اعترافٌ صادقٌ أُفرِغَ من كلّ القلب.
كانت تلك الكلماتُ أكثرَ ما يودّ الرجلُ سماعَه، غير أنّه في هذه اللحظة تحديدًا كان يتمنّى لو أنّها لا تنطقُ بأيّ شيء.
الكلمةُ التي تخرجُ مع زفرةٍ واحدةٍ كانت تبدو خطِرةً، وكان انطفاءُ نورِ الحياة ظاهرًا للعيان.
“عليكَ أن تنتظر.
لا بُدّ أن تنتظر.”
نهضَ الرجلُ وقد بلغَ به الأمرُ حدًّا لم يعد يسمحُ بالتأخير.
مدّت ييرينا يدَها لتُمسِكَه، لكنّها سقطت سريعًا بلا قوّة.
‘على أيّة حال، أنا ميتةٌ… فلا تذهب.
ابقَ إلى جانبي.’
صرخت ييرينا في داخلها مرارًا: لا تذهب، من دون صوت.
ثمّ، وهي تُمسِك بوعيها المتلاشي بالكاد، قالت للرجلِ الواقف بإلحاح:
“سِرِع… أسرع… اهـ… اهـرب….”
كانت تدرك أنّ احتمالَ نجاته ضئيلٌ، ومع ذلك تمنت أن يحيا.
أن لا يُوسَم بالخيانة ويموت بسببها.
أن يعيش طويلًا سعيدًا، ثمّ لا يموت إلّا بعدما يصير شيخًا أبيضَ الشَّعر.
“أهرب…سريعًا.”
ومع أنفاسٍ متقطّعة لفظت كلماتِها، ثمّ أسقطت رأسَها.
وفجأةً، علا صوتُ تنفّسها الضعيف، وراح صدرُها يعلو ويهبط بسرعة.
كانت تلك إشارةَ اقترابِ النهاية.
كان لا بُدّ من إحضار أيٍّ كان، طبيبًا أو كاهنًا، وبأسرع وقت.
لمعَت عينا الرجلِ الحمراوان.
وفي اللحظة نفسها اندفعَ جسدُه إلى الأمام بسرعةٍ لا تُرى.
انفتحَ البابُ بعنفٍ كأنّه سيتحطّم.
دخلَ الدَّرَجُ مجالَ نظره.
ذلك الدرجُ الذي صعده جنونيًّا من قبل.
وفي لحظةٍ خاطفة، رأى الطبيبَ ملقىً هناك.
إن لم يكن أحدٌ قد عبثَ به، فلا بُدّ أنّ ذاك الشيءَ ما زال في حوزته.
تضرّعَ أن يجدَ ما يبحثُ عنه، وانحنى قليلًا استعدادًا للقفز.
بدأ نورٌ ذهبيٌّ خافتٌ يتسرّبُ من جسده.
وفي تلك اللحظة بالذات، بدا وكأنّ أحدًا كان ينتظر، فظهر أثرُ حركة.
تتبّعت عينا الرجلِ ذلك الأثر وتوقّفتا.
كانت هناك، على مسافةٍ غير بعيدة، كاهنةٌ بيضاءُ بالكامل.
واجهها الرجلُ بحذر.
لكنّ أليسيا تقدّمت نحوه بخطواتٍ واثقة، بلا أيّ أثرٍ للخوف.
“ستحتاجُ إلى قوّتي.”
ازدادَ بردُ نظراته.
كان البرجُ يعجّ بالمرتزقة، فكيف وصلت هذه المرأة سالمة؟
وفوق ذلك، ذاك الموقف.
بدت أليسيا وكأنّها توقّعت هذا الوضع سلفًا.
“الوقتُ لا يسمح.
إن لم تسمح لي بالدخول، فالأميرةُ ستموت.
أهذا ما ترجوه؟”
هل كان ظهورُ الكاهنةِ مجرّدَ صدفة؟
أجابَ الرجلُ نفسَه فورًا: لا.
‘لا يجوز تسليمُ الأميرةِ إلى الكاهنة.’
كان هذا الصوتُ يصرخ في داخله بلا توقّف.
لكن لم يكن أمامه خيار.
استدارَ وفتحَ لها الطريق، وقال بصوتٍ مُرعب:
“إن ألحقتِ بالأميرةِ أذًى، فسألوِي عنقَكِ في الحال.”
ارتسمت على وجه أليسيا ابتسامةٌ معوجّة.
الموت؟
لو كانت تخشاه، لما جاءت إلى هنا اليوم.
من دون ردّ، أسرعت خطواتُها، وجلست إلى جوار الأميرة التي اكتسى جسدُها زرقةَ الموت.
