل… مستحيل…!”
رفعت رأسها ونظرت إلى السقف.
كانت ترى كلَّ شيءٍ بوضوح.
وكان ذلك أكثرَ ما أفزعها.
“لِمَ تفعل بي هذا؟ يا إلهي… لِمَ؟”
كانت الكاهنةُ الإمبراطوريّةُ على حقّ.
أنها ملعونة.
وإلّا لما تُرِكت هكذا.
ضحكت ييرينا ضحكةً عالية، وهي لا تزال مقيّدةً بذراعيه.
لم يبقَ سوى حاكم النور.
ولهذا تُعاقَب هي، الكافرة.
لمعت عيناها فجأة.
ورأت الخنجر.
انحنت ومدّت يدَها.
“ييرينا!”
لكنّه أمسكها قبل أن تلمسَه، وضرب عنقَها بقوّة.
انهارت الأميرة.
وأمسك روشان بها قبل أن تسقط.
ضمّها وهمس:
“الاعتذار لا يكفي….”
سقطت دموعُه.
كان المستقبلُ واضحًا.
إمّا الجنون، وإمّا الموت.
لكن طالما هو هنا، فلن تموت.
وهكذا ستفقد عقلَها.
“سامحيني… كلُّه ذنبي.”
وسقطت دمعةٌ من عينَي الأميرةِ فاقدةِ الوعي.
التعليقات لهذا الفصل "82"