على خلافِ مَن نجوا من الكارثة في القاعةِ السُّفليّة، كان نوكس وهايدن قد شاهدا سيّدَهما يستخدم تلك القوّة الغريبة مرّتَين من قبل في ساحاتِ القتال.
لكن حتّى في تلك المرّات، لَمْ يكن نطاقُ القوّة واسعًا كما هو اليوم.
حين حُوصِر بعددٍ قليل من المقرّبين وكثيرٍ من الأعداء، وحين قطع عنقَ قائدٍ معادٍ من مسافةٍ بعيدة في إحدى المعارك.
في تلك اللحظات، كلّ ما رأياه كان ومضةً خاطفة من نورٍ ذهبيّ ينبعث من جسد روشان.
غير أنّ ما أظهره سيّدُهما اليوم كان من مستوى آخر تمامًا.
إلى حدّ أنّ معظمَ مَن كانوا في المكان شهدوا النورَ المنبعث من جسده.
هايدن، وهو يبعث في قلبه رهبةً وإجلالًا لقوّة سيّده، تساءل في الوقت نفسه إنْ كان ما حدث اليوم خيرًا لمستقبلِه أم لا.
لكنّ أفكاره انقطعت فور خروجهم من القاعة السُّفليّة، حين ظهر أمامهم تابعٌ لفريدريك، ممزّقَ الحال، يلهث وقد شارف على فقدان الوعي.
‘تَـ… تَسلُّل.
مُتسلِّلٌ إلى… إلى البرج….’
تغيّر وجهُ روشان، الذي كان نقيًّا بلا ذرّة غبار رغم خروجه من بين الأنقاض، ما إن سمع تلك الكلمات.
وانطلق يعدو في الحال.
فلحق به نوكس وهايدن.
لكنّ حركةَ روشان لم تكن حركةَ إنسان.
ذهل هايدن من السرعة التي لم يكن ليلحق بها حتّى لو امتطى جوادًا.
“هايدن.
عُدْ أنتَ ونظِّم الوضع مع جيمس.
من الواضح أنّ الإمبراطور أدخل قوّاتٍ من الخارج.
إنْ لَمْ نُنهِ الأمر سريعًا، سيتعقّد الوضع.”
“وأنتَ؟”
“سأتبع سيّدي أوّلًا.
أعرف إلى أين يتّجه.”
كان كلامُه منطقيًّا.
فلو تذكّر المرء ما قاله تابعُ فريدريك قبل إغمائه، لاتّضح أنّ الإمبراطور، بجرأةٍ متهوّرة، استجلب قوّاتٍ من خارج القصر.
فلو كان قد حرّك القوّات الداخليّة، لَمَا جهلوا ذلك وهم قد أحكموا سيطرتهم على فرسان القصر.
أومأ هايدن، ثمّ استدار وعاد أدراجه.
—
كان روشان يعضّ على أسنانه ندمًا على غبائه.
لقد استهان بأخيه غير الشقيق.
كان يعلم كم هو دنيء وأحمق، ومع ذلك أخفق في توقّع مساره.
حتّى قبل أن يأتي تابعُ فريدريك راكضًا ليخبره بما يجري في البرج، كان روشان يظنّ، بطبيعة الحال، أنّ أخاه منشغلٌ بمحاولة إحكام السيطرة على القصر الإمبراطوري.
فجريمةُ حبسِ كبارِ النبلاء في القاعة السُّفليّة وسحقهم حتّى الموت لم تكن أمرًا يسيرَ التبعات، فضلًا عن أنّ تحرّك قوّات روشان بعد إدراكها للوضع كان أمرًا لا مفرّ منه.
لكنّ أخاه غير الشقيق اتّجه مباشرةً إلى البرج حيث تُحتجَز الأميرة.
وما إن أدرك روشان ذلك حتّى صرّ على أسنانه غيظًا.
‘كيف تجرّأ.’
كان دافعُ الإمبراطور واضحًا إذا ما أُخذت طبيعته بعين الاعتبار.
لقد حذّره روشان من المساس بالأميرة، وجرح بذلك كبرياءه السخيف.
ثمّ زاده غيظًا حين كشف له أنّ الأميرة كانت منذ البداية تحت حمايته، وأنّ الإمبراطور لم يكن سوى دميةٍ لعب بها الإصغاء الأعمى لنصائح الكاهن الأكبر.
وحين عجز عن مواجهته وجهًا لوجه، لجأ إلى الحيلة والقتل، وما إن ظنّ أنّ خطّته نجحت، توجّه لينفث حقده القذر في المرأة الأضعف.
‘كان يجب أن أقتله منذ زمن.’
ندم روشان على إبقائه حيًّا.
وصيّة الأب الأخيرة التي خانها الآن.
كان ينبغي أن يتخلّى عنها في اللحظة التي مسّ فيها الإمبراطور الأميرة بسوء، في اللحظة التي رفع فيها يده لأوّل مرّة على ذلك الوجه الصغير.
‘أرجوكِ….’
واصل روشان الركض وهو يصلّي أن تكون الأميرة بخير.
ومن بعيد، لاح له البرج.
ورأى بوضوحٍ أيضًا حشراتِ الإمبراطور التي كانت تحوم في محيطه.
سِررر.
وفي طرفة عين، كان السيف في يد روشان.