‘على المنتقِم أن يستعدّ لفقدانِ كلّ شيء، وأن يستعدّ للسقوط في حفرةِ الجحيم هناك في الأسفل….’
مدّت أليسيا يدَها نحو الأميرة.
وانفجرَ من قبضتها نورٌ ذهبيٌّ باهر، كأنّه يخطفُ الأبصار.
بدأَ تنفّسُ الأميرةِ الغائبة عن الوعي يعود شيئًا فشيئًا.
وقبل أن تُقدِّم أليسيا كلَّ ما لديها، أغمضت عينيها ونادت أمَّها للمرّة الأخيرة.
‘أمّي.’
امتدّ أمامها معبدٌ يحترق.
أمٌّ فقدت عقلَها، تركضُ ضاحكةً وسط النيران.
كان مشهدُها، وجسدُها يشتعل وهي تضحك، حزينًا أكثرَ منه مُخيفًا.
‘أنقِذونا!’
‘أرجوكم، خلّصونا!’
تداخلت عشراتُ الأصوات في أذنَي أليسيا، مع مشهدِ أطفالٍ يمدّون أيديهم من خلف القضبان.
راحت تتأمّل وجوهَ أصدقائها الذين وثقت بهم، واحدًا تلو الآخر.
‘آااه!’
دخلت شرارةٌ إلى عينها.
تكوّر جسدُها من ألم الاحتراق.
وبرزَ بوضوحٍ مشهدُها طفلةً، تتدحرجُ على طريقٍ مبتلّ بالمطر، تتلوّى من العذاب.
“…أخيرًا، سأتحرّر.”
همست أليسيا بصوتٍ واهن.
لم تَعُد ذراعُها مرئيّة، وقد غمرها الضوء.
تراقصَ شعرُها الأبيض مع النور الذهبي، كأنّه يُجلدُه الهواء.
بدأَ شعرُ أليسيا يسودّ من أطرافه.
كخشبٍ يحترق ويتحوّلُ إلى سواد.
“يـ، يدك! أسرِع!”
حين لم يبقَ من شعرها إلّا ما حولَ قمةِ رأسها، تقيّأت دمًا ونادت روشان.
من دون تردّد، مدّ يدَه.
جذبته بقوّةٍ لا تُصدَّق من امرأة، وأخرجت خنجرًا وطعنت ظهرَ يده.
“كُهَك!”
سالَ الدمُ من يده، وفي اللحظة نفسها انفجرَ الدمُ من فمه.
—
كان الساحرُ الأعمى الذي خانته الأميرةُ المتألّقة من أبناءِ إمبراطوريّةِ ڤيستيوس ، ساحرًا عظيمَ القوّة.
وعندما كان النورُ الذهبيُّ ينبثق من أطراف أصابعه، كانت الأرضُ تنشقّ والبحيراتُ تثور.
ولهذا كان أعداؤه يرتعدون رعبًا، ويطلقون عليه لقب: وحشُ العيونِ الحمراء.
—
الكتابُ الذي جلبه هايدن من مملكةِ سيداس كشفَ المفتاحَ الأخير.
ومن خلال الغازي الذي يجري في عروقه دمُ الساحرِ الأعمى، استطاعت أليسيا فكَّ القيدِ الأخير من لعنةِ أميراتِ سيداس.
‘أليسيا، أنا ساحرة.
ساحرةٌ حقًّا.
يا له من حظّ.’
كانت لعنةً أُعيدت بعد أن نزعتها الأمّ من الأميرة، لكنّ فكَّها الكامل الآن سيصير لعنةً أشدّ.
ستنهارُ الأميرةُ أمام الحقيقة.
وستسقطُ حيّةً في الجحيم.
اكتسى شعرُ أليسيا سوادًا كاملًا.
وسالَ دمٌ أسود من منافذ وجهها السبعة.
“آه…”
وخبا الضوءُ من يدها مع الأنين.
وانكشفَ جسدُ الأميرةِ الذي كان محجوبًا بالنور.
الجلدُ الممزّق بالسياط التأمَ كلُّه.
والأنفاسُ التي بلغت حدَّها استعادت موضعَها.
رغم أنّ شيئًا ما انسحبَ من داخله وتركه واهنًا، ضحكَ الرجلُ فرحًا بذلك المشهد.
وأخيرًا، انطفأ الضوءُ تمامًا.
التفتت أليسيا، التي كانت تنظرُ إلى ييرينا، نحو روشان.
كانت قد هرِمَت عشراتِ السنين في لحظات.
وشابَ شعرُها فجأة، لا بريقَ فيه، بل رمادُ من استُنزِف كلُّ شيءٍ فيه.
“إلى جلالته…”
قالت أليسيا.
كان روشان يعانقُ ييرينا، ثمّ التفت فجأةً وبدت عليه الدهشة.