لمع بريقٌ ذهبيّ، وتوهّجت عيناه الحمراوان.
وفي اللحظة التالية، هوى أحد المرتزقة المكلّفين بحراسة محيط البرج، نافثًا نافورةً من الدم من عنقه.
“كُهك!”
—
تشقق.
انشقّ الفستان طولًا من الأعلى إلى الأسفل.
تأمّل الإمبراطور الجلدَ الأبيض المكشوف والجرحَ الطويل، ثمّ لعق شفتيه وهو يُلقي بظلّه فوق ييرينا.
وخز شعرُه الطويل جراحَها في أعلى جسدها.
فتحت ييرينا عينيها نصف فتحة، وحدّقت بلا حياة في الكتلة الذهبيّة المقزِّزة القريبة منها، وهمست في سرّها:
‘هكذا ينتهي الأمر إذًا.
كنتُ أتمنّى فقط ألّا يكون هذا هو الختام….’
أسوأُ نهايةٍ تخيّلتها اقتربت بخطواتٍ حثيثة.
الإمبراطور الذي كان يضرب عشيقته بلا توقّف في الحديقة، وحكمُ الإعدام الذي أُنزل بها آنذاك.
سخرت ييرينا من نفسها وهي تستعيد تلك الذكرى.
‘…ربّما هذا هو الصواب.
سمعتُ كلّ ذلك ولم أستطع التفوّه بكلمة.
جلستُ أرتجف لا أكثر.
إنّه الجزاء.
فكما لَمْ أُساعِد أحدًا، لا يحقّ لي أن أتوقّع من أحدٍ أن يُساعِدني.’
كان الألم ينهش جسدها كلَّه.
ولا سيّما جنبُها الذي رُكِل بقسوة، حتّى إنّ مجرّد التنفّس كان كطعنة سكين.
تمنّت ييرينا أن تفقد وعيها وينتهي كلّ شيء.
أغمضت عينيها.
شعرت بملمسٍ قذر يعبث بجسدها، لكنّ الألم طغى عليه.
تنفّست بصعوبة، تنتظر النهاية.
غابت الذهبيّة عن بصرها، وزحفت الظلمة.
وفي عمقها، رأت أشكالًا وألوانًا واضحة.
‘أبي… أمّي….’
كانوا عائلتها.
ومع ذلك، لَمْ تفزع.
كانت تراهم في هلاوسها منذ زمن.
عائلتها، الواقفون في برك الدم، ظلّوا يطاردونها بإصرار خلال الأشهر الماضية.
في البداية، كانت تصرخ في كلّ مرّة.
لكنّ تكرار الرؤى وطول مدّتها جعلاها تعتاد الأمر.
لم تعد تفكّر إلّا بأنّها تفقد عقلها.
والآن، شعرت بالارتياح.
أن ترى عائلتها قبل الموت، لم يكن أمرًا سيّئًا.
تأمّلت وجوههم بعينين مغمضتين.
لم تكن وجوههم غاضبة كما اعتادت، ولا مبتسمة كما في حياتهم.
كانوا ينظرون إليها بملامحَ هادئة لا أكثر.
‘قاسون أنتم.
كان يمكنكم أن تبتسموا في اللحظة الأخيرة.
لكن لا بأس… سنلتقي بعد قليل، أليس كذلك؟’
تمتمت بذلك بصمت، وارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة.
‘…هل نسيتم الوعد الذي قطعتموه لي؟’
‘…أنا أحبّك.
بصدق.’
لكنّ الابتسامة لم تكتمل.
فقد تموّج نورٌ مألوف أمام عائلتها، وتردّد صوتُ رجلٍ في رأسها.
تلاشت الابتسامة، وفتحت فمها.
“آسفة… ها….”
“ما الذي تهذين به.”
صَفْعَة.
ما إن خرج صوتٌ من فم ييرينا التي بدت كالميّتة، حتّى ضرب الإمبراطور وجهها دون تردّد.
مال رأسها بضعف.
نقر لسانه، ثمّ وضع يده عند صدرها.
كانت وليمةً أعدّها بنفسه، وصيدًا انتزعه أخيرًا من يد أخيه اللعين.
وهو يُشبِع شعورَ النقص المقزِّز في داخله، انحنى الإمبراطور نحو عنقها.
لكن، في تلك اللحظة، دوّت من بعيد صرخاتُ رجال، تلاها صوتُ شيءٍ يتدحرج.
استدار الإمبراطور.
وفي الوقت نفسه، صاح المرتزقة الأربعة المتمركزون خارج الباب بذعر.
“مـ، ما هذا! كُهك!”
“آه!”
سقط الرجال واحدًا تلو الآخر خلف الباب المفتوح، وانفجر الدم، تاركًا خطوطًا طويلة على العتبة.
تجمّد الإمبراطور، عاجزًا عن الحركة، قبل أن يتمكّن بالكاد من تحريك قدميه.
“ما الذي يجري…!”
طَخ.
تعاقبت أصواتُ التحطّم، ومالت الرؤية على نحوٍ غريب.
حاول الإمبراطور الصراخ، لكنّها كانت آخرَ فكرةٍ تخطر بباله.
سقط كجذعٍ صعقه البرق، وتدحرج على الأرض بصوتٍ مكتوم.
التعليقات لهذا الفصل " 80"