“…أخشى أنّني أسأتُ إلى جلالته.”
قبل أن يفهمَ ما تعنيه، أسقطت أليسيا رأسَها وقالت بصوتٍ خافت:
“تركتُ للسيّد فريدريك… خيارًا.
لذا، دعوا جال وجول، وتلك الطفلة، وشأنَهما.”
وكان ذلك كلَّ شيء.
سقطَ جسدُ أليسيا إلى الجانب.
وحين همّ روشان بتفقّدها، شعرَ بحركةٍ في حضنه.
“آه…”
تسلّل أنينٌ صغير من بين شفاهٍ حمراء عادت إليها الحياة.
حبسَ روشان أنفاسَه وركّز على ييرينا.
تحرّكت حاجباها قليلًا تحت خصلاتِ الشعر الذهبيّ، ثمّ ارتعشت جفونُها.
وببطءٍ شديد، انفتحَت عيناها، كبحيرتين صغيرتين.
انحدرت دمعةٌ من عينَي روشان وسالت على خدّها.
ناداها:
“ييرينا.”
وكأنّها تجيب، انكشفت عيناها الزرقاوان كاملتين، تعكسان العالم بوضوح.
—
‘لا… هذا مستحيل.’
صرخت هيلينا، التي كانت يومًا أميرةً متألّقة، ثمّ ملكةً عظيمة.
تناثرت حولها كتبُ السحر ولفائفُ اللعنات.
وقفت في وسط الغرفة فوق دائرةٍ سحريّة، تصرخ.
رغم الزمن الطويل والتضحيات، لم ترَ في النهاية سوى اليأس.
‘لا أستطيع.’
بعد أن وعدت أخاها غيرَ الشقيق بفكّ اللعنة، أمضت عشراتِ السنين متشبّثةً بذلك وحده.
لكنّ ما ظهر لها كان حلقةَ لعنةٍ تعودُ كلّما قُطِعَت.
‘أرجوكِ، أختي! ابحثي عن طريقة.
ألم تكوني قادرةً على كلّ شيءٍ في الماضي؟
آه… هؤلاء الأطفال.’
الملكُ المتنحّي، بعدما فقدت حفيداتُه بصرَهنّ واحدةً تلو الأخرى، تعلّقَ بهيلينا ناسِيًا ضغينته.
لكن بدا أنّ نسلَه ونسلَها، الأميراتِ اللواتي يشتركن معها في الدم، لن ينجون من لعنةِ الساحرِ الأعمى.
لم تكن هيلينا شديدةَ التعلّق بأبناءِ أخيها،
لكنّ فكرةَ أن تتوارثَ أميراتُ سيداس الألمَ ذاته الذي عانته بناتها كانت لا تُحتمل.
‘لا… لا يجوز.
لا بُدّ من طريقة.
قبل أن ينتهي عمري….’
لم تستسلم.
حتى وهي تعاني المرض، وحتى وهي تطيل حياتَها بثمنِ التخلّي عن أشياءَ أخرى.
مرّت السنوات.
مات أخوها غيرُ الشقيق، وولدت حفيدتُه طفلةً عمياء.
ناضلت طويلًا، لكنّها فشلت.
ولم يبقَ ما تُضحّي به لتطيل عمرَها.
‘انتهى… إذًا.’
اقتربَ الموت.
جسدُها المتغضّن تمدّد كالجثّة، تبكي وتنوح.
المفارقة أنّ عينيها وحدهما ظلّتا سليمتين، حادّتَي البصر كما في شبابها.
‘هل ارتحتَ الآن؟ أهذا ما أردتَه؟’
تمتمت للساحرِ الأعمى.
وبعد لحظة، حرّكَها آخرُ عناد.
زحفت على الأرض، متجاهلةً الألم.
‘حـ، حتّى واحدة… لن تتحقّق رغبتُك.’
استلقت في وسط الدائرة السحريّة وطعنت قلبَها.
وقبل أن تنفدَ أنفاسُها، أطلقت لعنةً بدمها من أجل أحفادها.
‘لن… تُولَد أميرة.
وبذلك… لن توجد أميرةٌ عمياءُ تتألّم.’
أهي لعنةٌ أم بركة؟
انقطعَ نسلُ الأميرات في بيتِ سيداس.
لكن بسبب نقصِ القوّة، وُلدت أحيانًا أميرات.
ومعظمُهنّ لم ينجُ من المهد.
أمّا من نجا، فقد ورث لعنةَ الساحرِ الأعمى بأقسى صورها.
يا أيتها الأميرةُ العمياء،
ستنوحين تحت وطأةِ لعنةٍ مروّعة.
التعليقات لهذا الفصل " 81"